برتولوتشي: لقاء |
فيلم "خضوع"
أمستردام - عدنان حسين أحمد |
حرية الاختلاف ثمنه طلقة! مازن الراوي الثاني من نوفمبر ـ بداية هذا الأسبوع ـ اهتزت هولنده من الأعماق : لقد اغتيل المخرج السينمائي والداعية الإعلامي ثيو فان كوخ ـ 47 عاماً ـ. (وهو قريب بعيد لرسام القرن التاسع عشر الهولندي فنسنت فان كوخ)، جرى طعنه وإطلاق النار عليه في وضح النهار فسقط وسط الشارع في العاصمة أمستردام. وكما أفادت الشرطة وشهود عيان بأن راكباً على دراجة طعن المخرج السينمائي وهو يهم بالنزول من سيارته، ولكنه تحامل على نفسه مضرجاً بدمه. إلاّ أن الشخص الذي استهدف اغتياله أردفه بطلقة نارية أودت بحياته. لم يكن ما حدثَ مشهدأً سينمائياً. لقد أدرك المشاهدون، من اللحظة الأولى، بأنها جريمة. بل هي جريمة فظيعة لا يفكر الإنسان الهولندي العادي بارتكابها مهما قسا قلبه وركبته الإيديولوجيا السياسية أو الدينية. من الذي قتل ثيو إذاً؟ الشخص المتهم الذي يبلغ 26 عاماً من العمر يحمل جوازاً هولندياً ولكنه مغربي ! وكما أفادت الشرطة أن المتهم تمكن بعد الجريمة من الهرب إلى حديقة مجاورة لموقع الجريمة، وبعد تبادل إطلاق النار ألقيَ القبضُ عليه. ووفق أقوال شهود عيان تحدثوا إلى إذاعة رقم 1 وإلى تلفزيون ان. او. اس، إن المهاجم من المرجح عربي، أو أنه شخص ما ارتدى زياً إسلامياً. ووفق شهود عيان أيضاً بأن القاتل ترك رسالة في موقع الجريمة مكتوبة باللغة العربية لم يعرف مضمونها حتى الآن. وعلى الرغم من الجدل المثار حول شخصية المخرج السينمائي والرجل الإعلامي فان كوخ فقد حزنت عليه هولندا واعتبرت جريمة الاغتيال فعلة شنيعة وعملا لا إنسانيا ولا أخلاقيا، وهو عمل منافي للتقاليد السمحة السائدة في المجتمع الهولندي، تلك التقاليد التي لا تعرف التعصب والأحقاد لتودي بحياة الآخر. وبالتالي فان الجريمة طعنت كل الهولنديين. وقالت صحف عديدة بأن هذا " التقليد" ـ قتل وتصفية الآخر لمجرد اختلاف في الرأي ـ لم يجري في البلاد، بل على العكس كانت اختلافات الرأي وجدل الأفكار منذ عقود كثيرة مصدراً للتنوع وللإغناء، و لم يرتقي قط إلى مصاف الأحقاد التي تودي بحياة إنسان مثقف. و يعتبر الهولنديون الاختلاف والتناقض في المواقف وفي الأفكار حالة صحية تراكم تجربة المعايشة الممكنة في مجتمع متعدد الثقافات، يغتني بتعدد الآراء والأفكار التي تخلق مجتمعاً ثقافياً تعددياً. لقد أثار فان كوخ، بداية هذا العام، جدلاً ومناقشة صاخبة حول فيلمه الأخير "خضوع". وهو يثير مثل هذا النقاش في معظم أعماله وكتاباته التي ينهج فيها نهجاً يمينياً متطرفاً. وينتقد دوماً النازحين الذين لا يتلاءمون مع تقاليد المجتمع الهولندي فيما يطالب بتذويبهم في المجتمع، واصفاً إياهم بالتعصب. وفي فيلمه الأخير تحدث عن اضطهاد المرأة المسلمة الذي يجري في المجتمع