برتولوتشي: لقاء |
طيّارة من ورق لرندة الشهّال:
عدنان حسين أحمد |
تتميز التجربة الفنية للمخرجة اللبنانية رندة الشهّال طرابلس، 1953 بالصرامة، والحدة، وشجاعة الخوض في موضوعات حساسة جداً. وبسبب هذه الجرأة المقترنة بالنجاح الفني فقد منحتها الحكومة اللبنانية وسام الأرز وهو أرفع وسام لبناني يمنح للمبدعين الذين يقدّمون عطاءً متميزاً ويثرون الحياة اللبنانية في المجال الثقافي أو السياسي أو الاجتماعي . كما حصلت الشهال علي جائزة الأسد الفضي في الدورة الستين لمهرجان فينيسيا العالمي لعام 2003، الذي يُعد من أعرق المهرجانات السينمائية في العالم. شارك هذا الفيلم في مهرجانات عالمية متعددة أبرزها كان، وبرلين، وروتردام، والقاهرة. وفي تونس أختيرت طائرة الشهال كي تكون فيلم الافتتاح لأيام قرطاج السينمائية لهذا العام. وجدير ذكره أن وسائل الاعلام العربية قد أثارت سجالات حادة، بعضها ينطوي علي أسئلة ثقافية، وفنية، وفلسفية، وبعضها الآخر لا يتعدي حدود الزعيق السياسي الأجوف، والمزايدات الممجوجة الناجمة عن قصور في الفهم، وعجز عن تلقي الرسالة الحقيقية للفيلم علي الصعيدين الفني والفكري. مقترحات المجاز وايحاءات الحقيقة يحتشد فيلم طيارة من ورق بالعديد من الرموز والاشارات المجازية المعبّرة التي تهدف الي اثارة مخيلة المتلقي، وقذفه في أتون السياقات الفنية والفكرية للصور والأحداث التي تتري أمام ناظريه. ولكي نغوص في هذه المدلولات الجمالية والفكرية للفيلم بوصفه خطاباً بصرياً وذهنياً في آن معاً ينبغي علينا أن نتتبع سياق الحدث الدرامي، وطريقة تصعيده، وصولاً الي النهاية المحيّرة التي أدهشت المتلقين. لابد من التنبيه الي أن الخلفية الثقافية لرندة الشهال هي خلفية يسارية تنتصر لانسانية الانسان أولاً، وتصطف الي جانب عيشه الكريم علي أرضه، وبين ظهرانيه، وربما لم تكن هذه الموضوعة تثير أحداً لو أنها تناولت أية شريحة اجتماعية ضمن حدود الوطن العربي، غير أن تناول أية قضية لها علاقة قريبة أو بعيدة باسرائيل سيثير ما أثارته طائرة الشهال الورقية أو غيرها من الأفلام التي أُتهم مخرجوها بالتطبيع، والاعتراف بالدولة العبرية، وخيانة الضمير القومي، وما الي ذلك من تُهم جاهزة سبق وأن وُجهت الي حنا الياس مخرج موسم الزيتون وخالد الحجر، صاحب حاجز بيننا وايليا سليمان، بسبب اخراجه يد الهية وعلي نصار صاحب الشهر التاسع وآخرين. لا شك في أن القصة التي كتبتها الشهال نفسها هي قصة جريئة في عالمنا العربي في الأقل، فنحن العرب نخشي من الخوض في موضوعات حساسة لأن حجم التُهم الجاهزة كبير بمكان بحيث تُحلِل الفتاوي سفك دماء من يُطبِّع علاقته مع اسرائيل وهناك أمثلة كثيرة يصعب حصرها ولعل أبرزها عملية اغتيال الرئيس السادات علي هذه الخلفية التطبيعية التي تخضع لشروط السلام الناقص والمُذل . القصة تتمحور حول مثلث مكوّن من لمياء فلافيا بشارة ، وسامي أحد أقاربها يعيش في الأرض المحتلة، ويوسف ماهر بسيبس المجنّد الدرزي في جيش الاحتلال الاسرائيلي. وهناك شخصيات أخري مهمة علي رغم دورها المحدود، كالضابط الدرزي زياد زياد الرحباني الذي يعيش علي ذكريات قصة حب مؤودة، ويفلسف الحياة بطريقة لا تخلو من طرافة وكوميديا سوداء سواء في أثناء أحاديثه التهكمي الساخرة مع عشيقته أو مع المجند الدرزي يوسف. والطفل، أخ لمياء نايف ناجي الذي لعب دوراً مهماً في تعميق العلاقة الانسانية بينه وبين أخته التي يمحضها حباً من نوع خاص. أو والدة لمياء رندة الأسمر أو ابنة خالتها جميلة جوليا قصّار التي