شعار الموقع (Our Logo)

 

مقالات مختارة

حوار صريح مع المخرج السينمائي المصري محمد خان

عمر الشريف يفوز بـ"سيزار" أفضل ممثل

جوسلين صعب:السينما التسجيلية تمنح رؤية نافذة للاحداث

ناصر خمير: أفلامي حلم... وعندما تحلم تكون وحدك

      برتولوتشي: لقاء

رندة الشهال: أهل البندقية يحبونني

تاركو فسكي: بريق خافت في قاع البئر

كتبوا في السينما

 

 

 

 

 

 

البحث عن سينما مصرية جديدة

أشرف الصباغ

 

 

 

 

 

 

 

على الرغم من كثرة الأفلام التسجيلية والتجريبية والروائية القصيرة التي نشاهدها في السنوات الأخيرة، يمكننا بدون مبالغة أن نعلن بصراحة عن عدد قليل منها قد بقى عالقا بذاكرتنا. ولأسباب كثيرة أهمها الإنتاج والتمويل نكتشف المستوى المتواضع، أو بالأحرى السيئ، للأفلام المقدمة سواء في مشروعات التخرج بمعهد السينما أو في التجارب التي يقوم بإنتاجها المركز القومي للسينما. ولكن في الحقيقة فكل ذلك لا يدلل إطلاقا على سوء المخرجين الشبان أو بقية المشاركين في تلك التجارب من ممثلين إلى مصورين وموسيقيين، وبالتالي نكتشف أن لدينا مجموعة هائلة من الطاقات السينمائية المعطلة مع سبق الإصرار والترصد، ويبدو أن "حكاية" الإنتاج والتمويل مجرد خدعة "تبدو مقنعة" جدا، ولكن في الحقيقة: هناك من لا يريد سينما مصرية حقيقية تطرح الأسئلة الصعبة وتتعامل مع القضايا الشائكة بأدوات فنية راقية.

ولعل الفيلم الروائي القصير "أوان البحر" تأليف وإخراج سميح منسي وتمثيل على حسنين ومجدي كامل ويوسف إسماعيل وفانيا إكسرجيان وزينة منصور هو أحد أهم الأعمال السينمائية من هذا النوع، في الفترة الأخيرة، التي يمكن للمتفرج البسيط والمثقف المهموم على حد سواء مشاهدتها والتفاعل معها.

فكرة فيلم "أوان البحر" ليست جديدة، وإنما تمثل أحد أهم الإشكاليات التاريخية والفكرية التي شغلت المثقفين المصريين طوال المائة وخمسين عاما الماضية، إنها ببساطة قضية انتماء مصر: هوية مصر الحضارية بالمعنى الواسع والعميق لهذا المفهوم. من الصعب في هذا الفيلم أن نناقش الفكرة أو المحتوى بعيدا عن البناء الفني السينمائي. وربما لهذا السبب تحديدا استطاع الفيلم أن يحقق المعادلة الصعبة ويحطم مقولة الشكل والمضمون ليبرهن على أن كل مضمون يرتدى شكله الخاص به والعكس صحيح، أو بمعنى أوضح، فكل منهما يقوم بإنتاج الآخر المتلائم معه، وبذلك تتحقق المعادلة الفنية بمعناها الرياضى وبدرجات متفاوتة تتوقف على قدرة المخرج في التعامل مع المتغيرات المطروحة من حيث المضمون والشكل.

إن حضارة مصر بشكل عام، وحضارة الإسكندرية على وجه الخصوص، عبارة عن مجموعة من الثقافات والحضارات المتداخلة والممتزجة التى لا يمكن بأي حال من الأحوال فصلها أو التمييز بينها. وبالتالي تم بناء الفيلم في مجموعة من المشاهد المتداخلة التي تجمع بين الموسيقى والشعر والفن التشكيلي والرقص والتي تعبر في مجملها عن الفكرة حيث يضعنا المخرج أمام اختيار: هل توافقني أم لا؟ إذن لكل منا وجهة نظره! على هذا النحو استطاع المخرج توظيف لغة الصورة بحيوية شديدة تعلن عن وجهة نظر لها أسسها الفلسفية-الفنية-الفكرية. وليس عبثا أن تجري الأحداث فـي الإسكندرية/البطلمية ومع كليوباترة السابعة. فالإسكندرية: مركز الحضارة الإنسانية في تلك الفترة، وهي ليست مصرية خالصة أو يونانية أو رومانية، إنها خليط من حضارات وثقافات كثيرة انصهرت جميعا في مزيج واحد. كليوباترة: يونانية/مصرية تعشق أنطونيو الروماني، وليس هناك من يعرف بعد دوافعها لكل تلك المحاولات والتحالفات والعلاقات، ولكنها مع ذلك واحدة من أهم ملكات مصر البطلمية. من هذا المدخل الشائك يبدأ أستاذ التاريخ القديم بحثه عن حقيقة معشوقته كليوباترة، أو بالأحري في حقيقة معشوقته كليوباترة التي تمثل بدرجة أو بأخرى مصر/الإسكندرية بكل ما تنطوى عليه من خصوصية ثقافية وحضارية. ومن ثم نجد هنا أن وجود مصر ليس مستمدا من العدم وإنما هو عبارة عن مجموعة من الرقائق الحضارية المتراكمة التي ساهمت كلها في ولادة الكائن الحالي.