الإسلامي باسم الإسلام. ويصور فان كوخ، على نحو استفزازي لقطات وأحداثا منافية للعادات والتقاليد وللرموز الإسلامية. وهكذا يمكن أن يشاهد في فيلمه امرأة نصف عارية من الخلف تحمل وشماً مكتوباً مأخوذاً من آية قرآنية. وتعتبر مثل هذه المشاهد في التقاليد الثقافية الفنية والأدبية الأوربية موروثاً إبداعيا في سياق النص المغاير الذي يستهدف التحريض والاستفزاز ويعبر عن موقف مغاير. ويعرف الأوربيون مواقف العديد من الكتاب والمبدعين والمفكرين الذين يسخرون من الكنيسة ومن التقاليد المسيحية، بل يعلنون إلحادهم. وليس نيتشه، على سبيل المثال، إلاّ واحداً من الذين حارب الدين المسيحي بلا هوادة واعتبره من الأسباب الرئيسية في انحطاط الإنسان. كما يعرف المجتمع الأوربي تراثاً عريضاً من النقد للقيم والأخلاق التي تمس الدين والمتوارث الاجتماعي والثقافي. ولكن أن يثير هذا الفيلم كل هذا الغضب بين الجاليات الإسلامية ويؤدي ربما إلى القصاص بالموت فهو أمر غير مفهوم وغير مبرر مطلقاً. وكان نص الفيلم قد كتبته النائبة اليمينية في البرلمان والناقدة الإسلامية عيان هيرزي علي المنحدرة من أصل صومالي. و قد تلقت سوية مع المخرج فان كوخ تهديدات عديدة بالقتل، مما دفع الشرطة إلى توفير الحماية لهما. وهزت عملية الاغتيال أوساط المثقفين فأبدوا استغرابهم واشمئزازهم من أسلوب معالجة الاختلاف بالتصفية الجسدية " كما لو كنا في القرون الوسطى ". وعلى أعلى المستويات، عبرت الملكة بياتريس عن الصدمة من جراء حادث الاغتيال. كما روع رئيس الوزراء بيتر بالكنيندا ووصف فان كوخ بأنه شخصٌ " مناضل مميّز من أجل الكلمة الحرة والرأي الصريح " وشبهت وزارة الخارجية عملية الاغتيال بقتل السياسي اليميني بيم فورتوين قبل عامين، فيما حذّر بالكنيندا من إلصاق التهمة قبل انتهاء التحقيقات والاعتماد على استنتاجات سياسية. وقال " إذا ثبت أن الاغتيال قد تمَّ على خلفية سياسية، ولأنه عبَّر فقط عن أفكاره على نحو حر، فأن الأمر يتخذ منحى الكارثة. وسوف يسود جو من الرعب يجعل الناس ترتعب من الإرهاب ". وقد أدان العملية أيضاً ممثلو الجالية الإسلامية المقيمة في هولنده. وبذلك قال أيهان تونجه " إنني أجد أفكار فان كوخ بصدد الإسلام فضيعة وكريهة، وهي أفكار تؤذي المجتمع الإسلامي. لكنني لا أجد سبباً وجيهاً أو تبريراً لاغتياله " لقد تغلغلت الصدمة عميقاً في نفوس الهولنديين وبدأوا منذ ساعة اغتياله يضعون الورود في موقع الجريمة. وقد حزن على موته حتى أولئك الذين اختلفوا معه في الرأي وشنوا على أفكاره حملة واسعة مضادة. إنه بالتالي ضحية اغتيل بسبب من موقفه الفكري. ويناقش الوافدون إلى مكان الجريمة حول مناخ التسامح في البلاد ومن يهدد هذا المناخ ويتذكرون بأن شيئاً ما أخذ على نحو ملحوظ يتغير منذ عامين حينما جرى آنذاك اغتيال بين فورتون