شعار الموقع (Our Logo)

 

 

مظاهر حضارة هشّة [من زجاجٍِ]، سحطية، موقّتة وزائلة، يحاول مايكل مانّ التقاطها والقبض عليها بعدسة كاميراه المهتزّة والمشحونة في فيلمه “ملازم”(). هناك أولاً المدينة، لوس أنجلس، ثم بشرها المأزومون الذين يُحسن زرع أجسادهم في المشهد المديني العريض. يختزل حضورهم ببضعة شخوص ليلية، كالسائق الأسود ماكس [جامي فوكسِ] الذي يجسّد أحلام الهرب من المساحة المقفلة، المسطومة الأفق بالأبنية العالية والشوارع غير المنتهية والواجهات المعدنية والاسمنتية والزجاجية، عبر “نافدة” حلم صغيرة متمثلة بتلك البطاقة البريدية الصغيرة لاحدى جزر المالدي، وخلاصة حلم ماكس انشاء مشروع سياحي فوق تلك البقعة الفردوسية التي لو قصدها المشاهير [في ظنه ومخيّلته] لما غادروها، خاصة انه يهيئ لهم [في مخيلته ايضاً] سيارات الليموزين الفارهة التي تلائم احلام سائق التاكسي. ماكس هذا يمثّل “طبقة” فقيرة حالمة في المدن الاميركية الكبرى، بل الأدق طبقة واهمة، إذ يجعلنا الفيلم نوقن ونثق ان السائق المسكين الحالم لن يبلغ حلمه قطّ مهما جدّ واجتهد وسهر الليالي جامعاً ماله الزهيد دولاراً خلف دولار. لن يكفّ يوماً عن كونه مجرّد حالم بائس. ولا يتلاشى الفارق الطبقي، أو يخيل اليه والينا ذلك، الا حين يُقلّ بسيارته للأجرة محامية سوداء [جادا پينكت سميث] ينشأ بينه وبينها قدر من الإلفة السريعة والتواطؤ الودّي الذي قد يفضي الى لقاء ثان او لا يفضي، فالسائق يألف لقاء العابرين. والمحامية هذه العابرة شوارع لوس انجلس ليلاً من هؤلاء، زائد انها تفشي بنوع من الغموض والتوتر غير المنظورين للسائق المسكين، ولا نفقه السرّ الا صوب النهاية.

شخوص عزلة في المدينة المقفرة ليلاً [والفيلم شريط ليليّ بامتياز]، المزينة بأضواء النيون ومصابيح الشوارع العريضة الخالية. في هذا المناخ القاتم والساكن الذي يشبه سكون العدم، “يهبط” على ماكس قاتل انيق ذو ملمح جامد ٍ[توم كروزِ]، يستقل التاكسي صدفة وقدراً لتبدأ الرحلة الكابوسية لـ”المتلازمين” قسراً - وفي عنوان الفيلم اكثر من معنى [تلازم ومصاحبة وتواز] – إذ يرغم القاتل المحترف تحت المظهر الجامد الأنيق، واسمه نسنت بحسب تعريفه المضلّل البديهي، السائق المسكين على ايصاله الى خمسة عناوين في المدينة هي في الحقيقة عناوين ضحاياه المتنظرين موتهم على يده. تقوم محادثة بين القاتل والسائق الذي لم يشكّ بدءاً في نوايا “زبونه” حتى تسقط من السماء [كذاِ] اولى الجثث المفترضة فوق سقف سيارته، فيدرك عندئذ، وعندئذ فقط، ما ينتظره في تلك الليلة الأپوكاليپتية، ويتضاعف ادراكه مع شروع القاتل المأجور المحترف في ارغامه على مواصلة “الرحلة” الليلية الدموية، أذ راقته “شخصية” السائق و”أحبّه”، وهنا احدى ذُرى الدعابة السوداء التي تطلّ في الشريط المعتم بين الفينة والفينة، فواصل مقهقهة (!) بين قتل وقتل.

