في حفل عيد ميلاده الرابع والعشرين وفي قلب مستوطنة مصحة للمصابين بالجذام وقف الشاب في حينه تشي غيفارا يطلب من صديقه غرنادو والحضور من الاطباء والراهبات والممرضين والممرضات شرب نخب امريكا اللاتينية، ولقي الخطاب احتفاء من الحضور حتي ان غيفارا نفسه كتب عن المناسبة لامه في رسالة خاصة عندما كان في بوغوتا العاصمة الكولومبية (6 حزيران (يونيو) 1952). كان الشاب الذي يبحث عن ثورة يردد صدي ما قاله الثائر الامريكي المعروف سيمون بوليفار، والثائر والشاعر الكوبي خوسيه مارتي. تشي غيفارا كان مع صديقه راحلين في امريكا اللاتينية في الرحلة التي جمعت من اوراقه ومذكراته، والتي نشرت تحت عنوان الرحلة اللاتينية او يوميات دراجة ، وصدرت عام 1993 واعيدت طباعتها اكثر من مرة، ذلك ان غيفارا يحتل بين الشباب رمزا وايقونة خاصة، فصورته كثوري بقبعته المعروفة تحضر في كل مظاهرات الاحتجاج وملصق صورته لا يخلو منه جدار في غرف الطلاب الجامعية. ولكن مذكرات ويوميات غيفارا عن مشاهداته في امريكا منتصف القرن الماضي تظهر صورة عن اهتمامات الشباب الذي يبدو خجولا ولكنه محبوب وقريب من قلوب من يعرفهم، وفي بداية اليوميات يعلن تشي ان الشخص الذي كانه قبل ان يغادر مدينة قرطبة الارجنتينية مات في الطريق، والشاب الذي ودع صاحبه غرنادوا في مطار كراكاس الفنزويلي هو شخص اخر. وتشي العبارات بعمق التأثر والتجربة التي صقلت روح الشاب الذي سيصبح الثوري الاول في العالم ويلقي مصرعه علي ايدي الحكومة البوليفية المتعاونة مع المخابرات الامريكية في بوليفيا 1967، يوميات الدراجة تحولت الي فيلم عرض في الصيف الماضي، وقد نقل الفيلم بممثله المكسيكي غاييل غارسيا بيرنال (في دور ارنستو تشي غيفارا)، وردريغو دي لا سيرنا (في دور البرتو غرانادو) ومخرجه البرازيلي وولتر ساليز، روح اليوميات التي عاشها تشي غيفارا مع صديقه البرتو غرانادو الذي قطع معه منتصف الرحلة التي بدأت في كانون الثاني (يناير) 1952 علي متن الدراجة النارية التي اطلق عليها غرنادوا اسم الاعظم وبعد الاعطال التي اصابتها قرر الشابان قطع الرحلة مشيا علي الاقدام او من خلال استعطاف اصحاب السيارات والشاحنات، وقضي الشابان رحلتهما مشغولين بهم توفير المال اللازم للرحلة، والنقل والطعام الذي يشبع المعدة الجائعة طوال الوقت. وفوق هذا كان تشي غيفارا الشاب يعاني بين الفترة والاخري من نوبات الازمة التي كانت تضربه وتقعده الفراش اياما. كان تشي غيفارا في حينها طالبا في كلية الطب في جامعة بوينس ايريس، العاصمة الارجنتينية اما صديقه غرانادو فقد انهي للتو دراسته في الكيمياء الحيوية. وخلال الرحلة قدم الشابان انفسهما باعتبارهما خبيرين في علم وامراض الجذام، وفي واحدة من المحطات زارا صحيفة محلية واقنعا محررها باجراء حوار معهما عن طبيعة المهمة التي يقومان بها. يبدأ تشي غيفارا رحلته او يومياته بعبارات جميلة هذه ليست قصة بطولة خارقة او سرد لا قيمة له، علي الاقل لم اقصد هذا، انها اضاءة عن حياتين التقتا بشكل متواز لفترة، بامال مشتركة واحلام متداخلة . وفي الرحلة التي استمرت تسعة اشهر، سجل غيفارا ملاحظاته عن الحياة في امريكا اللاتينية التي لم تتغير كثيرا عما شاهدها قبل نصف قرن. ويعني غيفارا كثيرا بوصف حالات البؤس التي شاهدها في تشيلي بين عمال المناجم الذين تستغلهم شركة امريكية، ولقائه مع رجل وامرأة من الشيوعيين الذين لاحقهم النظام والذين