على خلفية مواقفه السياسية اليمينية المناهضة " للأجانب " يبدو أن اغتيال فان كوخ قد تجاوز إطار هولندا ليحض بتعليقات متخوفة في بلدان أوربية تعاني من مشكلة المهاجرين، ومن خطر الأصولية الإسلامية التي تعتمد العنف والإرهاب. ويلقي اليمين المتطرف في ألمانيا جزأ من الأزمة الاقتصادية على عاتق المهاجرين واللاجئين وينادون بإخراجهم من البلاد، وقد كسبوا في الآونة الأخيرة مقاعد في برلمانات بعض المناطق. بل أن أحزاباً عريقة تناقش وتنادي باتخاذ سياسة واضحة من الهجرة ومن اللجوء. ومثل هذه النقاشات في جو التخوف من الإرهاب ربما يشكل الأرضية المناسبة لصعود العداء الذي يمكن ملاحظته الآن بشكل واضح لقد كتب الصحافي ماتياس شميت تعليقا على جريمة امستردام يقول : لم ترى أوربا منذ عهود جرائم قتل بسبب الرأي، ومن الواضح أن ما حدث في هولنده يحمل بصمات ذلك. سوف لا نتسرع بالاتهام لحين تكشف التحقيقات عمن يكمن وراءها. وإذا ما ثبت انها جريمة سياسية فإننا ندق ناقوس الخطر الذي بدأ يقرع في بلادنا ويهدد قيمنا الفكرية " كما كتبت الصحافية اولريكا هيرمان في التاغستسايتونغ تقول : " إن قتل فان كوخ يهدد هولندا نحو مزيد من التطرف. والإسلام يبرز كمشكلة أساسية " وتعلق الكاتبة : " سوف لا تكون هولندا قطعاً هي البلاد نفسها بعد عملية الاغتيال ". وتسرد: " أن هولندا رأت أول اغتيال في العام 1584 عندما قتل مؤسس الدولة وليم فان اوراني قبل 418 سنة. ثمّ تقول : " كان فان كوخ قريباً من أفكار بيم المتطرفة الذي اغتيل قبل عامين وقد صور عنه فان كوخ فيلما سينمائياً. وقد صدمت البلاد آنذاك باغتياله. لقد تغيرت البلاد. بدأت النقاشات العامة بتأثير ذلك تسخن وتمضي نحو اليمين، بل اليمين المتطرف. وهكذا من خلال العنف تتخذ الأفكار اليمينية نوعاً من المناخ الملائم للنمو بحيث لا تقارعها الحجة. ويبدو أن أولئك الذين لا يتطابقون معها بالأفكار يتفقون معها على الأقل في سؤال جوهري : المشكلة هي المهاجرون واللاجئون، وبالدرجة الأساسية المسلمون منهم. ويبدو أن فيلم فان كوخ قد استقى من المعاينة ومن الأفكار السائدة عن الإسلام مادته. ويصور الفيلم في موضوعه الأساسية قمع واضطهاد المرأة في المجتمعات الإسلامية. ويشاهد المرء في سياق الفيلم زواجاً قسرياً مؤلماً تفرضه الأسرة، كما يشاهد اغتصاباً لها من قبل أقربائها. وعلى أية حال فقد أمل الكثير في هولندا، أولئك الذين يراقبون تطور الأحداث وينظرون بذات المنظار إلى أوربا : أملوا أن لا يكون خلف الحدث واحد من المهاجرين الإسلاميين لئلا يثار في المجتمع مزيد من الاستقطاب ضد المهاجرين المسلمين. ولكن الأمل بذاته ينطوي على الخوف من الآخر المهاجر " الذي يهدد ما كسبته أوربا : حرية الرأي وحرية الاختلاف " طالما هو يقف ضدها بسلاح ارتكاب الجرائم. و على عكس امال الناس فقد أذيع اليوم ( الخميس 4 نوفمبر ) " ان اغتيال ثيو فان كوخ، حسب قناعة الحكومة الهولندية، ينطوي على خلفية سياسية اسلامية. والشخص الذي جرى اعتقاله يوم الثلاثاء له علاقات بمسلمين متطرفين. وقد تمّ إلقاء القبض بعد مرور 24 صاعة على ثمانية من المتطرفين الآخرين ". موقع "إيلاف" في 4 نوفمبر 2004 |
