شعار الموقع (Our Logo)

 

 

التقيت صديقي غسان عبد الخالق لأول مرة منذ أكثر من عشرين عاما، حين تأسست في باريس جمعية للنقاد والسينمائيين العرب، وبدأت أحضر اجتماعاتها مع وليد شميط وماجدة واصف وبرهان علوية وخميس خياطي وغيرهم، وعلي الرغم من أني بطبعي لا أحب الاجتماعات، واكره الرغي، واهرب منها دوما إلي الكتابة، وحياة التشرد والصعلكة، والاختلاط بالناس علي رصيف الشارع،إلا أن غسان عبد الخالق جذبني في لفاءات تلك الجمعية، جذبني بتواضعه وأدبه ودماثته، واحترامه لكلام الآخرين، فأحببته، كما بهرني أكثر، بمعرفته وحبه العميق لمصر، وألفة شعبها، ومحافظته دوما علي رأيه الخاص في الأفلام، والسينما التي تصنع في بلادنا والعالم، وحرصه علي استقلاليته، وبحكم عملنا في فرنسا، وأسفارنا حول العالم، كان من النادر أن نلتقي، بل لم نكن نلتقي، علي الرغم من أننا نعيش في نفس المدينة، إلا في المهرجانات السينمائية العالمية، فكنا دائما علي موعد في مهرجان "كان"، ومنذ أن بدأت أتابع دوراته بانتظام منذ عام 1983، واكتب عنه وعن أفلامه، لمجلة " الوطن العربي" ثم " كل العرب" و"الأهرام الدولي" و"إيلاف"، وكنت التقي وغسان أيضا في مهرجان القارات الثلاث في نانت-فرنسا، ومهرجان القاهرة السينمائي، وكان غسان كما هو معروف أسس في العاصمة الفرنسية أول مهرجان دولي للسينما العربية، كما كان يعمل مندوبا لمهرجان القاهرة السينمائي في فرنسا، وكذلك مهرجان فينيسيا في ايطاليا، وكنت أسرعت بعد الإعلان عن تأسيس مهرجان سينما الجنوب-جنوب في مهرجان " كان " 57 الماضي، أسرعت بالاتصال بغسان، وطلبت منه بصفته رئيسا ومشرفا علي المهرجان، أن يرتب لي زيارة الي حبيبتي مدينة أصيلة المغربية،وكنت انقطعت عن زيارتها لزمن، ولم أرد أن يطول أكثر من ذلك بأي ثمن، فطلبت منه أن يعدني بدعوتي إلي المهرجان، ففعل،علي الرغم من أنه كان يعلم أني شاهدت معظم أفلامه وكتبت عنها، وذبحت بعضها، بدون ذكر أسماء، وكان الدم مازال ينزف من جروح بعضها، وانهيارات أصحابها، ولم أكن اعرف أن اللقاء في أصيلة سيكون آخر لقاء لي مع غسان. كان غسان متألقا في أصيلة، محلقا فيها من الغبطة المتصلة، بلقاء الأحباب، مع الطيور السابحات فوق البحر، وداخل أروقة المهرجان، وفي ذلك المطعم الصيفي، الذي أكلنا فيه سمكا مشويا، واستمتعنا بصحبة الأصحاب في أصيلة، وأولهم الصديق الرائع محمد بن عيسي، الذي وفر لغسان كل الإمكانيات، لكي يخرج مهرجان سينما الجنوب-جنوب ناجحا ومتميزا، ويصبح في أصيلة، يصبح نافذة علي سينما مغايرة، تسجيلية وروائية، تحارب كي تصنع، وتجاهد كي تعرض، ضد السينما التجارية الأمريكية التي تسيطر علي أسواق الفيلم في بلادنا والعالم، بعنفها الممجوج، وسخافتها وتفاهتها، ودمويتها المدمرة، وكان لابد من مهرجان كهذا في أصيلة، وبقيادة وتحت أشراف ناقد سينمائي حر ومستقل مثل غسان عبد الخالق، من اجل التواصل مع جمهور متعطش إلي الفن الأصيل الصادق، والثقافة السينمائية الدسمة المغذية، التي تقربنا أكثر من إنسانيتنا، في تلك البلدة الساحرة، وقد بدا لي يقينا أن المهرجان الجديد، سيعوض غسان عن سرقة مهرجانه السابق في باريس، بعدما سطا عليه معهد العالم العربي، وهكذا هو الأمر دوما للأسف مع مؤسساتنا الثقافية الحكومية، التي تصادر المبادرات الثقافية لحسابها، وتسرقها من أصحابها عيني عينك، وكلنا نعلم بالطبع، ماذا حدث لذلك المهرجان السينمائي العربي، الذي يعود الفضل الأول إلي غسان في تأسيسه، بعدما صار الآن مجرد مؤسسة حكومية، وواجهة رسمية لأنظمة العالم العربي، ويدار بمعرفتها، في المعهد، ولم يكن غسان يحرص كما عرفته علي أي شيء قدر حرصه علي استقلاليته، وكنا،غسان وأنا، نلتقي دوما عند هذه النقطة، نقطة الاستقلالية، بعيدا عن الشللية، استقلالية الفكر والتفكير، وحرية الرأي والنقد والتعبير، في عالم المؤسسات الثقافية العربية، المحافظة علي استمرارية وثبات الأنظمة، ومجلاتها وصحفها وإذاعاتها الرسمية المهيمنة،التي تروج في معظمها للتخلف والاستلاب، وتعزز من قيم الدجل والشعوذة، وتغربنا عن واقعنا.وكان يجمعنا حب السينما، وعشقها المحموم، وكانت آخر مرة أري فيها غسان في ظلام السينما، حين شاهدته يقف عند باب الدخول في أصيلة، كي يشاهد للمرة الثالثة فيلما تسجيليا رائعا للمخرج المصري العتيق علي الغزو لي، وكنت حرصت علي مشاهدته للمرة الثانية، عندما أعيد عرضه في المهرجان، وبعدما سحرني بموضوعه وأسلوبه الفني، كما لوكان فيلما كلاسيكيا من أعمال السينما الصامتة، كما جرت العادة مع أفلام ذلك المخرج الرائع والسينمائي المصري الأصيل، الذي كرس عمره كله لإخراج الأفلام التسجيلية، ورأيته علي الغزولي يرتجف مثل عاشق، وهو يشاهد معنا فيلمه، ونشهق ثلاثتنا من جماله ومتعته.صديقي غسان، سوف أتذكر لك هذه اللحظة دوما ولن أنساها أبدا، إذ سيبقي وجهك المضيء بالتماعات ذلك الفرح حيا في مخيلتي، حيث تركتك هناك، الي أن يأتي وقتي أنا أيضا، فالحق بك مع تلك الطيور السابحات في سماء أصيلة، كي نتوحد مع الضوء، وندخل مع الوجود كله في عناق أبدي..