لم يكن لديهم ما يقيهم من برد الصحراء. وفي لفتة انسانية عالية يقدم تشي غيفارا غطاءه لهما ويتدفيء مع صديقه غرنادوا في ليلة يصفها بانها اقسي الليالي التي مرت عليه في حياته ولكنها من اكثر الليالي دفئا في المشاعر الانسانية. في مواجهته مع عمال المناجم في تشكويكماتا في تشيلي، سجل غيفارا في مذكراته الدروس الصعبة التي تعلمها من معاناة العمال والكادحين، حين كتب يقول ان ما يشاهده هو مشهد من دراما حديثة، في يومياته 22 اذار (مارس) 1952 كتب غيفارا يقول الحمل الاكبر الذي يرقد علي كاهل تشيلي وعليها التخلص منه ورميه من علي ظهرها هو اليانكي .. وفي هذه اللحظة تبدو المهمة عملاقة . ويلتفت غيفارا كثيرا لمأساة الهنود الحمر، سكان البلاد الاصليين الذين لا يجيدون الا لغاتهم الخاصة وينظرون للبيض نظرات فيها الشك، ولكنه يتحدث وبتفصيل عن حياتهم، مأكلهم وعادات النظافة، حيث يقول انهم لا يغتسلون او ينظفون انفسهم بعد التغوط، مقدما وصفا في غاية الصراحة ولكنه صادم للذوق الانساني. كان غيفارا مشغولا اكثر بمعاناة السكان المحليين، وهذه المعاناة تشير الي البذور الثورية عنده، فبعد ان قررا السفر علي الاقدام والدخول للبيرو، شاهدا في طريقهما او تعرفا علي معاناة الانسان الهندي، واوصاف غيفارا للهنود تتراوح بين الشفقة وتحليل اسباب العزلة التي يمارسونها علي انفسهم، ويبدو ان غيفارا تعلم كثيرا عن حياة الهنود في بيرو اكثر مما تعلم في دول اخري الناس الذين يراقبونا في الشوارع مهزومون، نظراتهم مدجنة، لا تهتم كثيرا بالعالم، وبعضهم يواصل الحياة لانها عادة لا يستطيع التخلص منها . في بيرو، يزور غيفارا وصديقه غرنادوا اثار الهنود السابقين. غيفارا شاهد السكان الاصليين واقترب منهم وكان قريبا ايضا من الطبيعة في الدول التي مر بها من تشيلي الي بيرو وفنزويلا والبرازيل. ويكتب بتحرر ونوع من التفلسف عن بقايا الانكا الذين كانوا اسياد البلاد قبل قدوم الاسبان، كما يعتني كثيرا بوصف تقاليد البناء الاستيطاني الكولياني الاسباني والبارز بشكل كبير من خلال الكاتدرائيات. ويسجل غيفارا كذلك ملاحظاته السياسية. ويبدو غيفارا الشاب واعيا بالظرف العام في بلاده، وستمثل هذه الرحلة واليوميات ارضية لكتابه الهام قصة الحرب الثورية وبين اليوميات والكتاب عشرة اعوام. وفي بيرو نعثر علي الجانب الفني، او الفنان الشاب في غيفارا، حيث يقدم ملاحظات عن فن الباروك، ومعمار الكاتدرائيات فهو يكتب تعليقا عن كاتدرائية كوزو قائلا الذهب ليس له المظهر اللطيف الكرامة الموجود في الفضة، حيث اصبح اكثر جمالا مع تقدم العمر، وتبدو الكاتدرائية مزخرفة مثل امرأة عجوز وضعت علي وجهها الكثير من المساحيق ، ومن بين الكاتدرائيات التي زارها فقد دهش لمظهر كنيسة بيلان التي دمرتها هزة ارضية، حيث بدت وحيدة، اجراسها الكبيرة مثيرة للشفقة. ولكن احسن ما كتب كناقد عن الفن والكاتدرائيات هي التعليقات المقارنة والحادة عن كاتدرائية ليما، مشيرا الي الجمال الاسلوبي المعماري. المتابع لتطور تشي غيفارا ورحلته الثورية يلاحظ ان الكثير مما كتبه غيفارا لاحقا اعتمد علي المشاهدات التي جمعها ولاحظها في رحلته في امريكا اللاتينية. كان تشي غيفارا في رحلته ليس سائحا معنيا بالتمتع بالمناظر الجميلة، مع ان يومياته فيها الكثير من الشقاوات، سرقة الخمور، والقيام بمهمات صغيرة لتأمين العيش، وصيد الاسماك، الا انه كان بالضرورة يبحث عن روح