برتولوتشي: لقاء |
تفكيك سريع لفيلم إسرائيلي حول مخيّم جنين مثقفون فلسطينيون في نقاش "أولاد ارنا": سئمنا اليسار الإسرائيلي وخطابه المنافق! نجوان درويش |
هذا فيلم إشكالي بامتياز لتداخل الهويات المتضادة فيه، ومن ناحية موضوعه أيضاً (كتائب شهداء الأقصى في جنين، مذبحة جنين كخلفية) وعلاقة المخرج (جوليانو مير خميس؛ أحد الممثلين الإسرائيليين البارزين، لأب فلسطيني شيوعي وأم يهودية) ووالدته "البطلة الرئيسية" في الفيلم (ارنا، يهودية من البلماخ سابقاً، شيوعية لاحقاً، داعية "سلام" أخيراً، تموت بالسرطان قبل مجزرة جنين) بأعضاء الكتائب(كانوا وهم أطفال تلاميذ في مسرح صغير أقامته أرنا في مخيم جنين) بعد سنوات أطفال المسرح نفسهم سيتحولون إلى مقاتلين في معركة(فلنسمها معركة رغم الخلل الفادح في موازين القوى- جميعهم تقريباً قد استشهدوا) أرنا كانت توثق عملها مع الأطفال بتصوير مستفيض، ابنها وثّق وداع أمه قبيل موتها لأهل المخيم، وثّق موتها أيضاً وكان رجل الكاميرا يتبعه في الطريق إلى ثلاجة الموتى لاستلام جثّتها، يتبعه دائماً... إذن نية الفيلم كانت في بال جوليانو منذ وقت طويل، بل انه استغل جميع المنحنيات الإنسانية ليصنع فيلماً. الصدفة كانت عنصراً أساسياً في عمل هذا الفيلم ولم يكن بامكان أحد غير جوليانو أن يقوم بهذا الفيلم لتراكم الصدف التي وفرت له مادة فيلمه. جرى تقديم الفيلم في الإعلانات مدفوعة الأجر للصحف الفلسطينية والمؤسسات التي عرضته(مؤسسات فلسطينية بتمويل من مؤسسات الأجنبية) في معظم المدن الفلسطينية وحتّى البلدات ومخيمات اللاجئين بالطريقة التالية : "يوسف قام بعملية إستشهادية في الخضيرة عام 2001. اشرف اغتيل على أيدي قوات الاحتلال الإسرائيلية أ ثناء معركة مخيم جنين. علاء أصبح قائد كتائب شهداء الأقصى في جنين حتى استشهاده في شهر نوفمبر 2002. يوسف وأشرف وعلاء كانوا ممثلين في "مسرح الحجر". كان المسرح جزءا من مشروع تربوي بديل أقامته آرنا مير- خميس أثناء الانتفاضة الأولى في مخيم جنين اثر انهيار أجهزة التعليم الرسمية تحت الاحتلال الإسرائيلي. انضم جوليانو، ابن آرنا، إلى أمه في نشاطها مع أولاد المخيم وأصبح مخرج المسرح. طوال سنوات عمله في المخيم قام بتوثيق أمه وأولاد المسرح بواسطة كاميرته. بعد وفاة آرنا أغلق المسرح. بعد مرور سبع سنوات توغلت قوات الاحتلال الإسرائيلية في مخيم جنين وبعد رفع الحصار عن المخيم ببضعة أيام عاد جوليانو إلى المخيم والتحق مع كاميرته بعلاء وهو يقود مجموعة من المقاتلينن. أثناء وجوده في المخيم اكتشف جوليانو مصير "أبناء آرنا" المأساوي.." لكن النقاش الذي أجريناه في مسرح عناد في بيت جالا(كانت إدارة المسرح قد طلبت منّي إدارة حلقة نقاش حول الفيلم) كان له وجهة نظر أخرى حول الفيلم، كظاهرة أثارت اهتماماً في الفترة الأخيرة ولم تثر نقاشاً تحليلياً . ذهب نقاشنا - الذي جرى بعد عرض الفيلم لثلاث ساعات تقريباً- نحو تفكيك مقولات الفيلم في قراءة للظاهر منها والمبطّن . وقد سجلت حلقة النقاش التي ضمّت فنانين ومثقفين ومختصّين في علم النفس وكذلك ناشطين أجانب بريطانيين وفرنسيين مجموعة نقاط أساسية أثبّتها هنا لأهميتها، إذ رغم عشرات العروض للفيلم في فلسطين المحتلة لم يكتب ربع هذه الملاحظات الواعية، التي قيلت في ندوة أطلقت العنان للأسئلة الحرة التي لا تتوفر عادة في الندوات "المحلية" التي يقودها في العادة أشخاص من فئة الموظفين الذين يرتجفون خوفاً على مصالحهم وعلاقاتهم، بحيث صارت هذه الندوات مناسبة لكل شيء سوى الحوار الذي يحضر اسمه ويغيب دائماً. والتسجيل هنا –حتّى ولو كان مختصراً جداً- له أهمية مضاعفة في الخروج من