شعار الموقع (Our Logo)

 

مقالات مختارة

حوار صريح مع المخرج السينمائي المصري محمد خان

عمر الشريف يفوز بـ"سيزار" أفضل ممثل

جوسلين صعب:السينما التسجيلية تمنح رؤية نافذة للاحداث

ناصر خمير: أفلامي حلم... وعندما تحلم تكون وحدك

      برتولوتشي: لقاء

رندة الشهال: أهل البندقية يحبونني

تاركو فسكي: بريق خافت في قاع البئر

كتبوا في السينما

 

 

 

 

 

 

الشاعرية أمام العيون

قراءة في فيلم مهووس بالنساء وبالرسم للمخرج الكوري ايم كونغ تايغ

عزالدين الوافي *

 

 

 

 

 

 

لفتت السينما اليابانية والكورية أنظار العديد من المتتبعين لمسار التعبير الفني في هذه المنطقة من الشرق. التاريخ والجغرافيا عاملان أساسيان حددا الي مدي بعيد أنماط ومضامين الفن بالقارة الأسيوية عموما، لا بل شكلا هويتها الثقافية. فالحروب مثلا تركت أثرا لا ينسي علي الأدب الياباني، وبالتالي خلقت اتجاها مازال لحد الآن، يدين ويتغذي علي تلك الذاكرة الموشومة بالقتل والتعذيب والاحساس بالموت في كل حين، كما تجلي ذلك من خلال أفلام تاكيشي كيتانو الذي تفيض بمشاهد القسوة والدم بشكل ساد. غير أن الهم السردي نال حظه أيضا، حيث كان من بين الانشغالات الأساسية لهذه السينما في توظيف الحكاية بطريقة شرقية. هذا اذا اعتبرنا أن هناك عقلية غربية وأخري شرقية. فطرق التعبير، وخصوصا في المجال السينمائي، تختلف باختلاف الثقافات والديانات. واذا كنا نلاحظ مثلا أن الأفلام الفرنسية ذاتها، تختلف عن الأفلام الأنغلوسكسونية، فما بالك حين يتعلق الأمر بثقافة الشرق وثقافة الغرب. أسوق هذه التقابلات للتأكيد علي خاصية جوهرية، وهي أن السينما الأسيوية، وخصوصا اليابانية والصينية وكل ما يدور في هذا الفلك، لها طعمها وجمالياتها. ويعتبر المخرج الروسي ايزينشتين من بين الذين حاولوا الاستفادة من هذا الخزان الهائل ومن مسرحه، وطبيعة لغاته ذات المنطق المختلف. لنعد الي الفيلم الذي نحن بصدده. ان مشكلة التعبير الفني عموما، هي تلك الاشكالية القائمة علي التوفيق بين مضمون مؤثر ومقنع من حيث الأفكار والمحتوي، وشكل يبدع داخل لغة ليقدم ذاتا تدرك كيف تبلغ وتتجاوز النمطي والسائد. اذن كيف بامكان السينما، أن تنقل ذلك التدفق القوي لمشاعر البطل وهو فنان بصدد البحث عن نفسه، من خلال تجديد تقنيات وأدوات استعماله للألوان والأحجام والمواضيع؟ كيف أيضا بامكان الفيلم أن يجمع بين المتعة في اختيار المشاهد التي تبهج الوجدان، وفي نفس الوقت تظل وفية لقواعد السرد الفيلمي؟ هذه اشكالية أخري تتعلق أساسا بوظيفة الفن في الاكتفاء بنقل الواقع كما هو، أو خلق مجال أرحب للابداع، باستعمال الترميز والتسريع، أو التبطيء في التصوير؟