موقع "إيلاف" في 26 أكتوبر 2004

كتبوا في السينما

 

مقالات مختارة

حوار صريح مع المخرج السينمائي المصري محمد خان

عمر الشريف يفوز بـ"سيزار" أفضل ممثل

جوسلين صعب:السينما التسجيلية تمنح رؤية نافذة للاحداث

ناصر خمير: أفلامي حلم... وعندما تحلم تكون وحدك

      برتولوتشي: لقاء

رندة الشهال: أهل البندقية يحبونني

تاركو فسكي: بريق خافت في قاع البئر

 

 

هل تعلم طلحة أن: غسّان توحد مع الضوء؟

صلاح هاشم

الأرض... الوطن ومجدل بعنا

انطوان قسطنطين *

حينما بلغني النبأ القاسي أغمضت عيني وقلت في نفسي لقد مات غسّان من غير أوانه. مات صاحب البسمة الدائمة والضحكة المجلجلة والأناقة الهوليوودية. وكرّت في ذاكرتي يوميات "مونت كارلو" طيلة الأعوام التي جمعتنا في مدينة الحرية تلك الحرية التي افتقدناها في لبنان الثمانينات فازداد تعلقنا بها في باريس.

من شغف السينما والبرامج الثقافية والفنية انضم الينا غسان في قسم الأخبار وبين النشرة والموجز كانت تدور التنظيرات الممتدة من تفسير التاريخ الى استقراء المستقبل. نختلف أو نتفق ولكن بعقلانية وهدوء وتمسكٍ باحترام الذات والآخر.

لم يكن من السهل في باريس الثمانينات أن ينأى اللبنانيون بأنفسهم عن الأحداث في بلادهم, وكان من الطبيعي أن تتأثر مواقف كل منا بما يجري في لبنان وأن تختلف الآراء باختلاف المشاعر.

وحينما ينتهي الجدال, يعود ذلك الضاحك الى طبيعته ويروي آخر نكتةٍ سمعها فتستعيد غرفة التحرير روح الإلفة المهنية في الزمن الصعب.

كان غسان عاشقاً لباريس قدر تعلّقه بلبنان, فقد أخذت باريس بعقله وخطفت بيروت مشاعره وغاص جنينه عميقاً في صخور الجبل.

ولا أنسى كيف تنهّد وتنفس عميقاً حينما وصل الى قريتي إهمج في صيف 1994 فانشرح صدره وانفرجت آساريره وراح يحدثني عن أهمية الارتباط بالأرض كفعل انتماء الى الوجود.

لقد رحل غسان وهو في غربة عن قريته "مجدل بعنا" وعن وطنه لبنان ولست أدري لماذا انتابني شعور أنه رحل مقهوراً, ولكن كبيراً مثلما عاش وكتب وصادق, أخذته الحماسة بعيداً, هو الذي مارس الوفاء عقيدةً في حياته وستبقى لنا نحن رفاق الدرب صورة ذلك الشاب يقلّب أوراق النشرة, يرتشف فنجان القهوة ويضحك.

الحياة

2004/10/29

* مراسل "مونت كارلو" سابقاً في بيروت.