ثقافة المشافهة في الحوار إلى الحوار المكتوب، و النقاط الأساسية - ودون توسع في الشرح- هي : 1. إغفال الفيلم لأية إشارة لأصول لاجئي مخيم جنين، أي كونهم لاجئين بسبب احتلال قراهم ومدنهم سنة 1948 أو 1967، وأنهم تركوا وراءهم حياة كاملة يعيشها الآن بدلاً منهم مستوطنون يهود دون أن يشعروا بعقدة ذنب. وكأن حياة هؤلاء اللاجئين في المخيم هي قضية فقر وظلم اجتماعي وليست قضية ضياع وطن وحقوق وطنية كما يجب أن تكون. 2. الفيلم يظهر "عسكرة الانتفاضة" من خلال تركيزه المبالغ فيه على المقاتلين، وتركيز الكاميرا على أسلحتهم، بحيث يخيّل للمشاهد أن مجزرة جنين قد ارتكبها جيش باتجاه مجموعة مسلحة وليس باتجاه مدنيين عزل وهم معظم أهل مخيم جنين، وهذا التصوير "للسلاح الفلسطيني" لاقى رضاً واستحساناً من قبل تيار في المؤسسة الفاشية الإسرائيلية، باتجاه إيجاد نوع من "التبرير" للمذابح التي ارتكبت بحق أهل مخيم جنين.(قال لنا المخرج-وهذا صدق يسجل للمخرج- في ندوة سابقة قبل أشهر في المسرح الوطني الفلسطيني في القدس أن الملحق الثقافي الإسرائيلي في أمستردام قال له بعد عرض الفيلم هناك: فيلمك رد على فيلم " جنين جنين" لمحمد بكري! ) 3. ركز المخرج على كل ما هو عنيف في المخيم الفلسطيني، نموذج الأم الفلسطينية الذي قدمه الفيلم نموذج يمتاز بصلابة قاسية في التعامل مع فكرة تعرّض أبنائهن للقتل، وهو ما ينسجم مع المحاولات الإسرائيلية لتجريد المقاوم الفلسطيني من إنسانيته، والادعاءات الإسرائيلية التافهة بأن الثقافة الفلسطينية المقاومة هي ثقافة تمجّد الموت! (تذكروا أن الفيلم بالإنجليزية وهو إلى حد كبير موجه لجمهور أجنبي) 4. رأى المشاركون في النقاش أن الفيلم يتضمن دعاية لليسار الإسرائيلي وخصوصاً في الغرب، ووصفوا هذا اليسار بالمنافق والسخيف في ادعائه حب الفلسطينيين، وقالوا بأنهم قد ملّوا من هذه الدعاية والكليشيهات الكاذبة مثل" "نحب الحُمّص العربي" "لي أصدقاء عرب" الخ.... 5. الفيلم لا يظهر أبداً وحشية جيش الاحتلال الإسرائيلي، إذ أن جنود الاحتلال الذين ظهروا في بداية الفيلم عند أحد الحواجز العسكرية كانوا لطفاء جداً أمام الكاميرا، وقد أجمع المشاركون أنهم طوال عيشهم تحت الاحتلال لم يعرفوا جنوداً بهذا اللطف. والذين يمتازون عادةً بساديتهم المفرطة،( فطبيعة المهمة التي يقوم بها جندي الاحتلال هي تعذيب الشعب الفلسطيني بكل فئاته وإحكام الحصار عليه من أجل "كسره وتركيعه"، فجنود الاحتلال يمارسون جرائم يومية كبيرة وصغيرة ضد الإنسان وكرامته وحقوقه) 6. المشاهد التي صورت فيها الكاميرا سلاح المقاومين أكثر بأضعاف المرات من التي المشاهد التي صورت أسلحة الاحتلال، إذ لم تظهر الدبابات إلا في لقطات قليلة، وليس هناك إشارة للطائرات الإسرائيلية التي قصفت المخيم، وهذا في لغة الصورة السينمائية أمر ذو دلالة سياسية. 7. لا يخلو الفيلم من صدق إنساني، وخصوصاً تضامن أرنا في لحظات حياتها الأخيرة كمريضة بالسرطان مع الشعب الفلسطيني، لكن الفيلم وضع هذه العلاقة الإنسانية في سياق آخر تعامل مع الفلسطيني كموضوع. 8. لا يخلو الفيلم من تأثير المنظومة الاستشراقية في التعامل مع الفلسطينيين، إذ أنها تصورهم ككائنات غير مفكرة، تتصرف بشكل عاطفي وترد بشكل غريزي، وان المنظومة الاستشراقية تتحكم في الجزء الأهم من السينما الإسرائيلية وخصوصاً تلك التي تدّعي الخروج على الخطاب الصهيوني الرسمي وتزعم أنها تقدم خطاباً "إنسانياً". 