أن تتابع المسيرة التاريخية لانتفاضة الفلاحين، وثورة الاصلاحيين واعدام رموزهم خلال سنوات 1850 في كوريا الجنوبية، من خلال معاناة رسام وعاشق للطبيعة، ليس بالأمر الهين سينمائيا. وبقدر ما يتماوج التاريخ من خلال اقطاعييه وجنرالاته، تتراقص أمام عيوننا حيوات خاصة لأناس يلتقطون تفاصيل الحياة اليومية بشخوصها المادية، ورموزها الطبيعية والفنية. في البداية، يعتقد المرء أنه سيجد نفسه أمام شخص يسرد معاناته لتعلم أساليب التعبير الفني لابراز قضيته الأساسية في ادراك وفهم فلسفة الابداع. لكن هم البحث والانشغال بالابداع سيتحول شيئا فشيئا ليصير مبررا موضوعاتيا للربط بين رؤي فرد، وأحداث أمة بأكملها. بل اننا ندرك أن الفيلم يجب أن يقرأ حسب المنطق الجدلي البوذي كمجاز لرموز دينية وسياسية. انشغالات المبدع وهلوسته، ومواقفه السياسية والاجتماعية، ومدي رضوخه أو رفضه للأنماط السائدة في مجالي التعبير الوجودي من خلال اللوحات والرسوم، أولا كذات، وثانيا كفنان، هي من أهم المرتكزات والخيارات التي رصدها المخرج وجعلها من أولوياته. فأن يعبر الفيلم عن جماليات الطبيعة الكورية، وصراع الفنان برجل السلطة كقطبين لهما تصورات مختلفة للأشياء وللحياة، وتبحر بالمشاهد في مجالات الشعر والخط، في الموسيقي واللباس التقليدي بلغة شاعرية لا تسقط في التنظير المحض والشوفيني، ولا في التسويق الفلكلوري. أن تقدم كل هذا بلغة متناسقة كنهر منساب يربط بين حركية السرد، والامتاع البصري ليس مرة أخري أمرا سهلا. واذا كان بعض المخرجين يستقون موادهم والهامهم من رسومات فنانين تشكيليين، فما الغرابة في هذا المزج والتداخل المتعدد بين كل الأشكال التعبيرية ذاتها. ان الأمر يفهم لما نعرف أن المخرج يستفيد من الموروث الثقافي بما فيه من تقاليد اثنوغرافية وتاريخية ليحاول ربطها بالمكون القومي للهوية الكورية.

المسحة الشعرية بلغتها الشفافة، وروحانيتها العصية تتمنع علي الشعر ذاته، وبالأحري علي الكاميرا. فعناصر كالضوء والظل، كالتأطير والتكوين البصري للكل داخل أبعاد معينة، كقوة الألوان وعلاقتها بمصدر الانارة، وموقع الناظر تؤكد علي أساليب موضعة المشهد، أو ما يسمي بالمسافة بين الكاميرا والآخر أكان انسانا أو جمادا، حيوانا أو نباتا. ان طريقة الكتابة من اليسار الي اليمين أو العكس، أو اللاتناسبية في عرض المشاهد يختلف باختلاف ثقافة الغرب عن ثقافة الشرق. فاذا كانت الطبيعة مثلا في الغرب طاقة للاستغلال، ومادة من دون روح، فهي في الشرق تمظهر لقوي الغيب، ومسكونة بكل أنواع الأرواح. ان اهتمام الفيلم، جاء كمحاولة للنبش في تفاصيل سيرة مبدع يقدم مختلف المقومات الجمالية والتقنية لفن الرسم الكوري. وتصبح هذه الرؤية الفلسفية للكون مبررة، لما نعلم مدي أهمية المناظر الطبيعية بجبالها ووديانها، وكيف توظف للتعبير عن مجاز جنسي أشمل.

لقد جاءت مشاهد الفيلم حبلي بتفاصيل الطقوس التقليدية، وبمختلف الأشكال التعبيرية لدرجة تجعلك تحس أنك أمام رقصة علي ايقاع الفلوت، وفي خلفية المشهد خرير ماء وزخات مطر، وخشخشات فرشاة تخدش مساحة عذراء، والكل يتحرك علي تموجات أزهار تنفذ بتمايلها الي أعماق النفس. ولا شك أن مثل هذا الجمع بين الصور المختارة، وفق منظور تشكيلي بارع في دقته، وأصوات منتقاة من الطبيعة، أو لموسيقي محلية بأنغامها وآلات عزفها التقليدية الأخاذة والمعزوفة لخلق نوع من السلام والصفاء الروحي، تجعلك تتيقن أن قضية الكاميرا الأولي، بالاضافة طبعا لمتابعة وتصوير المشاهد والأحداث، هو محاولة دفع المواد لتنطق عن مكنوناتها. وهذه أعلي درجات التعبير الصوفي والبوذي. فالله في كل صغيرة وكبيرة وليس هناك جماد وحي، بل كل شيء يصدح بأصوات الوجود. وعندما يلقن البطل أحد تلامذته فنون الرسم يقول له: انظر لهذه الحجرة الصماء الملساء. انها تبدو وكأنها ميتة، لكن روحا ما تسكنها وتجعلها تنبض بالحياة والحركة . أعتقد أنه من المفروض أن يكون لكل فيلم شخصيته المميزة والمختلفة عن فيلم آخر، من دون استبعاد التناص الذي قد يحصل بفعل الموروث الثقافي والجمالي. صحيح أن بعض الأفلام تتشابه أيضا من حيث السوقية بحكم الاتجاه الذي تصنف ضمنه. لكن ما يبهرك في السينما اليابانية أو الصينية والمنتمية لثقافة وتاريخ متداخل، هو هذا الطعم الخاص في التعامل مع الزمن والتصوير، والسرد المنبني علي تقاطع الأشياء لدرجة يصعب الفصل بينها. سينما تحاول أن تجعل من مكوناتها الثقافية والتاريخية والجغرافية هوية سينمائية اذا صح القول. حيث تدفعك للاحساس بعبق فنونها وفلسفتها حول الحياة والكون، بطرق فائقة الدقة والجمالية. أما اذا كانت تبتغي الكشف عن صراعات الانسان الحديث الذي التهمته الصناعات والوحدة، فتحس أيضا بالصدق في نقل مشاعر الادانة لمجتمع السرعة والكمبيوتر. ومن شدة الانتباه للتفاصيل، وحضور تلك النظرة الشمولية للموضوع باعتباره كلا لا يتجزأ، تحس أن هذا العمل السينمائي أو ذاك ينجز كقطعة موسيقية أو مزهرية من الخزف، أو كأي قصيدة هايكو غاية في التناسق والانسجام. قطعة فنية متراصة الأطراف، ومحكمة البناء والتوازن.

