شعار الموقع (Our Logo)

 

 

كان صيفاً كئيياً. امتدت آثاره إلى خريف لم يبلل المعاطف بعد. جرت العادة ان احضر موسم أصيلة من افتتاحه إلى اختتامه لكن هذا الصيف كان كئيباً. ذهبت ثلاث مرات إلى هناك: مرة لحضور افتتاح "ملتقى سينما جنوب جنوب " ومرة لاختتام الملتقى. وفي الثالثة للقاء الطيب صالح فذلك موعد صيفي بيننا لا يتغير.

كان صاحب فكرة "ملتقى سينما جنوب جنوب " هو غسان عبدالخالق .

أوكل إليه محمد بن عيسى الأمر.كان الملتقى ناجحا حضوراً، ومتميزاً بلجنة تحكيمه ، وممتعاً بأشرطته . جاءت إنعام كجي جي من باريس لتغطية الملتقى ...كما جاء صلاح هاشم . كانت فرصة للقاء هذه السيدة الطيبة الودودة المثقفة والقارئة . ..وكانت فرصة كذلك للقاء صلاح هاشم آخر من تبقى من شلة الصعاليك الرائعين.

في المرات الثلاث التقيت غسان عبدالخالق وبيننا علاقة قديمة.

عرفنا عليه منذ سنوات مضت قصي صالح درويش . ثم توطدت علاقتنا ووجدت فيه شخصاً دمثاَ حلو المعشر.

في المرة الأخيرة كان يضحك ملء شدقيه ...هل كان يدري ؟

التقينا على مائدة عشاء في" قصر الريسوني" في أصيلة، قصر يعد تحفة معمارية يذكرك بليالي الأندلس.

رحنا نستعرض بعض الذكريات .

تذكرنا قصي صالح وأنطوان عبدالمسيح وأنطوان نوفل ورغيد الشماع ونبيل درويش واسعد حيدر وبيار ابي صعب...

ثم تذكرنا كتابات انطوان بارود " وأماسي الصعلكة ..والكلام المتعتع حتى الانطفاء ".

لم التق بارود ...ولا اعرف حتى صورة له ، رغم اننا تجاورنا كتابة في اسبوعيتن "مستقبل" نبيل خوري الذي ضم إليها أبرز من كتب في لبنان ...ووجدتنا معهم .

ثم أسبوعية " الوسط" حين طلب مني غسان شربل أن انضم إلى كوكبته الصغيرة .

اندهش  غسان عبد الخالق كيف انني لم التق بانطوان بارود . قلت له الأمر بسيط ...الفرنسيون لا يحبون الجواز السوداني ...وبارود لا يعبر المتوسط إلا إلى لبنان . الأمر عادي ..الفرنسيون يستعلمون حقهم في الترحيب بمن يريدون ...وبارود حر اين يمضي عطلته.

وتذكرنا رحلة له من قبرص وكيف ...وصف... وقال... وحكى... وسخر .

قال لي غسان في المرة المقبلة ،أي في أصيلة صيف عام 2005 ساحضر معي أنطوان بارود إلى هنا لتعرفان بعضكما بعضاً .

قلت له ربما يجد في " جنوبي أسمر غير متجهم ".

قال هل تعرف نحن " جيران"  ...مكتبه يجاور مكتبه داخل إذاعة مونتي كارلو ؟

قلت اعرف أنتما هناك ...لكن الجيرة هذه جديدة .

توادعنا تلك الأمسية ...وكان غسان عبدالخالق يضحك ملئ شدقيه.

تركته في أصيلة وعدت للرباط إلى حيث "صيف مثل ذلك لن يتكرر" ، صيف بحثت فيها عن "شروى نقير" فكانت أندر من عمامة فوق رأس أوزة.

صباح الأحد أيقظني حاتم البطيوي من النوم ليقول: لدي خبر سيئ ؟

ثم واصل "غسان عبدالخالق توفي هذا الفجر بسكتة قلبية".

...اتصلت بالصغيرة في باريس لتشارك في مراسيم الدفن ....

خرجت امشي في شوارع الرباط بدون هدف ...

العزاء لكل الذين أحبوا هذا الرجل الدمث الذي خانه قلبه.

وداعاً غسان.