جاءت المشاهد المتداخلة في هذا الفيلم في إطار شكل من أشكال تداعي الأفكار والصـور، أو الحلم، حيث تتكاثف الصور والأفكار وتتداخل، وتتنامى بشكل إهليلجي متصاعد بنعومة وشاعرية، بينما يلعب المكان دورا رئيسيا إلى جانب الممثلين: فمن قاعة المكتبة بالجامعة إلى الشارع، ثم إلى الحواري الضيقة ومنها إلى البار حيث يعثر أستاذ التاريخ على "سيرينا"-عروس البحر-معشوقته أو تلك التركيبة الممتزجة من أب مصرى وأم إيطالية، ثم إلى البحر ومنه إلى الحلم. لقد برع المخرج في استخدام أدواته أو حيله الفنية حيث الكومبيوتر والساعة التي توقفت عقاربها على الرابعة إلا الربع، ثم تلك "البِليَة" التي تمثِّل البلورة السحرية. هذا الامتزاج بين العلم والسحر/الميتافيزيقا هو مدخل أستاذ التاريخ في البحث عن المعرفة. فهل ينجح في الوصول إليها؟!

إن فكرة الزمن على المستوى الفلسفي تشغل المخرج بشكل رئيسي. فالفيلم يبدأ في الرابعة إلا الربع، وتسير الأحداث في الرابعة إلا الربع، وينتهي الفيلم حيث مازالت عقارب الساعة متوقفة. تتداخل الأحداث لتختلط الصور في العصر البطلمي مع صورة البطل المعاصر بملابسه الحديثة، وتتجاور الصور في العصر الروماني مع الصور في العصرين البطلمي والحديث. هناك أيضا ذلك العربي الملثَّم المقبل من الصحراء ناحية البحر حيث يدهس قدم فتاة عابرة على الشاطئ، هناك أيضا قدم رومانية تأتى من البحر، وهناك سلاح ملقى على الشاطئ. كل تلك العناصر تتفاعل مع بعضها البعض في هارمونيـة ونعومة . لكل طبقة من هذه الطبقات الممتزجة أوجه سلبياتها وإيجابياتها، ولكنها جميعا تشكل وجه مصر الحضاري. ولعل مشهد المسرح الروماني، بدون مبالغة، يمثل واحدا من أهم وأروع المشاهد في السينما المصرية، حيث اللقاء الحميم بين البطل/أستاذ التاريخ المصري والبطلة "سيرينا-عروس البحر"، تلك الخليط المصري الإيطالي الذي نما على شواطئ المتوسط. فماذا يمكن أن ينتج من هذا اللقاء بين أولئك الناس في هذا المكان؟! هذا تساؤل يطرحه الفيلم. إلى جوار ذلك المشهد يأتي أحد أهم المشاهد الفنية السينمائية حيث يقذف البطل ببلورته السحرية إلى أعلى ليظهر على الشاشة كفَّان، وتبدأ رقصة مصرية قديمة رائعة يؤديها البطل والبطلة بانسيابية ونعومة في لوحة فنية تشكيلية في غاية الحِرَفِيَّة والإبهار.