لم يُثِر الفيلم الهولندي "خضوع" غضب الجاليات الإسلامية في هولندا فحسب, وإنما أدى إلى اغتيال مخرج الفيلم ثيّو فان غوغ, رمياً بسبع طلقات نارية, وطعناً بسكين كبيرة, من إسلامي متطرّف (26 عاماً) قيل إنه يحمل الجنسيتين المغربية والهولندية. الأمر الذي أعاد إلى الأذهان الطريقة البشعة التي أُغتيل فيها السياسي الهولندي اليميني المتطرف بيم فورتاون في السادس من أيار (مايو) 2002, والذي كان يناصب المهاجرين واللاجئين الأجانب عداءً مُستحكماً, ويدعو إلى طردهم تحت شعار عنصري مفاده "هولندا للهولنديين". تُرى, ما حكاية هذا الفيلم؟ ولماذا أقدّم القاتل على الإمعان في جريمته, وطعنَ المخرج ثيّو فان غوغ, بسكين كبيرة مرتين, وغرز سكيناً أصغر في صدره, بعد أن أرداه قتيلاً بسبع طلقات نارية؟ وما هو مضمون الرسالة التي تركها القاتل المتشدد فوق جثة الضحية في صبيحة الثاني من تشرين ثاني (نوفمبو) 2004؟ ولماذا لم يأخذ ثيّو فان غوغ تهديدات القتل التي وردت إليه عبر الهاتف, والرسائل العادية والإلكترونية على محمل الجد, بينما لم تكن أيان هيرسي علي, كاتبة السيناريو, (صومالية الأصل), تخرج من منزلها السري إلا بصحبة عدد من الحرّاس الشخصيين الذين يؤمِّنون لها الحماية الدائمة؟ ولماذا وقع اختيار مخرج الفيلم, المثير للجدل, والذي أثار حفيظة العائلة المالكة غير مرة مُوجهاً لها انتقادات حادة, على أيان هيرسي علي, العضوة الناشطة في "الحزب الليبرالي الهولندي" ((VVD, التي تشغل منصب عضو في البرلمان الهولندي الحالي, والمعروفة بمواقفها المُستفزة للإسلام والمسلمين. وسبق لها أن هُددت بالقتل لأنها وصفت الرسول الكريم بأوصاف شتى لا تليق بمقامه. كما تجاسرت على القول إن "الدين الإسلامي هو "دين متخلف". وسبق لها أيضاً أن وجهت انتقادات شديدة إلى المدارس الإسلامية في هولندا واعتبرتها بؤراً للتخلف "تعوق اندماج المسلمين في المجتمع الهولندي المتحضر". ناهيك ببرنامجها التلفزيوني الذي تتهجم من خلاله على الدين الإسلامي, وتشهِّر بأركانه وتعاليمه التي "لا تقيم وزناً للمساواة بين الرجل والمرأة", و"تطمس خيار المرأة الفردي", و"تجعلها تابعة للرجل", و"محظية له" لا غير. مع العلم انه صدر لها كتابان في هذا الخصوص أثارا الكثير من الجدل وهما "مصنع أطفال" و"قفص العذراوات" تقول فيها إن المرأة المسلمة "ليست أكثر من موضوع جنسي بالنسبة للرجل المسلم, وحاضنة لتفريخ الأطفال, وأسيرة لبيت الزوجية الذي لا تغادره من