امريكا اللاتينية. ففي اثناء مرورهما بمحمية طبيعية للحيوانات يتخذا الحذر بعدم تشويش هدوء المكان الحرم كما يصفه غيفارا. ومن اكثر اللحظات الجميلة التي التقطها الفيلم مواجهة مع امرأة عاملة تجسد الظلم الاجتماعي الذي سجل ملامحه غيفارا بعين سحرية، مشهد المرأة المريضة في فالباريسو، (يوميات 7 اذار (مارس) 1952) ويقول المسكينة كانت في حالة يرثي لها، تتنفس الرائحة المتعفنة في الغرفة من العرق ورائحة الاقدام الممزوجة بالغبار المنتشر علي بعض الكراسي، وبيتها هو اعز ما تملك، وفوق ما تعانيه من ازمة تعاني من مشاكل في القلب . ويكتب غيفارا قائلا هناك، في اللحظات الاخيرة، بالنسبة للاشخاص الذين يكمن افقهم البعيد في الغد، والتي يفهم منها الواحد المأساة التي تطوف علي حياة البروليتاريا في كل انحاء العالم.. في العيون التي تموت، هنا رجاء مستسلم للعفو، وايضا، كما هو العادة، رجاء يائس للعزاء الذي ضاع في الفراغ.. كما ستختفي اجسادهم قريبا في اللغز الذي يغلف حياتنا . مشاهد امريكا اللاتينية العذراء وتجربته في مصحات المجاذيب خاصة مصحة او مستوطنة ساو باولو البرازيلية كانت من المحطات الهامة في تشكيل موقف غيفارا عن المعاناة؟، فالترحيب الذي لقيه مع زميله جاء لانهما لم يقدما لهما العلاج بل ايضا تعاملا معهم بانسانية عالية، لعبا معهم كرة القدم، وغنيا معهم. فغيفارا، يقول اذا كان هناك اي شيء يجعلنا نفكر جديا بتكريس حياتنا لمعالجة الجذام فهو العطف والحب الذي اظهره لنا المرضي . يعثر القارئ علي ذلك التماهي الذي ابداه غيفارا مع الطبيعة، ويبدو اكثر حرية في البحر اكثر منه في الطرق، لان الطريق له محدداته وشروطه اما البحر فلا، يكتب بعد ان وجد مع صاحبه صعوبة في مواصلة الرحلة بالدراجة التي وضعت في السكراب، قررا العبور نحو تشيلي علي متن السفية سان انطونيو، هنا.. وبمشاهدة البحر، فهمنا، ان رحلتنا، رحلتنا الحقيقية هي التنقل في شوارع وبحار العالم للابد . يوميات الدراجة كانت تشكل رؤية الشاب غيفارا الذي صار ثائرا حول العدل والمساواة، والحرية والانسانية، وكانت مشاهداته، احاديثه في امريكا اللاتينية، ورحلاته بالباص، الدراجة، الخيول المسروقة، الشاحنات، والسيارات والسفن والقوارب، يتعرف علي طبيعة العالم الذي سيقاتل من اجله، ولهذا السبب كتب في بداية اليوميات ان الشاب الذي كانه/ غيفارا، مات مع وصوله مطار بوينس ايريس، لقد عاد انسانا جديدا. وسرد الكاتب الثائر هنا، يحيلنا علي الكثير من القضايا والامور المتعلقة بحياة سكان هذه القارة، ورؤي الناس لبعضهم البعض، ولكن ما يجعل من اليوميات ممتعة ومثيرة، هي تلك الحرارة والدفء الانساني الذي يغلف كل مسيرة المغامرين الشابين، فهما في الشارع، في المطعم، وهما في شقاواتهما لم يكونا بعيدين عن شروط الالم الانساني. وفي هذا السياق يقدم لنا غيفارا وصفا لعادات الناس، طعامهم في تشيلي، وكرم هذه الامة او تلك. كما يرسم حرص الشابين علي تناول شرابهما المفضل الماتي وهو الشاي المعمول علي الطريقة الارجنتينية. يوميات غيفارا، اهم ما فيها هو الوجه الانساني للثائر، والشاب الضعيف المثقل بنوبات الازمة، ولكن القوي روحيا الذي يبحث في تاريخ المكان وصور سكانه. وقراءة اليومات متعة، لانها مثقلة بالحس الانساني، والبحث في المستحيل، وهي لا تتحدث عن سائحين مشغولين بالمناظر الطبيعية والبحر او عن البار والمرأة في المحطة القادمة، فالشابان وان بحثا