برتولوتشي: لقاء |
الأهرام العربي تنفرد بالرسائل الخاصة لمؤسسي السينما المصرية(4/1)
سامي كمال الدين |
لسنا من هواة التقليب في الأوراق الشخصية لأناس رحلوا عن الحياة لأجل تحقيق انفراد صحفي بقدر ما هو بحث عن ذلك الزمن الجميل الذي طوي رغما عنا وفر من عمرنا رغما عنا ولم يعد مرة أخري, مجموعة من الرسائل كانت مختبئة في إحدي الحقائب القديمة في ركام الكراكيب لدي ابنة المخرج الكبير محمد كريم, صفارها الباهت يوحي كم هي ثمينة ولا تقدر بقيمة مهما تطاول عليها الزمن, فهي عصية علي الاندثار, تلخص تاريخ تأسيس السينما المصرية بكاملها, فقد كتبت من وإلي محمد كريم وسليمان نجيب ويوسف وهبي وأمين يوسف غراب, وكامل الشناوي وفكري أباظة ومحمد كامل حسن المحامي, وحكايات عن عبدالوهاب وراقية إبراهيم والسينما في مصر. ياآآه.. رسالة من سليمان نجيب أرسلها من ألمانيا إلي صديق عمره المخرج الكبير محمد كريم.. مخرج كل أفلام محمد عبدالوهاب.. ومخرج دليلة ومخرج أول فيلم ناطق أولاد الذوات يعود تاريخها إلي عام1935 يبشر فيها صديقه كريم بأنه قد خس كثيرا وصار خفيفا مثل خفة دمه تعود إلي عام1935 ورسائل عديدة من وإلي أمين يوسف غراب وفكري أباظة وكامل الشناوي ومحمد كامل حسن المحامي. هو انفراد صحفي يكشف كم كان هذا الزمن جميلا وليس تقليبا في أسرار شخصية لأن أصحابها ليسوا أشخاصا عاديين بل رموز نقف لهم احتراما وتبجيلا كلما لمحناهم علي الشاشة أو عبر كتاباتهم. وقد ولد محمد عبد الكريم في8 ديسمبر عام1900 وسافر إلي روما في21 إبريل1920 ليبحث عن دور حيث كان همه كله منصبا علي التمثيل ثم إلي ألمانيا حيث حصل علي عضوية نقابة الممثلين الألمانية في أول إبريل عام1924 التي تحمل رقم(444).. وقد بدأ حياته الفنية كأول ممثل مصري في روما في فيلم شرف البدوي.. ويعد كريم أول مخرج يخرج فيلما تسجيليا عن حدائق الحيوان لشركة مصر للتياتر والسينما عام..1928 كما أن كريم أول من قام بإخراج فيلم روائي زينب الصامت عن قصة الدكتو محمد حسين هيكل باشا عام1930 كما قدم مجموعة من أهم الأفلام في تاريخ السينما في بداياتها منها أفلام عبدالوهاب يوم سعيد والوردة البيضاء وممنوع الحب ورصاصة في القلب ولست ملاكا ويحيا الحب. أيضا قدم أصحاب السعادة لمحمد فوزي وهو في بداية الطريق وقلب من ذهب لمريم فخر الدين وعماد حمدي كما أن محمد كريم هو مؤسس المعهد العالي للسينما, وأول عميد له حيث أسسه في فبراير عام1959 وجعل هذا المعهد مثل المعاهد الدولية, واختير كريم مديرا عاما للمهرجان الإفريقي الآسيوي الثاني للسينما بالقاهرة عام.1960 يقول الفنان خفيف الظل سليمان بك نجيب1955-1893)) في خطابه الذي أرسله يوم الأحد ظهرا في25 أغسطس عام1935 وعفوا سنحذف بعضا من الكلمات في هذا الخطاب بالذات الذي بدأه بطريقة رائعة: صديقي وأخي العزيز كريم.. أقبلك بسرعة وأبوس أيدين جردا وأقبل نجاة مراتي.. سبحان الله وأزغزغ سعاد وأخي الصديق جبران والأخ إلياس.. وأهدي تسليماتي لكندس.. والجهبذ. والوغد العزيز توفيق بك وحرمه وأقبل جابي وأحي الخدم والحشم مادري وماريا وإيفون. وبعد أتدري ماذا حصل لي يا عدو اللغد, ومحارب الكرش, والـ..... لو رأيتني اليوم وأنا متلقح علي ترابيزة المساج وستة أدشاش ماء ساخن نازله علي جسدي العاري وبجانبي عملاق أرمني يدلك جسمي