رسّخ بعض السينمائيين التونسيين ما يسمّى بـ " أفلام الموجة الجديدة "، هذا التيار، على رغم محدودية انتشاره، خلّف بصماته الواضحة على السينما التونسية خلال العقدين الأخيرين من القرن الماضي. ويمكن لنا أن نتتبع أفلام هذا التيار من خلال نماذج مميزة في السينما التونسية نالت إعجاب النقاد، وحصدت الجوائز، وحظيت باحترام الجمهور وتقديره لما تتوافر عليه من خطاب سينمائي جديد يشتمل على مضامين جادة، ويتضمن لغة بصرية جميلة قادرة على شد المتلقي، وإمتاعه، وتفعيل حضوره بوصفه متلقياً عضوياً يشارك في صناعة الحدث أو يتماهى في الثيمة التي يطرحها الفيلم في الأقل. ويمكننا أن نشير، تمثيلاً لا حصراً، إلى أفلام " صفائح ذهب " و " ريح السد " و " عرايس الطين " للنوري بوزيد، و " الحلفاوين أو عصفور سطح " لفريد بوغدير، و " صمت القصور " لمفيدة التلاتلي، و " صندوق عجب " لرضا الباهي، و " عزيزة " و " سجنان " و " حكاية بسيطة كهذه " لعبد اللطيف بن عمار، و " قريتي قرية بين القرى " و " رقصة الريح " للطيب لوحيشي، و " رايس لإبحار " لهشام بن عمار، و " حلو ومر " لناصر القطاري وأفلام أخرى لا يسع المجال لذكرها. وقد استطاعت أفلام الموجة الجديدة رصد حركة المجتمع، والتغييرات التي تطرأ عليه ليس من الظواهر الشمولية حسب، وإنما من خلال التركيز على الفرد التونسي بما تنطوي عليه أحلامه الفردية، وشخصيته المتوحدة التي تندغم مع حركة المجتمع حتى من خلال المشاركة التي تبدو للناظر فردانية وبعيدة. وبالرغم من أن هذه الأفلام دوّنت بعض ما أفرزته الذاكرة الفردية والجماعية، كما لامست الوجدان الجماهيري للشعب التونسي، وغاصت في ضميره، مُستنطقة أبرز الظواهر الحية والمُقلقة فيه، إلا أن هناك سينما أخرى لا يمكن إهمالها أو تفاديها وهي ما يطلق عليها النقاد السينمائيون في تونس بـ " السينما الوافدة " وهم يعنون الأفلام التي ينجزها مخرجون تونسيون يقيمون في أوروبا وأمريكا على وجه التحديد مثل فيلم " كسوة الخيط الضائع " لكلثوم برناز، و " الهائمون " للناصر خمير، و " الستار الأحمر " لرجاء العماري، و " خرمة " للجيلاني السعدي، وأفلام نادية الفاني، ومحمود بن محمود وسواهم من المخرجين المقيمين في الغرب الأوروبي. وحقيقة الأمر أن هذه الأفلام المُنجزة خارج الحدود التونسية بحاجة إلى دراسات متأنية تلامس جوانبها الفنية والفكرية، وتقيّم معطياتها التقنية، ورؤاها الجمالية انطلاقاً من القناعات العقلانية التي لا تميل لهذا الطرف أو ذاك. وموضوع بحثنا هو الفيلم التونسي الجديد " باب العرش " للمخرج مختار العجيمي، خريج معهد الدراسات العليا للسينما في باريس، ومقيم فيها منذ سنوات طوال. وقد أخرج عدداً من الأفلام التسجيلية أبرزها " السينما الاستعمارية " 1997، و " ألف رقصة ورقصة شرقية " 1999، و " شرق المقاهي " 2000، وفيلم " باب العرش " هو أول شريط روائي طويل له، هذا الفيلم الذي ترقّبه الجمهور التونسي على أحر