تقدّم بها العمر ولم تتزوج لحد الآن، وسواها من الشخصيات الأخري التي أغنت الفيلم، وعمقّت من دلالاته الرمزية الكثيفة. لقد تعمّدت المخرجة أن تغيّب شخصية سامي، قريب لمياء الذي يسكن في الجانب الآخر من القرية والذي احتلته اسرائيل منذ حرب 1973 وابتلعت الجولان السوري ومزارع شبعا وبعض القري اللبنانية، ولم نرَ قريبها الا في شريط الفيديو بينما كانت لمياء تصفه بألفاظ بذيئة تدلل علي كراهيتها لهذا الفتي الذي لم يرها من قبل، ولم يعرفها هو الآخر عن كثب. وهنا يجد المتلقي نفسه أمام موضوعة الزواج القسري الذي يفضي الي القمع، والقهر، والفشل الذريع، والنهاية المفجعة. ورندة بوصفها مخرجة يسارية الثقافة والتوجّه لا تزوّق هذا النمط المتخلف الذي يقوم علي الاكراه، وتغييب دور المرأة، لذلك جعلت من سامي أيضاً شخصاً رافضاً لهذه الزيجة، بل أنها حرضته علي التصريح بحقيقة مشاعره الداخلية التي لم تمِل اليها، فهو لا يحبها أيضاً، وأكثر من ذلك فانه عرض عليها مساعدته للعودة الي قريتها، لكنها رفضت هذه المساعدة لأنها تروم البقاء قرب يوسف، المجند الدرزي في الجيش الاسرائيلي. وهذا الانعطافة في حياة لمياء هي التي جعلت بعض النقاد والناس المؤدلجين أن يقولوا بأن رفض لمياء في العودة الي قريتها غير المحتلة هي قبول صارخ بفكرة الاحتلال، أو أنها وجدت نفسها في الجزء المحتل من القرية، متناسين ما تفعله قوة العاطفة الصادقة اذا ما اتجهت صوب شخص معين يمحضها حباً جماً الي درجة أنه عرّض حياته لخطر جسيم حينما أوشك بعض الجنود الاسرائيليين أن يطلقوا عليه النار ويردوه قتيلاً. لقد رفضت لمياء الزواج من قريبها سامي، وقررت في دخيلتها أن تقترن بمن تحب، ثم بدأت التفكير بصوت عالٍ، وقطعت غير مرة حاجز الأسلاك الشائكة، وذات مرة أتاحت لنا الشهال اللحظة العاطفية التي تأججت فيها مشاعر الحبيبين عندما مست أصابع كفه أصابعها وشعر بأن روحه تحّل بروحها الولهي المتسامية. تحمل لمياء، كما قدّمتها لنا كاتبة السيناريو ومخرجة الفيلم، بذور التمرد، ومعطيات الشجاعة، والنزوع الي المجازفة، فمنذ اللقطة الافتتاحية للفيلم نراها وهي تتقدم بجرأة وثبات صوب الأسلاك الشائكة، وتلج الأرض الحرام لتجلب الطائرة الورقية غير آبهة بتحذيرات الجنود الاسرائيليين. في جانب آخر من القصة، وأنا أراه أكثر أهمية من غيره، لأن القصة تسلط الضوء علي حياة الموحدين الدروز الذين يقطنون منطقة الجولان وبعض مناطق الجنوب اللبناني. صحيح أن المخرجة قد ألمحت الي بعض أسرار هذه الطائفة، منها أنهم يمنعون ارجاع المطلَّقة . ولهذا لم ترجع لمياء الي قريتها خشية من نتائج هذا المنع الشعائري أو الديني. وقد رأينا من خلال الفيلم بعض مجالس الآباء والأمهات بأزيائهم الدينية، لكننا لم نتعرف علي طقوسهم، وشعائرهم الدينية، وقناعاتهم، وطرائق عيشهم، وفلسفتهم في الحياة أو الوجود برمته. فهم يحرّمون التزاوج مع غيرهم، كما يمنعون تعدد الزوجات، ويعتقدون بألوهية الحاكم بأمر الله، وهو الخليفة الفاطمي أبو علي المنصور بن العزيز بالله بن المعز لدين الله الفاطمي، والذي يُعد محور العقيدة الدرزية، وهم يعتقدون بغيبة الحاكم بأمر الله في أثناء موته ويؤمنون بعودته. لاحظ أوجه التشابه بين غيبته، وغيبة الامام المهدي المنتظر، وعودته المرتقبة ليملأ الأرض عدلاً بعد أن ملئت ظلماً وجوراً . كما يعتقد الموحدون الدروز بأن ديانتهم نَسخَت كل الديانات السابقة، ويفتخرون بالانتساب الي الفرعونية القديمة، ويعتقدون بأن عقيدتهم نابعة من حكمة الهند، ويؤمنون