المتتاليات المشهدية تتقدم في فيلمنا وفق تدافعات سردية تتراكم من دون خلل في المنطلقات الأولية للبناء العام للفيلم. وتعمل هذه المتتاليات علي التأكيد علي وحدة الموضوع من خلال الرجوع لمعاناة الفنان وهروبه، عساه يجد ذاته في النساء أو الخمرة، أو الفن. وضمن هذه الرؤية الثلاثية الأبعاد يتقدم السيناريو فاسحا المجال لأحداث تغني من دون رتابة أو حشو أو اطالة. لذلك ينتابك احساس بأن السرد يتقدم وفق ايقاع متراوح السرعة يضاف للنقطة الأصلية ليكتمل المشهد بكل تفاصيله وألوانه. ومما يعمق من الاحساس بجمالية وشاعرية المشاهد التي لا يأتي توظيفها بشكل فرجوي بسيط، وخصوصا في اختيار الكادرات، هو ذلك الانسجام التام مع موضوع الفيلم. تتخلل الفيلم من حين لحين لقطات تنطق فيها الطبيعة بورودها وبساتينها، وتكون ذات متعة بصرية خالصة، وكأنها لوحات أو جداريات مستقلة، لكنها دائما في اتصال مع الاختيار الجمالي الذي سبقت الاشارة له. وبقدر ما تمتعك هذه الأفلام بقوة الرؤية، تجعلك تنساق مع مشاعر تنبثق من لحظات تجل فائق الرقة من خلال تمايل سنبلة عند هبة أول النسيم، أو صعود الغبار عند أول الغيث.

لا غرو أن الثقافة البصرية والسمعية للشعوب تتداخل فيما بينها وتحضر بشكل جلي في التعبير السينمائي، لأنها الأقدر علي نقل مشاعر الأشخاص داخل فضاءات بطريقة متميزة ومشاهدة. ويكون هذا البعد التشكيلي حاضرا، عندما تدرك وتعي الكاميرا كيفيات وخيارات التعامل مع كل حركة وفق منظور معماري معين يحيلك حتما علي المكونات التركيبية لفنون الرقص والخزف والخط، والمعمار والصباغة في تناغم بهي يدفعك للتوقف والدهشة. وبالتالي، فان هذه السينما لا تنشغل بالمواضيع الكبيرة علي طريقة هوليوود، أو طريقة البكائيات العربية. انها تفضل أولا، كسب ثقة المشاهد وتوريطه في الاقتراب الهادئ من ثنايا الفيلم من دون ميلودراما أو استعراضية. ثانيا، تراهن جل هذه الأفلام علي شاعرية اللقطة بحيث أنه بامكانك أن تستمع باللقطة لوحدها سواء من حيث توزيع الضوء، أو من حيث دلالات ألوانها، وتشابك مركبات ما هو أفقي وما هو عمودي بشكل رائع وكأنها عالم فوتوغرافي متماسك ولافح من شدة قوته التعبيرية. ثالثا، تعتمد هذه السينما علي ما هو بصري أكثر مما هو لفظي. وبالتالي، يغدو الحوار مجرد كلمات قليلة مختارة بعناية فائقة لا مجال فيها للزيادة والتكرار. رابعا، وهذه خاصية أخري تنضاف لما سبقت الاشارة اليه، ان هذه السينما، وبالرغم من أنها تتناول قضايا غارقة فيما هو ذاتي وعابر، فهي في الحقيقة وهذا بيت القصيد، تتمكن من النفاذ الي جوهر العلاقات الانسانية كالحب والغيرة والهجران وغياب الحنان باقتصاد في العبارة وبتوسيع في الرؤيا. ولعل فكرة (رب اشارة قد تصبح أبلغ من العبارة) تجد تجسيدا لها في مثل هذه الأفلام.  

* ناقد وسيناريست من المغرب، وهذا مقال من كتاب سيصدر قريبا للمؤلف تحت عنوان لعبة الظلال والأضواء كتابات سينمائية.

القدس العربي في 8 نوفمبر 2004