دون محْرم". سيرة ذاتية وبالمناسبة فإن موضوع الفيلم يحمل بعضاً من سمات السيرة الذاتية لأيان هيرسي علي التي كتبت السيناريو, وحشدت فيه العديد من النقاط السلبية التي يمكن لها أن تثير كراهية الناس للإسلام, وتؤلّب غير المسلمين عليه. ومن بين هذه النقاط قضية "الزواج القسري". فالمعروف أن أيان هيرسي أُجبرت من والدها على الزواج من ابن عم لها مقيم في كندا, وفي طريق رحلتها إليه, توقفت في ألمانيا, وركبت من هناك القطار إلى هولندا طالبة حق اللجوء. لنتوقف عند بنية "الصدمة والذهول" التي يعتمدها المخرج ثيو فان غوغ في العديد من أفلامه, والذي يعتبره الهولنديون بمثابة مايكل مور هولندا لأنه يتحرّش بالعائلة المالكة, ويتصدى في أفلامه ومسلسلاته التلفزيونية إلى الوزراء والمسؤولين في المملكة بجرأة نادرة بحيث جلبت له هذه الشجاعة جمهوراً واسعاً يحبه على الصعيد الشخصي, ويتابع أفلامه, وبرامجه التلفازية, ويقرأ أعمدته المُستفزة في الصحف والمجلات التي ضاقت به ذرعاً. تقنية الصدمة والذهول اختارت كاتبة السيناريو أيان هيرسي أربعة نماذج نسائية سلبية كلها من دون استثناء. وفي مقدم الفيلم نرى امرأة مسلمة تؤدي فريضة الصلاة, وثمة راوٍ عليم يسرد لنا قصص النساء الأربع, وبينما تقترب الكاميرا من هذه المرأة الملفعة بحجاب أسود شفاف يكشف عن تفاصيل جسدها. وأكثر من ذلك تصدمنا الآيات القرآنية المخطوطة بعناية فائقة على جسدها. وقد انتقت هيرسي الآيات القرآنية التي تُنزل العقاب بالمرأة الزانية أو التي تخرج من دون علم زوجها, أو المرأة التي لا تطيع زوجها, ولا تستجيب لرغباته. وبحسب سيناريو الفيلم فإن المرأة الأولى زُوجت قسراً من رجل لا تحبه, وبالتالي فإنها مُرشحة لأن تكون "بغياً" لأنها تكره زوجها, ولا تجد متعة جنسية في مشاركته الفراش. والثانية تُغتصَب من قبل ابن عمّها, وتحمل منه جنيناً في رحمها, ولك أن تتخيل الوضع النفسي لامرأة مُغتَصَبة وحامل ممن لا تحب. والثالثة متزوجة من رجل يشبعها يومياً ضرباً بالسياط بعد الانتهاء من العملية الجنسية للإيحاء بأن الرجل المسلم سادي, والمرأة المسلمة مازوشية, أما الرابعة فإنها تتعرض للضرب بسبب ومن دون سبب للقول إن الرجل المسلم يستعرض قوته على زوجته فقط, ويمارس وحشيته على المرأة المسلمة, الأمر الذي يدفع ببعض شخصيات الفيلم إلى الانخراط في مونولوغ يشكين فيه ظلم الرجال بسبب هذه القوة البدنية التي منحها إياهم الله. أثار هذا الفيلم القصير (10 دقائق) ضجة كبيرة بعد عرضه على القناة الهولندية (VPRO) ليلة 29 آب (أغسطس) الماضي, وهو الجزء الأول من ثلاثية, غير أن يد التطرف لم تعط المخرج الفرصة لإنجاز الجزءين الآخرَين, فاغتالته واغتالت معه الأجزاء المتبقية أو الثاوية في مخططاته وأحلامه. وقد وصفه رئيس الوزراء الهولندي يان بيتر بالكننده بـ"بطل