موقع "إيلاف" في 25 أكتوبر 2004

كتبوا في السينما

 

مقالات مختارة

حوار صريح مع المخرج السينمائي المصري محمد خان

عمر الشريف يفوز بـ"سيزار" أفضل ممثل

جوسلين صعب:السينما التسجيلية تمنح رؤية نافذة للاحداث

ناصر خمير: أفلامي حلم... وعندما تحلم تكون وحدك

      برتولوتشي: لقاء

رندة الشهال: أهل البندقية يحبونني

تاركو فسكي: بريق خافت في قاع البئر

 

 

غسان عبدالخالق ..خانه قلبه

طلحة جبريل

قبر في باريس

بيار أبي صعب

قبل شهرين تقريباً, في قاعة "مركز الحسن الثاني للمنتديات الدولية", خلال الموسم الفكري - الفنّي - الثقافي الذي احتضنته كعادتها مدينة أصيلة المغربيّة, كنّا كثراً نتابع ندوة "أوروبا الموسعة والتعاون العربي - المتوسطي: أي مستقبل؟". وقد انتبهت إلى نفسي مراراً, يومذاك, وأنا شارد عما يقال, مأخوذ بتصرفات مدير الندوة كما نؤخذ بممثل ماهر على الخشبة: طريقته في ادارة النقاش, وضبط وقت المداخلات, ومقاطعة المستطردين بتهذيب شديد, وتقديم الخلاصات الدينامية لما قيل, واعادة بلورة الاسئلة وتوجيه الحوار... كان غسان عبدالخالق يفعل كل ذلك في منتهى الطبيعية كأنّه في صالون بيته, بلطف وهدوء وتواضع, والبسمة العتيدة لا تفارق ثغره.

وربّ سائل ما دخل غسان عبدالخالق في التوسّع الأوروبي والتعاون العربي - الأوروبي... فهذا الرجل واحد من أبرز نقاد السينما العرب؟ أنتم لا تعرفون إذاً أن الناقد السينمائي كائن ينتمي الى فصيلة خاصة, يعيش حيوات كثيرة في القاعات المظلمة, يحيا ويموت مراراً في اليوم الواحد مع أبطاله, ويجمع بين عوالم مختلفة متناقضة. ولعلّه الرديف المعاصر للشاعر العربي القديم الذي كان يشترط به أن يتقن فنّ الرماية والعوم وركوب الخيل!

بعد أن أطلق في أصيلة, خلال الموسم نفسه, مهرجاناً لأفلام الجنوب, واستقطب الى المدينة المغربية أبرز نجوم الشاشة العرب من أصدقائه, ساد "الناقد السينمائي" إذاً على جلسات فكرية صاخبة شارك فيها وزراء وسفراء وخبراء استراتيجيون من أوروبا والعالم العربي. ساد بمهارة الاذاعي, وليونة المحاور, وقدرة المثقف على التأليف بين المواقف. لا زلت أتذكر ابتسامات مدير الندوة, صوته الذي يتمتع بملكات سحريّة, فهو قادر على تهدئة الأجواء إذا احتدمت, من دون تسلّط قمعي, وقادر على شدّ الاهتمام وايصال الفكرة المعقّدة بسلاسة.

هذه هي الصورة الأخيرة لغسان التي يحتفظ بها جمهور أصيلة, وكثير من الأصدقاء الذين ودّعوه آخر الموسم, في منزل وزير الخارجية المغربي محمد بن عيسى, على أمل لقاء قريب في مناسبة ثقافيّة - أو شخصية - قريبة. لم نكن نعرف أنّه سيغادر الحلبة مبكراً, ببساطة ظاهريّة تشبه حياته واداءه المهني... من دون ضجّة تذكر. مات غسان عبدالخالق خلال نومه في باريس. مات كما في الأفلام, لكن البطل يعود الى بيته آخر الفيلم. مات غسان وبقي في باريس. وباريس بالنسبة الى الوافدين إليها مثلنا, في ثمانينات القرن الماضي, كانت تختصر على مستوى الثقافة العربية ببضعة أسماء, في طليعتها غسان عبدالخالق. إنّه أوّل من أطلق مهرجاناً للسينما العربية في باريس, وعاش حياتها الفكرية والثقافية حتى الثمالة... وترك فيها بصمات كثيرة.

لذلك من الطبيعي أن يبقى في باريس. هكذا فكّرت حين علمت أنه ووري الثرى يوم أمس في قرية قرب أورلي. لم يبقَ الآن ما يقال. فقط اعلم انني أحسدك على باريس يا غسان. رفيقة دربك المفجوعة, وابناك المذهولان, واهلك وزملاؤك واحبابك وهم كثر, قد لا يفهمون هذا الشعور (بلى نايلة ستفهم). هنيئاً لك هذا القبر الباريسي. كم أحبّ أن أعيش وأموت وأدفن في باريس.

الحياة

2004/10/29