لقد استطاع المخرج أن يستخدم دراسته للفلسفة وخبرته في الإخراج المسرحي ودراسته الجيدة للمفاهيم البريختية ليصنع أشكالا جديدة قائمة على عنصري إثارة الدهشة والاستغراب والإحساس بعدم التوقع. فكل مشهد لا يكتمل حتى نهايته، وكل مشهد لا يسير بشكل منطقى مبتذل واعتيادى في خط مستقيم الأمر الذى يحرض المُشاهد ويدفعه للتحدى وللفهم في آن واحد. كما أن بناء المَشاهد على هذا النحو عمل على توريط المُشاهد روحيا وذهنيا وقام بصياغة علاقة تأملية غريبة بينه وبين هذا الشكل السينمائى الجديد.

من ناحية أخرى جاءت مجموعة التداخلات الفنية، أو بالأحرى ضفائر الأجناس الفنية (الموسيقى-الفن التشكيلي-الرقص-الغناء) مع تداخل الأزمنة (زمن الفيلم-زمن أداء الممثل لدوره-زمن أداء الممثل لكل دور من أدواره في المراحل التاريخية المختلفة بما فيها المعاصرة-أزمنة المَشَاهد السينمائية/اللوحات الفنية التشكيلية-الأزمنة التاريخية المتداخلة)، جاءت لتشكِّل واحدة من أهم اللوحات السينمائية من حيث الجدية والحداثة، وتؤكد على نجاح المخرج في تحقيق طرفي المعادلة الفنية الصعبة، وتكشف عن الفكرة الأساسية للفيلم: مجموعة الرقائق الثقافية-الحضارية-التاريخية التي ساهمت في تكوين ما يسمى بالخصوصية المصرية. أي أن مصر بخصوصيتها هي نتيجة لتلك المجموعة المعقدة من التداخلات، والتي تم التعبير عنها بفنية عالية يمكن أن نطلق عليها ببساطة: الواقعية الشفافة. 

في نهاية الفيلم تسافر البطلة إلى إيطاليا للبحث عن أبيها المصري الذي سافر إلى هناك ذات مرة ولم يعد، في حين تبقى الأم الإيطالية في مصر (حيث أنهم هناك أيضا يعتبرونها سافرت إلى مصر ولـم تعد). وعلى شاطئ المتوسط يجلس البطل مع المثَّال اليونانى عاشق مصر: يتحدثان، ثم يهدي المثَّالُ إلى البطل مفتاح الحياة، ويهمس له: "عليك أن تبدأ من حيث انتهيتُ أنا". وهنا يبرز تساؤل آخر: هل يبدأ البطل بحثه من البحر الأبيض المتوسط (حيث انتهى الفنان-الباحث اليوناني)، أم يبدأ من نهاية المرحلة البطلمية (التى يؤكد الفنان اليوناني على أن هذه المرحلة تنتمي إلى مصر وليس العكس)؟! وخاصة أن الساعة ما تزال متوقفة. وقبل مشهد النهاية يقذف البطل ببلورته السحرية (أداة الرؤية) على سور الشاطئ، تسير في خط أفقي، ثم يوقفها حذاء عسكرى ضخم. ليأتي مشهد البداية: البطل أمام الكومبيوتر وبجواره الساعة التى ما تزال عقاربها متوقفة عند الرابعة إلا الربع . فأي زمن قد توقَّف؟ زمن مصر القديمة؟ أم زمن المراحل الحضارية المصرية المتتالية؟ أم زمن تطور مصر في إطار حضارة البحر الأبيض المتوسط؟  وهل التطور يسير دائما إلى الأمام، أم تحدث أحيانا خطوات إلى الخلف؟

ينتهي الفيلم بنزول التترات على مشهد التماثيل تحت ماء المتوسط كما بدأ بالضبط، لتظل الأسئلة تكبر وتتضخم، ويظل الفيلم علامة هامة على طريق سينما مصرية جديدة، وولادة مخرجين جدد رغم أن سميح منسي ليس مخرجا جديدا، ولكن ربما يجعلنا هذا الفيلم ننتبه إلى الأفلام العشرة التي أخرجها سميح منسي منذ تخرجه من معهد السينما عام 1986 (بعد تخرجه من جامعة القاهرة، كلية الآداب، قسم الفلسفة، عام 1979)، ومنها: الفيلم الروائي القصير "الرجل ذو الشارب والبيبيون"، والأفلام التسجيلية "يوم فى أبو الريش"، و"للذاكرة وقائع"، و"أغنية في المنفى"، و"الفارس والملك"، و"الشيخ يغنى"، والأفلام التجريبية "برودة القلق"، و"رؤيا الشيطان س"، و"الحاد والمرن".

موقع "إيلاف" في 13 نوفمبر 2004