حرية الرأي", وصُعق الجميع بقتله بمن فيهم الملكة التي لم تسلم هي الأخرى من انتقاداته الحادة, ولسانه اللاسع, وبالذات بعد أن انتمى إلى مؤسسة ثقافية تناهض الملكية العداء, وتنتقد نهجها وأطروحاتها في وسائل الإعلام الهولندية. كان ثيو فان غوغ, وهو قريب الفنان الهولندي المعروف فنسنت فان غوغ, مخرجاً, كاتب سيناريو, مونتيراً, مُنتجاً, ممثلاً ناحجاً وناقداً مهماً في الوسط الثقافي الهولندي. وعلى رغم صغر سنه (من مواليد لاهاي, 1957) أخرج أكثر من عشرين فيلماً منذ عام 1981 حتى الآن, ونال الكثير من الجوائز على بعض أفلامه المثيرة للجدل, مثل فيلم "تاريخ أعمى" 1996, و"لمصلحة الدولة", إذ حصل على جائزة "العجل الذهبي" مرتين متتاليتين, وهذه الجائزة الهولندية هي موازية للأوسكار في فرنسا. من أبرز أفلامه التي رسخّت سمعته كمخرج ناجح ذي حضور قوي في السينما الهولندية " يوم على ساحل البحر" 1984, "العودة إلى أوخستخيست" 1987, "ضوء كاذب" 1993, "إليزا تغيّر التاريخ" 1993, "لمّ الشمل" 1994, "إيفا" 1994, "غاليري: يأس السيرانه" 1994, "تاريخ أعمى" 1996, "كيف قتلت أمي؟" 1996, "لمصلحة الدولة" 1996, "نجيب وجوليا" 2002, "مقابلة" 2003, "رؤية" 2004, "خضوع" 2004. وقبل وفاته كان ثيو فان غوغ منهمكاً بإخراج فيلم آخر يحمل عنوان "605" ويتمحور حول اغتيال السياسي الهولندي المعروف بيم فورتاون, فضلاً عن مجموعة أخرى من الأفـلام المشاكسة والمُثـيـرة للجدل. روميو وجولييت وفي مجال الدراما التلفزيونية أنجز ثيو عدداً من المسلسلات الطويلة التي أحبّها الجمهور الهولندي, وتفاعل معها بقوة هو مسلسل "نجيب وجوليا" المستمد من مسرحية شكسبير المعروفة "روميو وجولييت". وجسدت دور جولييت لاعبة هوكي هولندية, بينما جسد دور روميو موزع بيتزا مغربي. وفي مضمار الكتابة النقدية الساخرة التي تنطوي على كوميديا سوداء أنجز ثيّو أربعة كتب, أبرزها كتابه الأخير المعنون "الله أعلم" (2003) الذي ينتقد فيه الإسلام والمسلمين بعد أحداث 11 أيلول (سبتمبر). كما يتفق الكاتب والمخرج ثيو فان غوغ مع أيان هيرسي على "ضرورة إنقاذ المرأة المسلمة من العنف البدني, والنفسي الذي تتعرض له في المجتمعات الإسلامية". وجدير ذكره أن كاتبة السيناريو, أيان هيرسي التي تعيش في مخبأ سري بعد مقتل المخرج ثيو فان غوغ قد تتعرّض لفقدان منصبها البرلماني بعد تصاعد وتيرة المطالب التي تؤكد على ضرورة تنحّيها من هذا المنصب الحساس الذي ينبغي أن "يوحد مختلف الشرائح الاجتماعية", و"لا يفرق بينها", وأن يؤاخي بين الأجانب والسكان الأصليين, لا "أن يُحدث الانقسامات الحادة والخطيرة", ويهدد أمن البلد, ويزعزع استقراره من خلال الأطروحات المسمومة التي تساهم في تغذية المشاعر العنصرية التي تبغضها الإنسانية جمعاء. الحياة اللبنانية في 12 نوفمبر 2004 |