بالتقمّص وتناسخ الأرواح، وينكرون الجنة والنار، ومبدأ الثواب والعقاب الأخرويين، ولا يقبلون انتساب أحد الي دينهم، ولا يسمحون لأي درزي موّحِد بالخروج منه كما في الديانة الصابئية المندائية المغلقة ، وفضلاً عن ذلك فانها تؤمن بسرية أفكارها، فلا تنشرها علي الناس، ولا تعلّمها لأبنائها الا اذا بلغوا سن الأربعين . كما ذهب الأستاذ محمد أحمد الخطيب. لا أدري اذا كانت المخرجة رندة الشهال تعرف جيداً طائفة الموحدين الدروز، أم أن معلوماتها محدودة في هذا الشأن، وبحسب علمي فان قصة الفيلم مستوحاة من تحقيق تلفازي أُعِد عن الجولان المحتلة، وقضية الزواج بين الطائفة الدرزية التي يعيش بعضها في ظل الاحتلال، والبعض الآخر في القري السورية واللبنانية؟ وثمة تساؤل آخر يتعلق بالجانب الاسرائيلي مفاده: لماذا تُصّر حكومات اسرائيل المتعاقبة علي تجنيد الموحدين الدروز تجنيداً الزامياً، ولماذا تختارهم لأداء الخدمة العسكرية علي الحدود المتاخمة لسورية ولبنان، ولماذا يتعرض السجناء الفلسطينيون خاصة والعرب عامة الي التعذيب علي أيدي الجنود الدروز في السجون والمعتقلات الاسرائيلية؟ هل أن مرّد هذه القسوة لأسباب دينية تنسجم مع الأطروحات والتوجهات الاسرائيلية القائمة علي انكار القرآن الكريم، فهم يقولون أي الموحدون الدروز بأن القرآن هو من وضع سلمان الفارسي، ويعتقدون بأن القيامة هي رجوع الحاكم بأمر الله الذي سيقودهم الي هدم الكعبة، وسحق المسلمين والنصاري في جميع أنحاء الأرض، وأنهم سيحكمون العالم الي الأبد، ويفرضون الجزية والذل علي المسلمين . كما يؤكد محمد أحمد الخطيب أيضاً. لو وضعنا هذه الأسئلة الجوهرية جانباً، وتمعنا في شخصية المجند الدرزي يوسف، فهو مخلص للقيم والمبادئ الاسرائيلية، ويبدو من خلال الفيلم أنه كان يؤدي واجباته العسكرية علي أكمل وجه. فهو يسجل كل المكالمات عبر مكبرات الصوت بين الجانبين، ولا تفوته شاردة أو واردة، ولعله أفاد من خلال هذا الواجب الاستخباري في معرفة كل أسرار هذه الفتاة التي أحبها وأحبته بصدق، كما كشف لنا من خلال تعلقه بلمياء قصة حب الضابط الدرزي زياد لفتاة درزية أخري حتي وان كانت قصة حب مُحبطة وفاشلة، فعبر هذا الفشل كنا نتعرف شيئاً فشيئاً علي فلسفته، ونظرته العميقة للحياة، وتعاطيه معها من خلال الاستغراق في الخمرة والشرود الذهني الدائم. هل كان يوسف مخلصاً لتأدية واجبه العسكري، ومخلصاً في الوقت ذاته للمياء، وطائفته الدرزية؟ كانت لمياء جريئة في اختيارها، اذ استطاعت أن تطوّر هذا الحب، وترعاه، وتكشف عنه حتي من خلال عريها أو الكشف عن مفاتنها الخبيئة، بينما كان يوسف يلهث خلف عدستي الناظور العسكري وهو يراقب أنفاسها الصاعدة والنازلة. من الايحاءات الحقيقية التي تنطوي علي شحنات قوية هي موافقة حراس الحدود علي مرور موكبين لا ثالث لهما وهما الأعراس والجثامين، الأمر الذي يمنح الفيلم بعداً درامياً يلامس أعماق المتلقي، ويبث فيه شحنة من التوتر والانفعال. في القرية الدرزية المحتلة ثمة معالم للتطور والحياة المدينية اللافتة للانتباه مثل وجود جهاز الكومبيوتر في منزل سامي أو المسبح الذي يستحم فيه بعض الدروز بحرية تامة تنسجم مع الانفتاح الأوروبي خلافاً للقرية الدرزية الأخري الكائنة في الجانب العربي والذي يخيّم عليه الفقر المدقع، والبؤس الذي لا تُخطئه العين اللمّاحة. النهاية الذكية علي رغم الانتقادات الشديدة التي وُجهت الي الفيلم من الناحيتين السياسية والفكرية الا أنني أري أن هذا الفيلم الذي يدعو الي السلام من دون