شعار الموقع (Our Logo)

 

مقالات مختارة

حوار صريح مع المخرج السينمائي المصري محمد خان

عمر الشريف يفوز بـ"سيزار" أفضل ممثل

جوسلين صعب:السينما التسجيلية تمنح رؤية نافذة للاحداث

ناصر خمير: أفلامي حلم... وعندما تحلم تكون وحدك

      برتولوتشي: لقاء

رندة الشهال: أهل البندقية يحبونني

تاركو فسكي: بريق خافت في قاع البئر

كتبوا في السينما

 

 

 

 

 

 

مكنمارا.. شاهد على حروب العصر

"ضبابية الحرب"

يذكر بوضع العراق اليوم

قيس قاسم

 

 

 

 

 

 

 

يأتي فيلم "ضبابية الحرب" لأيرول موريس، مع سياق زمني يشهد اتساعا لموجة الأفلام الوثائقية، السياسية، على وجه الخصوص، وأشتداد قوة تأثيرها على المشاهد في كل مكان، وهو ما يحسب نقلة مميزة في تاريخ هذا النوع من النتاج السينمائي. وأقترانا بالنجاحات التي حققتها بعض هذة الأفلام، وخاصة الأمريكية منها، صعد نجم مخرجيها عاليا، بسبب من قوة مادتها الوثائقية من جانب ومشاركتهم المباشرة فيها من جانب أخر, كما هو الحال مع مايكل مور وفيلمه "11/9 فهرنهايت" ومورغان سبورلوك في نقده الشديد لبشاعة الرأسمالية في فيلمه عن أطعمة ماكدونالد "Super Size Me". غير ان ما يميز موريس في فيلمه "ضبابية الحرب: 11 درسا مستخلصة من حياة روبرت مكنامارا" عن غيره من المخرجين في هذا الوسط هو تجنبه المشاركة الفعالة في وثقيته، والأعتماد كليا على "الموضوع" لينقل بنفسه الأحداث ويعلق عليها، فيلعب المخرج هنا دور الصحفي الذي يهمه الأستماع الى محاوره ومحاولة التأثير عليه بحنكة "لأستخراج " أكبر قدر من المعلومات والحقائق، كتلك الحقائق المثيرة والمهمة التي  يملكها، وزير الدفاع الأمريكي السابق روبرت مكنامارا، الرجل الذي عاصر أخطر أحداث القرن الماضي وشارك فيها، بل وأعتبر واحدا من واضعي السياسة الخارجية الأمريكية في حقبة الحرب الباردة.

أشتغل موريس على مستويين لتحقيق غايات فيلمه. الأول، حوار مباشر مع كاميرا ثابته بمستوى الرأس تعكس تعابير وجه مكنامارا، وتركز عدستها على عينيه، والثاني صور وثائقية تاريخية متطابقة مع الحوار. في الحوار، أظهر موريس،  قدرا كبيرا من الصبر والتحمل في الأصغاء الى حديث مكنامارا. لم يحاول أستفزازه، فذاكرة الرجل حادة ومتوقدة، ولا يحتاج جهدا لنبشها. فبعد دقائق من سرد الأحداث سيكتشف موريس أنه أمام رجل يرغب في أعادة  قراءة تاريخ شارك في صنعه، ويريد الأن مراجعته وتقييمه وهو في سن السابعة والثمانين كشاهد عليه.  أما الوثائق التي أستعان بها فأخطر وأهم ما فيها هي التسجيلات الصوتية للمكالمات الهاتفية بين البيت الأبيض ورئيسيه، جونسون وكندي وبين مكنامارا، وأيضا بعض تسجيلات محاضر المخابرات الامريكية مع القيادات السياسية الأمريكية أبان أزمة خليج الخنازير في كوبا والحرب الفيتنامية.

لخص مكنامارا العبر والدروس المستقاة من تجاربه الشخصية كوزيرا للدفاع بأحد عشر درسا. كل درس من دروسه مقرون بفترة مهمة من حياته الشخصية والوظيفية. فعلى المستوى الشخصي سنتعرف على رجل أنحدر من عائلة متواضعة، ثم تقرب من حدود الطبقة الوسطى الأمريكية، بدراسته الجامعية، وسط أزمة الثلاثينات الأقتصادية. أول عمل حصل عليه في شبابه كان في أحدى دوائر الأحصاء، فتعلم الدقة والحسابات العالية، ومن هنا أطلق عليه خصومة لقب " ماكنة أي بي أم بأرجل". وفي نقلة حاسمة في سجله الوظيفي عين مديرا تنفيذيا في ادارة شركة فورد للسيارات ليكون أول رجل يتولى هذا المنصب خارج عائلة فورد، وبعد خمسة أسابيع أختاره كندي وزيرا لدفاعه. صعد أسم مكنامارا خلال أزمة كوبا (1961 ـ 1968) والتي هددت بنشوب حرب عالمية ثالثة. وقتها وقف هذا الرجل مع الحل السلمي للأزمة، وتحالف مع رئيسه داخل الادارة التي أرادها "صقورها"حربا شعواء. الشيء المهم في هذا الجزء من حواره هو تأكيده على الدور الشخصي للسياسي في هذة الأزمة. فإرادة كل من كندي وكاسترو وخروشوف كانت كافية لحرق العالم وأن ما أشيع عن حكمة كندي في حلها لم يكن سوى كلاما مضخما. فالحرب لم يك يفصلها عن البدء سوى مليمات قليلة ولولا الحظ وتفهم  خروشوف من الطرف الأخر لأخذت الأحداث منحا أخر، غير الذي عرفناه. ويخرج مكنامارا بدرس مهم: عليك معرفة عدوك، أي معرفة الطريقة التي يفكر بها، فبفضل هذة الحكمة تفاهمنا مع الطرف الروسي. 