ماكس ونسنت وجهان لعملة واحدة، بل لمدينة واحدة. بطلان وحيدان يعيش كل منهما عزلته على طريقته، والأبطال الوحيدون، او الذين يحيون في العزلة، ليسوا جدداً في سينما مايكل مانّ الذي قدّم الينا امثالهم في افلامه السابقة مثل “حماوة”Heat المتين الذي جمع روبرت دونيرو وآل باتشينو للمرة الاولى وجهاً لوجه [في مباراة أداء] وكان الأول قاتلاً والثاني شرطياً مطارداً، انما كلاهما في عزلته وأزمته الوجودية. بقدر ما يشتغل مايكل مانّ على عناصر الحركة والعنف والتشويق يقمّش بالقدر نفسه شخوصه فيجعلها ذات ابعاد انسانية وبسيكولوجية، أي ذات مشاعر، لا مجرد آلات قتل بلا عمق او بُعد وجوديّ. هنا ايضاً في جديده “ملازم”، نحن ازاء “بطلين” يرشحان بتلك الأبعاد الوجودية والمأسوية، وأن في إطار شديد المعاصرة والحداثة، متقيداً في آن واحد بشروط النوع السينمائي [الپولار او الثريلر]، غائصاً في فكر شخوصه وتكوينهم مثل روائي [السيناريو المتين لستيورات بيتّي]، لا بالكلمات بل بالاصوات والمشاهد، قد تبدو تلك الافكار صبيانية أحياناً، على الطريقة الهوليوودية، حين تمسّ موضوعات ميتافيزيكية كبرى كأن يتفوّه القاتل نسنت، وان على نحو كاريكاتوري، بأفكار فلسفية عميقة من نوع “الانسان حبة رمل في الكون”. قاتل فيلسوف ميتافيزيكي عدميّ لا يأنف من الاستشهادات الفكرية، مذكراً بداروين وقانون الغاب. لكن لا جدية في كل ذلك، بالطبع. كلبيّة [سينيكيةِ] هذا القاتل الآلة في حالته البهيمية الخام لا يوازيها عبثاً وضحكاً إلا ردود فعل السائق المسكين المغلوب على امره ودعاباته اللذيذة واسئلته البريئة الساذجة كما حين يسأل القاتل: “هل لديك ضمان وراتب تقاعد؟” والقاتل نسنت كذلك ذو دعابة ويحبّ الجاز ويحفظ تاريخ نجومه الكبار [تشارلي پاركر، مايلز دييس...]، يرغمنا على الضحك العالي حين يقول “هل عليّ مصادقة ضحاياي قبل قتلهمِّ”، او حين يدافع عن السائق ضدّ رب عمله عبر اللاسلكي [قاتل ذو حسّ عدالة اجتماعية]، او حين يطرح على عازف الجاز الذي سيقتله لاحقاً، سؤالاً عن مايلز دييس فلو أحسن الاجابة نجا من القتل ولو اخطأ قُتل، الخ. المناخ العنيف القاتل تخفف منه تلك الدعابة السوداء اللامعة، لكن الفيلم يظل قابضاً على نفوسنا بعنفه وقتامته ومشاهد القتل الدموية والاستعراضية التي تبلغ ذراها في مشهد انطولوجي داخل مربع ليلي راقص، على نحو يستدعي سينما سكورسيزي وكوبولا ودي پالما لناحية القوة التوليفية والكوريغرافية المدهشة.

قدير مايكل مان في تثبيت لغة ابتكرها منذ افلامه السابقة عبر كاميرا محمولة وغالباً يديو ديجيتال للمشاهد الخارجية [مديرا تصويره هنا ديون بيبي وبول كاميرون] ذات حركة شاعرية وتجريدية في آن واحد، مكوّنة من سلسلة لقطات على اجزاء وتفاصيل تقفز الى اشكال ما بعد حداثة مبتكرة تلتقي اساليب اخرى ممتدة من انطونيوني الى لارس فون ترير وتوماس ينتربرغ [أي جماعة الـ”دوغم”]، مترافقة مع قوة تحديد وتصوّر لا تضاهيها اي لغة مشهدية في هوليوور راهناً. بيد أني ارى وهناً ذا منابع هوليوودية في القسم الاخير من الفيلم [محاولة القتل الأخيرةِ] حيث  “يتهلود” الايقاع التشويقي و”يتنمّط” ويضعف السيناريو قياساً بباقي الفيلم المليء فتوناً وجاذبية عبر تلك الرحلة الليلية المشحونة بالمعاني والدلالات في شوارع لوس انجلس، مع ممثلين ممتازين، وبخاصة جامي فوكس وتوم كروز [في أحد أجمل ادواره حضوراً جسدياً ونفسياًِ]. يربح مايكل مان الجولات الاولى ليخسر الجولة الاخيرة.

النهار اللبنانية في 1 نوفمبر 2004

كتبوا في السينما

 

مقالات مختارة

حوار صريح مع المخرج السينمائي المصري محمد خان

عمر الشريف يفوز بـ"سيزار" أفضل ممثل

جوسلين صعب:السينما التسجيلية تمنح رؤية نافذة للاحداث

ناصر خمير: أفلامي حلم... وعندما تحلم تكون وحدك

      برتولوتشي: لقاء

رندة الشهال: أهل البندقية يحبونني

تاركو فسكي: بريق خافت في قاع البئر

 

 

“ملازم” للسينمائي الأميركي مايكل مانّ

لوس أنجلس السائق الحالم والقاتل “الفيلسوف”

جورج كعدي