تنازلات مُذلة هو فيلم ناجح، وذكي، وقادر علي التعاطي مع الآخر بواقعية شديدة، وعقلانية صارمة، وبتكثيف رمزي وصريح في أن معاً. فعندما يختلط الحلم بالواقع، وينفجر اللغم تحت قدمي لمياء، نراها ثانية في برج المراقبة مع حبيبها يوسف، وهي تطلب منه أن يخلع بدلته العسكرية التي تحمل شارة الجيش الاسرائيلي، كما تطلب منه أن يخلع حذاءه العسكري أيضاً لكي تنتمي اليه قلباً، وعقلاً، ورؤية فكرية، فالطائرة الورقية التي كانت تحوم فوق رأس يوسف انما هي روح لمياء، ومشاعرها الحقيقية التي تحلق في سماء الحب المضمخ بالمشاعر الانسانية الصادقة التي تجمع حبيبين فرّقت بينهم حروب قاسية تبدو وكأنها لا نهاية لها. وربما تكون وجهة نظر الناقد المصري سمير فريد هي الأقرب الي الصواب حينما يقول وقصة الحب بين لمياء والجندي الاسرائيلي الدرزي يوسف تعبّر عن الدعوة الي السلام بنفس درجة ادانة الاحتلال وادانة التقاليد العتيقة. فكونه مجندا اسرائيليا لم يمنعه من حب لمياء. ولم يمنعها من حبه. بل أنها تفضله علي سامي. والمعني الواضح ليس فقط أن فرض التجنيد الاجباري علي الدروز لم يفقدهم هويتهم. وانما أيضا أن العرب واليهود في اسرائيل يمكن أن يتعايشوا ويجب أن يتعايشوا طالماً أنهم يعيشون علي نفس الأرض، ولكن السلام لن يتحقق مع الاحتلال . لا أظن أن رندة الشهال تسعي الي الشهرة والذيوع عن طريق هذا الغزل السياسي غير المُستحب، ولو كان الأمر يتعلق بالحصول علي الجوائز العالمية لما رفضت احدي الجوائز التي قُدمت لها مناصفة مع مخرج اسرائيلي. في هذا الفيلم ثمة مشكلة حقيقية متأصلة يعاني منها الكثير من العرب الذين يعيشون في المناطق العربية المُحتلة بحيث أصبح أناسها يقاتلون بعضهم البعض كما حصل تماماً في قصة هذا الفيلم. لقد أدانت الشهال الاحتلال، ورفضت مجمل ممارساته التعسفية، ولكنها في الوقت ذاته كانت تدعو من خلال ثيمة الفيلم الي سلام مشرّف، عادل، لا يغمط حق أحد، غير أن هذه الدعوة جاءت هذه المرة عن طريق خطاب بصري راقٍ، وليس عن طريق بيان سياسي زاعق. هذا الفيلم مليء بالمجازات والرموز القوية التي تعمّق من معناه، ولعل تحليق الطائرة في الأرض الحرام هي تأكيد واضح للعودة الي القرية المحتلة والتي هي أنموذج مصغّر للوطن المحتل. من الناحية الفنية لا يمكننا التغاضي عن بعض الممثلين الذين تألقوا في تأدية أدوارهم مثل فلافيا بشارة، وزياد رحباني الذي وضع موسيقي الفيلم الرائعة التي انسجمت مع مجمل الأحداث، والتطورات الدرامية برمتها، وماهر بسيبس، وجوليا قصار، ورندة الأسمر. ولابد من الاشارة الي أن التصوير كان مُتقناً في لقطاته التي حملت الكثير من الاثارة والجمال والبعد البصري الذي هيأته للمشاهد من خلال تصوير اللقطة الواحدة بأكثر من كاميرا. لقد أثارت الشهال من خلال هذا الفيلم أسئلة فكرية وسياسية واجتماعية مقرونة برؤية حقيقية صادقة عن معاناة أناس عرب يعيشون أجواء الاحتلال المرعبة، ويكشفون عن آثاره النفسية المُدمرة التي لم يتعرض لها أي شعب في الوقت الحاضر باستثناء الشعب الفلسطيني. أنجزت الشهال منذ عام 1979 وحتي الآن عدداً من الأفلام التسجيلية من بينها خطوة.. خطوة ، و لبنان ارادة حياة ، و سهرة مع الشيخ امام و حروبنا الطائشة و سهي بشارة، صورة مقاومة و الكفرَة شاشات من الرمل و الخائنات و متحضرات وفيلمها الروائي الطويل طيارة من ورق 2003 الذي نال حقه من الدراسة والنقد والتحليل والجوائز العالمية المهمة التي تتناسب مع قامة الفيلم فنياً وفكرياً. القدس العربي في 5 نوفمبر 2004 |