9. أجمع المشاركون على ضرورة تحليل المقولات التي تتضمنها أعمال توجّه إلى المجتمع الفلسطيني، أو يتخذ الشارع الفلسطيني اتجاهها مواقف قبول وحماس(كما حصل لفيلم أطفال أرنا) دون فحص نقدي يساءل ويفكك جميع الخطابات فنية كانت أو غير فنية. 10. لا ينطلق المناقشون من عقلية نظرية المؤامرة، ولديهم الجرأة على المناقشة و التحاور حول أكثر القضايا إشكالية، دون أن يذهب بهم الأفق المنفتح إلى التساوق مع الخطاب الإسرائيلي المنافق أو التخلي عن الوعي الوطني والإنساني. 11. رغم كل النقاط الواردة أعلاه فمخرج الفيلم تعرض للملاحقة والتضييق والمحاكمة من قبل السلطات الإسرائيلية مما يدلل على الطابع البوليسي لدولة الاحتلال التي يتشدق مسؤولوها دائماً بديمقراطيتها المزعومة. وبرز تساؤل عن كون ضيق هامش الحرية داخل إسرائيل والتضييق قد انعكست على عمل المخرج. ونحن هنا نتضامن مع المخرج ضد الحملات الغبية التي تعرّض لها بسبب هذا الفيلم. 12. إن هذا النقد الموجه للفيلم لا يعني أي حكم ضد الفيلم، هذه قراءة فلسطينية للفيلم قد لا تكون كلّها صحيحة، وربما هناك قراءات فلسطينية أخرى، وهذا العمل وغيره قابلان للنقد، ونقد النقد أيضاً. 13. لم نتمكن من دعوة أحد السينمائيين الفلسطينيين ليتحدث عن الفيلم من منظور سينمائي، بسبب صعوبة الوصول إلى بيت جالا، إذ بسبب إجراءات الاحتلال صار الوصول لاسطنبول أهون من الوصول من بلدة فلسطينية إلى بلدة فلسطينية أخرى! 14. يكشف الفيلم عن ظاهرة التعاطي البريء والساذج لبعض أبناء شعبنا في تعاملهم مع الكاميرا وسماحهم للمصورين بالدخول إلى حياتهم دون التفكير بأن هذه الصور قد توظف من قبل أفراد وجهات متحيزة بشكل يسيء إلى شعبنا وقضيته. 15. في اللهجة الفلسطينية الدارجة حين يستعمل رجل الشارع الفلسطيني كلمة "يهودي" فانه يقصد الإسرائيلي ولا يعني اليهودية كدين، لكن الترجمة في الفيلم كانت دائماً تنقلها حرفياً "اليهود" مما يوحي أنه هناك كراهية لليهودية كدين في المجتمع الفلسطيني، وهذا غير صحيح . 16. يستعمل المخرج المصطلحات الفلسطينية في تسمية الواقع، مثل كلمة شهيد ويتجنّب المصطلحات الإسرائيلية، ولكن الرؤية التي توجهه فيها نصيب للرؤية الإسرائيلية للأمور، وهذا شيء متوقع بالنسبة لحالة انشطار الهوية التي يمثلها صانع الفيلم بوعي منه أو حتى بلا وعي. 17. لقد رأى البعض في "أطفال ارنا" "أنسنة" لصورة الفلسطيني، ورأى فيه البعض نصف أنسنة، شيء يمكن تشبيهه بظاهرة المؤرخين الجدد الإسرائيليين، واستراتيجيتهم في تقديم جزء من الحقيقة سرعان ما يقوم بهضمها العقل الصهيوني الكلّي والذي هو المسيطر على روايتهم في النهاية، (لقد كان خطاب المؤرخين الجدد ينطوي على نفاق منذ البداية، تذكروا كتابات بني موريس الأولى وتصريحه الأخير الذي يقطر فاشيةً "كان على بنغوريون أن يصفّي الفلسطينيين بشكل كلّي"). لكن هذا الفيلم يختلف قليلاً بما أن مخرجه فلسطيني الأب، مثلنا تماماً لكن هل هذا يعفيه من المساءلة ويجعله خارج النقد ؟ لا أظن! 18. هذا التحليل لا يتضمن أي موقف شخصي اتجاه المخرج جوليانو خميس، بل على العكس، إننا نقدر جرأته وصدقه في مواقف كثيرة، وأيضاً نقدر الجانب الفني فيه. ولا نقصد بأي حال "المزاودة" عليه، وبالتالي فنقدنا لا يقصد الإساءة بأي حال كما قد يخيّل لبعض من يفهمون النقد على أنه مدح أو هجاء! وربما، أقول ربما يكون هذا النقد موجهاً لحالة سياسية فنية وقد جاء نقاشنا لهذا الفيلم مناسبة لفتح ملفاتها، (فالمعرفة كنشاط هي غير شخصية على الإطلاق، ونذكّر جوليانو بعبارة :"لا تضامن بدون نقد" لادوارد سعيد الذي تمثّل ذكراه رافعة أخلاقية مشتركة وفسحة أمل لإنسانية الإنسان... وأخيرا ثمة إجابات مضمرة على هذه التحليلات سنقرأها في الأعمال القادمة للمخرج، الذي نرجو له أن لا يقع أسيراً لأسطورة ارنا وأولادها! موقع "إيلاف" في 9 نوفمبر 2004 |