ثم بعد عشرين دقيقة أقف عاريا ليصب علي لغدي و.... وكرشي إذا كان هناك حنفية ساخنة تقذف الماء بقوة تحركني بالرغم عني.. هذا بالاختصار ما عمد معي حسني أخي خلاف كباية ماء في اللي يضرب الجوكندة علي عينها وهات يا جري. أتدري أن حسني نقص9 كيلو في ثمانية عشر يوما.. تمنياتك ودعواتك ورايا ورايا. يا شيخ اتقي الله. المهم البلد بديعة واللوكاندة فخمة وسأظل هنا حتي يوم الأربعاء أو أقل لأحضر لك خافضا بإذن الله. أزي حال الأكل بعد سفري واخد بالك لطيفة. هه. أنت فاهمني. عبدالوهاب قريب مني جدا وربما زرته يوم الثلاثاء. أرجو الاحتفاظ ببريدي وخطاباتي ودمت يا صديقي المخلص. أخوك المطيع سليمان بشري خسيت600 جرام في حمام واحد والميزان يكدب المناكف.. ورغم مرور حوالي69 عاما علي هذا الخطاب إلا أنه مايزال يحتفظ بحرارته وحيويته وكأن سليمان نجيب كتبه منذ دقائق وكأن الحبر الذي كتب به لم يجف بعد, وقد كتبه من فندق في سافوي.. ولابد أن هذا الخطاب قد ترك علي شفتيك ابتسامة, خاصة أنه من ساخر كبير هو سليمان مصطفي نجيب الذي عاش حياته بالطول والعرض, وفعل فيها ما يريد غير عابيء بالأمور المادية ولا مهتم بها لدرجة أنه كتب لامرأة كانت تأتي له بصواني الكبيبة جزءا من ميراثه بل ورمم لها بيتها, وهو الذي زار فرنسا وإيطاليا وانجلترا والعديد من دول العالم وعمل بالسلك السياسي وعمل مديرا لمكتب وزير العدل وكان قنصل مصر في أسطنبول وسكرتيرا لمجلس الوزراء حتي وزارة علي ماهر, كما أن سليمان نجيب هو أول مدير مصري لدار الأوبرا عام..1939 وبدأ حياته الفنية بكتابة المقالات في مجلة الكشكول الأدبية تحت عنوان مذكرات عربجي وكان أول أفلامه مع محمد كريم وعبدالوهاب عام1933 في الوردة البيضاء واشترك في60 فيلما أخري و30 مسرحية وألف وأخرج أكثر من40 مسرحية وعرب عشرات المسرحيات.. وأثناء توليه دار الأوبرا عمل علي تمصيرها وفتح أبوابها للفرق المصرية بعدما كانت وقفا علي الفرق الأجنبية, وفي عهده عرف المصريون لأول مرة طريقهم إلي دار الأوبرا. وسليمان نجيب من عائلة ذات حسب ونسب فوالده مصطفي نجيب الشاعر والأديب وخاله أحمد زيور باشا ـ من روساء وزراء مصر قبل الثورة ـ وابن عمته الشاعر الكبير أحمد زكي أبو شادي. وللمرأة صاحبة الكبيبة قصة رائعة روعة خطابه هذا رواها شكري راغب في كتاب الباب الخلفي حيث قال: جلست أبكي في السرادق.. ولم يكن بكائي علي الراحل الذي ذهب, بل كنت أبكي صباي وشبابي وذكرياتي, ودنياي كلها.. فقد كان الذي مات أخا لي وأبا وأما وأختا, وكانت حياتي وآمالي وأحلامي.. وفوجئت وأنا ساهم أفكر وأبكي واجتر ذكرياتي في صمت بفتاة حلوة كالوردة صغيرة كالعصفورة, تشدني من يدي وتهمس لي في براءة: ـ تعال كلم ماما؟ ماما!؟ ومن تكون ماما هذه.. ولماذا تريدني أنا بالذات في هذا الوقت بالذات.. ولماذا اختارت ماما هذه المناسبة وهذه الساعة لكي تطلبني للكلام! ولم يطل بي التفكير فقد نهضت من مكاني وسرت خلف الصغيرة الحلوة إلي عربة تاكسي كانت تقف علي جانب الطريق ورأيت داخلها ماما تنزوي في ركن منها حزينة باكية شعرها الأسود الفاحم يغطي نصف وجهها وإحدي عينيها.. وينسدل بعضه علي ظهرها وكتفيها.. وكان وجهها ـ أو الذي انكشف من وجهها ـ يحكي قصة جمال باهر كان لها فيما مضي, ولمحت في عينيها بقايا بريق اطفأته الأحداث والأحزان والمحن. ونظرت إلي السيدة الغريبة في ضعف شديد, وكانت لاتزال تبكي وعبراتها تنحدر فوق خديها راسمة علي بشرتها الوردية خطوطا سوداء من أثر الكحل الذي كان في عينيها. نص خطاب سليمان نجيب إلى محمد كريم وفتحت باب العربة, ومددت رأسي داخلها, وقلت في همس: ـ أفندم. فاجابت بصوت جميل لم يستطع البكاء والحزن أن يخفي جماله: ـ تعرفني؟ وعندما أنكرت ذلك في أدب شديد ذكرت لي اسمها. ولم يكن غريبا علي.. فقد سمعته قبل ذلك أكثر من مرة, وبالذات من الصديق الذي مات سليمان نجيب.. وانفجرت السيدة باكية, وقالت وهي تتشنج بالبكاء: ـ وهو سليمان مات.. مات إزاي.. ده ما قليش إنه هيموت.. ما كلمنيش من يومين! وانخرطت السيدة في بكاء عنيف, ونسيت كل شيء فراحت تتصرف كالمجنونة, وخشيت أن يسمعها أحد في السرادق فألقيت بنفسي في التاكسي. هذه السيدة ملكت سليمان نجيب بصينية الكبيبة, كانت بارعة في صنعها, وكان سليمان يحب الكبيبة ويفضلها علي أي شيء في الوجود.. ولم يكن أحد يعلم سر العلاقة بينهما إلا أنا.. فقد كان سليمان يدردش معي أحيانا عن المرأة ذات الصينية كما كان يطلق عليها, وكان عم نور بواب الأوبرا, هو الذي يتولي حمل الصواني من البيت إلي الأوبرا وبالعكس.. وكان سليمان يتنازل لي أحيانا عن صينيته المفضلة.. حتي يضمن سكوتي, ولم تكن معرفتي بهذه المرأة تزيد علي الدردشة مع سليمان عنها أحيانا.. والتهام بعض الصواني التي يتنازل عنها, ولكن سليمان نجيب جاءني ذات يوم وطلب مني أن أبحث عن مهندس غلبان ليقوم بترميم منزل تملكه سيدة يعرفها, وطلب سليمان مني أن أبذل جهدي حتي لا تتعدي الميزانية مبلغ الـ300 جنيه الذي لا يملك في الدنيا سواه. وبحثت في كل مكان عن مهندس غلبان ليقوم بترميم المنزل بالمبلغ الذي حدده سليمان نجيب, وقبل المهندس الخامس عشر أن يقوم بالمهمة مقابل310 جنيهات, وبالرغم من ذلك رفض سليمان دفع الجنيهات العشرة, وماتزال دينا عليه حتي الآن. المهم في الموضوع أنني عرفت بعد أن قمت بالمهمة أن المنزل تملكه السيدة, وأذكر أني عاتبت سليمان نجيب وفتئذ ونعيت عليه خيبته العريضة التي تجعله ينفق تحويشة العمر علي ترميم منزل سيدة ليس لها من ميزة إلا صواني الكبيبة واستمع سليمان إلي ثورتي صامتا, ثم قال في هدوء شديد: ـ أنت مغفل يا شكري, هي الحياة إيه, مش لقمة نضيفة وقعدة حلوة! وأذكر أيضا أنني لم أقتنع بكلامه وقتئذ, ولكني عندما التقيت بالمرأة ذات الصواني ليلة وفاة سليمان نجيب آمنت بأن نجيب كان علي حق, ولكن هذه الصورة الجميلة التي رسمتها من خيالي للمرأة ذات الصواني لم تلبث أن تلاشت وحلت محلها صورة مشوهة قبيحة فقد التقيت بعد أيام من وفاة سليمان نجيب بشقيقه حسني نجيب, وقد ابتدرني قائلا: ـ تعرف فلانه! ولكني لزمت الصمت, فكرر سؤاله وعندما سألته عن السبب أجابني في غيظ شديد: ـ اتصلت بي أمس. ـ ليله؟ ـ قالت إن سليمان وعدها بجزء من الميراث. ـ وهل ترك سليمان شيئا! ـ لا شيء.. كل الذي تركه269 جنيها, وهي تكاليف الجنازة. ـ طيب وعملت إيه. ـ ولا حاجة.. دفعت لها مبلغا من المال.. لقد وجدت اسمها في مذكرات أخي وهذا يكفيني* في الحلقة القادمة * يوسف وهبي يطلب من كريم عملا, و يرفض قصة لأمين يوسف غراب. * محمد كامل حسن المحامي يعتذر عن خطأ محمد عبد الوهاب. الأهرام العربي في 13 نوفمبر 2004 |