عن امكنة كهذه الا انهما كان يبحثان في تاريخ المكان. وغيفارا يكتب بوضوح، ويستعين بالارقام احيانا، وبالقراءة في المكتبات العامة، اضافة الي ان اسلوب غيفارا ليس مملا، فالكتاب يقرأ علي انه رحلة، سياحة في امريكا اللاتينية، وفي اطار اخر، يقرأ باعتباره الارضية التي شكلت صورة وطموحات الثائر، المعروف الذي كتب في نهاية هذه الرحلة قائلا ... اسرق جسدي.. مستعدا للمعركة، واجهز نفسي لكي اكون فضاء مقدسا.. والتي ستنطلق منها الصرخة المتوحشة للبروليتارا الظافرة.. بطاقة جديدة وامل جديد . في المقدمة التي كتبتها كريمة غيفارا، الييدا غيفارا مارتش، تقول انه كلما قرأت كلمات والدها الذي كان، تشعر بحبه اكثر، فهو يكتب بلغة طازجة، وعبارات مليئة بالاصوات والحركات، حركة الفراش والطيور في المكان اللاتيني. وتشير الي ان الفضاء الذي زاره والدها قبل نصف قرن، لم يتغير، وان تغير فللأسوأ. خط الرحلة، بدأ غيفارا وصديقه الرحلة من قرطبة بوينس ايريس، في كانون الاول (ديسمبر) 1951، في الرابع من كانون الثاني (يناير) 1952 غادرا العاصمة الارجنتينية، وصلا تشيلي في 14 شباط (فبراير) 1952، دخلا بيرو مشيا علي الاقدام في 24 اذار (مارس) 1952. في كولومبيا 23 حزيران (يونيو) 1952، فنزويلا 14 تموز (يوليو)، العودة الي الارجنتين في آب (اغسطس) 1952. الفيلم الذي كتب نصه خوسيه ريفيرا هو قصة حب جاءت علي شكل رحلة او سياحة، والحب هنا رمزي، ليس بين شخصين ولكن بين شخص تشي و قارة ، ومع ان الدور الذي لعبه بيرنال كان جميلا ومقنعا الا ان البطل الحقيقي في الفيلم هو امريكا اللاتينية نفسها. ويلعب الفيلم علي وتر التناقض بين شخص البرتو وتشي غيفارا المزاجي، فالبرتو هو الشخص الذي يبحث عن النساء والعلاقات العابرة والشاب العادي، الفرح دائما، اما ارنستو فبدا خجولا واكثر قلقا في تصرفاته. هذا لا يلغي حب ارنستو لتشيتشنا فيريريا ابنة العائـــلة الغنية التي يزورها مع صديقه البرتو في مدينتــــها ميرمار، علي الرغم من عدم موافقة عائلتها علي هذه العلاقة. والمشاهد التي جمعت ارنستو بها مليئة بالعاطفة والحرارة. تشي غيفارا: ولد في الارجنتين عام 1928، وتخرج طبيبا من جامعة بوينس ايريس، وشارك في الثورة الكوبية مع فيدل كاسترو في الحرب الثورية التي استمرت ثلاث سنوات، وبعد انتصارها اصبح وزيرا للصناعة، وحاول نقل التجربة الثورية الي افريقيا، حيث قاد مهمة دولية لمساعدة حركة التحرر التي انشأها باتريس لومومبا، وقبل ذلك زار غيفارا الجزائر بعد استقلالها عام 1963. وبعد عودته من افريقيا، قام بقيادة مهمة سرية لبوليفيا حيث اقام فيها عام 1966 قاعدة ثورية في غابات بوليفيا، في عام 1967 دعا غيفارا في رسالة عالميـة الي انشاء تجارب ثورية وفتح جبهات مع الامبريالية. في تشرين الاول (اكتوبر) 1967 تعرضت مجموعة كان يقودها غيفارا لهجوم حيث جرح في المعركة مع القوات الخاصة البوليفية، والقي القبض عليه وبعد ذلك قتلته القوات البوليفية التي كانت تأتمر بأوامر من واشنطن. ودفنت جثته في مقبرة جماعية مع عدد من رفاقه، حيث تم حفر المقبرة واخراج ما تبقي من رفاته واعيد لكوبا حيث وضعت في القبر التذكاري له في سانتا ماريا.
القدس العربي في 1 نوفمبر 2004 |
برتولوتشي: لقاء |
تشي غيفارا ورحلة في امريكا اللاتينية الموحدة: فيلم يرسم تحولات الفتي غيفارا في قلب القارة المستعبدة ويومياته تبحث عن تاريخ المكان وناسه ابراهيم درويش |