جزء مخيف من تاريخ الحرب العالمية الثانية يكشفه موريس خلال حواره الذي عاد بمكنامارا الى سنوات الحرب العالمية الثانية، التي وصفت مشاركة الحلفاء فيها  ب"نضال الخيرين ضد الأشرار"، لأول مرة يعبر فيها بوضوح عن علاقته بالجنرال كورتيس ليماي. هذا الرجل الذي يلخص فلسفته العسكرية بالتالي: أن تحمي قوميتك، فهذا شرف أخلاقي حتى لو كلف عدوك ملايين الأشخاص، اما إذا خسرت فيعني خسارة شرفك. في حديثة يكشف دوره وعمله مع هذا الجنرال في التخطيط لضرب اليابان  قبل أستخدام أمريكا للقنبلة النووية. يقول.. لقد أبدنا أكثر من مئة الف ياباني بالقنابل الحارقة ودمرنا نصف طوكيو، لقد حرقنا بين 50 الى 90 % من سكان 67 مدينة يابانية. هنا يساءل نفسه.. هل هذا هو ثمن النصر، ألا توجد حدود له؟ الحشرجة تطغي على صوته والدموع تتجمع في عينيه!

هذا الرجل وبعد سنوات سيتولى قيادة الجيش في واحدة من أقذر الحرب المعاصرة التي عرفناها، حرب فيتنام. فبعد أغتيال كندي، يدخل جونسون حربا جديدة يسانده العسكر فيها. في هذة المرحلة وعلى الرغم من توليه وزارة الدفاع يؤكد مكنامارا.. لو لم يمت كندي لسحب قواته في فيتنام. لم نفهم أفكار الفيتناميين الذين رؤا (الشمال والجنوب) في تدخلنا، استعمارا جديدا. أستقالتي تأخرت لأني كنت مؤمنا بخدمتي لبلدي، عبر خدمة الرجل الذي أختاره الشعب قائدا له.

بشعور مفعم بالندم يتذكر "التكنوقراطي القاسي" كيف أنه تدريجيا ومع الوقت وقف مع جونسون في حربه، ودافع عنها، وهو الذي بدأ عمله معه بصراع حاول فيه أقناعه بالأنسحاب. علاقته بعائلته وأمراض القرحة التي سببتها لهم مواقفه المؤيدة للحرب، والأثر العميق الذي تركه في نفسه مشهد أحراق أحد الجنود الأمريكان نفسه أمام مكتبه في البنتاغون، كلها آلام لا يمكن وقفها كلما عادت الذاكرة الى الوراء. من ميزات شغل موريس في هذة الوثائقي الحواري هو موضوعية الصورة المقدمة عن هذا الرجل، فهو يبدو فيها ودودا ، حساسا ويثير التعاطف، على عكس الصورة التي يريد أو أراد خصومه تقديمها فيها كرجل قاسي لا يرحم " يقتل البشر بدم بارد". موريس أيضا لم يحسن صورته، بل أكتفى بتقديمها كما هي. فرغم كل ندمه لم يدن مكنامارا الحرب بل دافع عنها!

بعد مقطع من قصيدة لأليوت ينهي فيها مكنامارا حديثه ، تتقدم صور الحرب التي خاضها لتسطر مقطعا من كابوس عاشه العالم ويعيشه اللحظة. والمتفرج هنا يتدخل في الحوار.. ماذا أراد موريس بفلمه الذي حصل على الأوسكار أن يصل، هل يريد ربط الماضي، ماضي مكنامارا مع الحاضر الامريكي؟ يجيب موريس في أحدى لقائته الصحفية.. جيلنا عاش تجربة فيتنام، ومن خلاصات "أعترافات مكنامارا" نجد ان أحد أسباب فشلنا في فيتنام هو فقداننا لحلفائنا، على عكس الحرب العالمية الثانية، كما ان الفيتناميين لم يفهموا مقاصدنا " الديمقراطية"! ألا يذكرنا هذا الجزء من هذا التاريخ بوضع العراق اليوم؟ ويضيف.. لم أرغب في زج الزمن الحالي في عملي وأعكسه فيه، ولكنني فعلت ذلك! فأنا من أكثر المتحمسين لرؤية بوش وهو يغادر البيت الابيض.  

أسم الفيلم: ضبابية الحرب: 11 درسا مستخلصة من حياة روبرت مكنامارا

الأنتاج: أمريكي 2003

أخراج: أيرول موريس 

موقع "إيلاف" في 30 أكتوبر 2004