من الجمر لأكثر من سبب، الأول كونه وافداً من فرنسا، وبالتالي فإنه سيحمل مسحة من التحرر والانفتاح والمغايرة وربما دغدغة للمشاعر الإيروسية التي تلقى إقبالاً شديداً حتى في البلدان المتفتحة، ولأن الفيلم قد دخل مسابقة الأفلام الروائية الطويلة جنباً إلى جنب مع فيلم " كلمة رجال " للمخرج معز كمون، الأمر الذي يدفع بمشجعي السينما التونسية بالتطلع للحصول على إحدى جوائز المهرجان المهمة في وقت أستبعد فيه من المسابقة الرسمية فيلم " الأمير " لمحمد الزرن وعرض في البانوراما بينما كان بعض النقاد يصرون على أهميته الفنية ويتوقعون له الفوز بإحدى جوائز قرطاج السينمائية. وعلى مدى اليومين اللذين كُرسا لعرض هذا الفيلم الجديد في صالتي " المونديال " ، و " A.B.C " يومي 4 و 5 أكتوبر 2004 كانت الصالتان مكتظتين بشكل لافت للنظر حتى أن ضيوف المهرجان قد وجدوا بالكاد، وبمساعدة اللجنة التنظيمية ورجال الشرطة، مقاعد شاغرة، بل أن العشرات من محبي الفن السابع، أو الذين أغرتهم أسعار التذاكر الرخيصة، قد إفترشوا أرضية الممرات الثلاثة بعد أن هدّهم تعب المشاهدة وقوفاً، بينما ازدحمت الرؤوس المشرئبة عند الأبواب الداخلية وهي تتطلع بعيون نهمة إلى أحداث " باب العرش " الذي حضره أيضاً بعض الفنانين الذين حيّاهم الجمهور بحرارة مثل محمد علي جمعة، بطل الفيلم، وفتحي الهداوي الذي نال عن الفيلم ذاته جائزة أفضل ممثل في دور ثان، ولطفي العبدلي، ومصطفى العدواني، ومليكة الهاشمي، وزهيرة بن عمار التي أثارت لغطاً واسعاً بسبب دورها الجرئ الذي كسرت من خلاله التابو الجنسي. وبعد كلمة الشكر المقتضبة التي توجه بها المخرج مختار العجيمي بدأت أحداث الفيلم تترى أمام أعين المشاهدين. أطروحات جريئة في ثيمة مرتبكة أجمع النقاد والمشاهدون معاً على أن " باب العرش " هو فيلم جرئ، وقد تجلت هذه الجرأة في العديد من اللقطات والمشاهد الإيروسية سواء تلك التي قدّمتها الفنانة زهيرة بن عمار التي أدت جسدت شخصية " ريم " بنت الجيران، أو المشاهد الأخرى التي يظهر فيها " حميد " وصديقه الحميم " الياس " في أجواء لا تخلو من الإثارة والتحريض على المداعبات الجنسية، وبالذات عندما تبادر بعض النساء المتحررات بمغازلته أو التحرّش به بطريقة مفضوحة. وملخص القصة مفاده أن حميداً " محمد علي بن جمعة " هو صحفي شاب تعدى الثلاثين من عمره غير أنه يرفض الولوج إلى المؤسسة الزوجية، ولا يرضى بالزواج من ابنة الجيران " ريم " تلك الفتاة التي تنتمي إلى جو برجوازي بعض الشئ، ولكنه يرضخ لمشيئة أسرته، ويستسلم لإلحاحهم الشديد، ظناً منهم أن هذه الزيجة ستخرجه من عزلته، وتنقذه من الجو النفسي الخانق، والأزمات الذهنية المتلاحقة التي تفضي به إلى القلق الدائم، والاضطراب المستمر الأمر الذي يدفعه في خاتمة المطاف إلى العزوف عن مواقعة عروسته، والهروب في ليلة زفافه! والغريب في الأمر أن الفتاة تقدم على فض بكارتها بأصابع يدها بطريقة مقززة، ومقرفة لمجرد أن زوجها لم يباشرها ليلة الدخلة! يا ترى، هل يعقل أن المرأة التونسية المتفتحة تعتبر عدم فض البكارة ليلة الزواج فضيحة تستوجب تداركها بخسارة كبيرة من هذا النوع؟ ولمَ كل هذه الوحشية في التعاطي مع أزمة عابرة قد تحدث للكثير من المتزوجين لأسباب نفسية قد لا تتجاوز حدود الخوف والارتباك المؤقتين؟ لقد قدّم لنا المخرج مختار العجيمي، وهو كاتب السيناريو نفسه، شخصية حميد بطريقة مهلهلة، وغير مقنعة تماماً. فهل يعقل أن ينصاع في هذا الزمن شاب في مقتبل حياته، ويتخذ من الصحافة التي توصف " بمهنة المتاعب الجميلة " مهنة له، ويرضخ للزواج من بنت الجيران لمجرد إرضاء نزوات أهله ورغباتهم العابرة؟ ولا أدري كيف ربط المخرج بين فشل الصحفي في حياته العملية وفشله في الحياة العاطفية، فليس بالضرورة أن يكون الفاشل في العمل فاشلاً في العلاقات العاطفية، أو الجنسية، أو الزوجية من دون تقديم مبررات مقنعة لهذا الفشل؟ فقد يدفع الفشل، وعدم النضج في العمل الصحفي إلى مزيد من الانكسار أو العزلة أو التوحد مع الذات، لكن هذا الأمر لا يدفعه إلى مزيد من الانكسارات العاطفية. ثم أن بعض مقالات حميد كانت تُرفض من قبل هيأة التحرير بسبب جرأتها، وحساسية تعاطيها مع موضوعات ساخنة، وكان حري بالمخرج أن يعمق هذه النقطة الجوهرية، وينّميها خدمة لتصاعد الأحداث، وتطويراً لمسار الفيلم. لقد أثارت المشاهد الجنسية الصريحة ردود أفعال شديدة لمسناها في الندوة التقييمية التي أعقبت عرض الفيلم في اليوم الثاني غير أن العجيمي أصر على تبرير أهمية هذه المشاهد بالقول " إن الفكرة الرئيسية للفيلم تدور حول حرية التعبير التي لن تتحقق ما لم يتحرر الإنسان من مختلف العوائق التي تكبل جسده وعقله". لم يستسغ بعض الذين اشتبكوا معه في حوار ساخن عبارة " حرية التعبير " لأنها مقترنة بالحرية الفكرية والسياسية التي لم يركز عليها الفيلم كثيراً، وإنما انصّب تركيزه على الهاجس الجنسي الذي له علاقة بحرية الجسد أكثر من حرية الذهن. ثم مضى العجيمي إلى القول بأن" موضوع الفيلم خطير وجرئ وليس من النمط المعتاد، فهو يفضح بشكل مباشر وغير مباشر المسكوت عنه في تونس وغيرها". ولا ندري ما هي الخطورة الكامنة في شخص لا يريد الزواج من بنت الجيران، أو يفشل في تحقيق التواصل الجنسي؟ ثم أين الأشياء المسكوت عنها وقد قال الفيلم بلسان فصيح كل ما يعّن له على الصعيد الجنسي بطريقة مسطحة وغير معقولة على الصعيد الاجتماعي، فضلاً عن افتقار هذا الطرح الساذج إلى الصدق الفني الذي نعول كثيراً في آلية الخطاب السينمائي بعامة؟ واعترف العجيمي بأن "هناك أطرافا لن تقبل بسهولة النقد الذاتي الذي يعتبر الوسيلة الوحيدة للوصول إلى بر الأمان في هذا الزمن، زمن العولمة والحروب". وكنت أتمنى أنا، على الصعيد الشخصي، أن يكون هذا النقد الذاتي مقنعاً، ورصيناً، ومغيّراً للثوابت التي تحد من حركة المجتمع الذاهب إلى أمام شئنا أم أبينا. يبدو أن المخرج العجيمي الذي عاش في فرنسا سنوات طوالا قد انبهر بفكرة التحرر الجنسي الزائفة أو المطروحة بشكل مسطّح، وهو يعتقد أننا لا نستطيع أن نصل إلى بر الأمان ما لم نكن صادقين مع أنفسنا، ولا نزيّف الحقائق، في حين أن الفيلم لم ينتصف إلى أية حقيقة، بل أن ما قدّمه هو صورة مزيفة للواقع التونسي بالرغم من المتغيرات الدراماتيكية التي تعصف ببعض قيمه وتقاليده التي تربى عليها على مر القرون الماضية. بعض النقاد عابوا على المخرج " مبالغته الشديدة في إظهار عجز بطل الفيلم على المستوى الجنسي والفكري " كما انتقدوا الفنانة زهيرة بن عمار على قبولها ببعض المشاهد الجارحة للذوق العام. غير أن زهيرة تصدت لهذه الآراء وأعلنت عن قناعتها التامة بفكرة الفيلم، وأسلوب المخرج، وطريقة أدائها المنفتح الذي لا يعير بالاً للمعايير والتصورات الأخلاقية البالية، فالمهم بالنسبة لها أن أدائها للدور كان جديداً، ولا يتطابق مع أدوارها السابقة، كما نجت تماماً من فخ التكرار الذي يبعث على الرتابة والملل. ورأى الناقد السينمائي التونسي سالم بن يحيى " إن المخرج لم يقتصر على الغوص في مواضيع صارت بمثابة قوالب جاهزة، ولكنه قدمها بأسلوب فظ أساء به للتونسي". وبالمقابل فقد أشاد الناقد حسن عليلش، منشِّط ندوات المهرجان كلها، بالفيلم ووصفه بأنه "جريء وثري وواقعي بالرغم من أنه مؤلم ومقلق، لأنه لا مكان فيه للمجاملة". وأضاف قائلاً " إن نجاح الفيلم مرتبط أساساً بنوعية الصورة التي نريدها لأنفسنا " كما وصف هذا الفيلم بمثابة "ميلاد سينما جديدة، جريئة، مختلفة المواضيع". خلاصة القول بالرغم من أن هذا الفيلم قد نال جائزة أفضل ممثل ثان أسندت إلى الفنان فتحي الهداوي، وأنه ينتصر بحسب الأطروحات والنيات التي وردت فيه أو رشحت عن بعض شخصياته إلا أن فكرته تظل سطحية وبسيطة، وشاذجة، وتخلو تماماً من التصعيد الدرامي الحقيقي، وتفتقر إلى المعالجة الفنية الرصينة التي تخلّف بصماتها في الذاكرة الجمعية لمحبي السينما وعشاقها في كل مكان. ويبدو أن بعض المشاهد الفلوكلورية مثل التحضير للزواج، وليلة الدخلة، وبعض أنواع الغناء والطرب الشعبي، وحتى تصوير مشاهد من المدينة القديمة كانت الغاية منها إثارة المشاهد الأجنبي، واسترعاء انتباهه أكثر من وجود النية لاستثمارها وتوظيفها ضمن السياق العام الذي يخدم طبيعة الفيلم الذي يُفترض أن يحفر في الأس الاجتماعي أو النفسي للشخصية التونسية بشكل خاص، أو للمجتمع التونسي بشكل عام. وربما يكون توصيف " الفيلم الوافد على الحياة التونسية " هو أفضل تقييم له، وموازٍ للصورة الحقيقية التي رسمها المخرج عن طبيعة بلده النائية عن مخيلته الواقعية والفنية على حد سواء. الحياة اللبنانية في 29 أكتوبر 2004 |
برتولوتشي: لقاء |
" باب العرش " لمختار العجيمي الشريط الذي ترقّبه الجمهور التونسي على أحر من الجمر يتأرجح بين الثيمة المسطحة والجرأة الإيروسية اللامبررة تونس/ عدنان حسين أحمد |