شعار الموقع (Our Logo)

 

 

يوم التقيته في تموز 2003 في اطار تصويره الجزء الثاني من فيلمه الخامس “باب الشمس” عن فصول النكبة ويوميات الفلسطينيين المأخوذ عن رواية الكاتب والصحافي اللبناني الياس خوري، اكد لي المخرج وكاتب السيناريو المصري يسري نصرالله (راجع “الدليل” عدد 545) انه لن يسمح لمحطة ARTE الفرنسية منتجة الفيلم باختزال مدته الطويلة (اربع ساعات ونصف الساعة) ليقدم كفيلم سينمائي من ثلاث ساعات. ورغم انه دعانا ضاحكا يومها الى اعتباره “فيلما هنديا” وتقبل مدته الطويلة تاليا، الا انه عاد وقبل بتقديمه من جزءين في الصالات السينمائية. جزءان لا اختزال لأي مشهد منهما، نشاهد الاول حاليا في صالات امبير بعنوان “الرحيل”، على ان نتابع الجزء الثاني “العودة” لاحقا في الصالات عينها، والجزءان من توزيع شركة “كريستالز فيلمز”.

“باب الشمس” الذي عرض في مهرجان “كانّ” السينمائي الماضي والذي افتتح مهرجان “ايام بيروت السينمائية” الثالث في الاسبوع الماضي، هو ملحمة انسانية وفردية مؤثرة جدا لأنها تبتعد عن عمومية القضية والرمز لتتغلغل في خصوصية الافراد. افراد لهم قصصهم ومعالمهم والمهم تمردهم واحلامهم، وليسوا مجرد رموز لشيء اكبر منهم. اللافت ايضا في قصة هؤلاء الافراد، ان الفيلم يركز على اهمية بحثهم عن الانسانية في داخلهم، فرغم انهم يعيشون في ظروف غير انسانية تدفعهم احيانا للقيام بأمور غير انسانية، الا ان الخلاص الفعلي والسلام الداخلي لا يتحققان الا متى و جدنا تلك الانسانية في داخلنا.

اذاً، يسري نصرالله، “تلميذ” المخرج الكبير يوسف شاهين، الذي طرق باب البورجوازية في فيلمه الاول “سرقات صيفية” وباب احلام الاشتراكية وانهيارها وتصاعد الاصولية في “مرسيدس”، والحجاب في فيلمه الوثائقي “صبيان وبنات”، والهجرة مع “المدينة” يطرق في فيلمه الخامس “باب الشمس”، باب القضية الفلسطينية من منظار مختلف عن السائد. الفيلم مقتبس من رواية الكاتب والصحافي الياس خوري الذي تكلم في روايته هذه عن الموضوع الفلسطيني كأفراد وليس كقضية. وفورا، لدى قراءتها، شعر نصرالله بأنه يريد ان يحولها فيلما، واشترط على محطة ARTE منتجة العمل، ان يشارك خوري في كتابة السيناريو. فالرواية شديدة التركيب والادبية ولا احد مثل الياس خوري سيحسن ايجاد مرادف سينمائي للغته المتميزة. والى يسري نصرالله والياس خوري انضم محمد سويد في كتابة سيناريو تلك الملحمة الانسانية التي تمزج التمرد بالحب والانسانية بالوحشية. على حقبة زمنية تقارب الخمسين عاما، تمتد قصة الفيلم التي تتداخل ازمنتها وتتشعب حكاياتها بشكل يشبه تلاحم الجسم بالروح. وقد ركز الفيلم في جزءيه على قصتي حب. الجزء الاول يروي قصة ناهيلة ويونس بينما يروي الجزء الثاني قصة خليل، راوي الجزء الأول، مع حبيبته المناضلة شمس. القصة الاولى تعود الى اواسط الاربعينات وبدء النكبة الفلسطينية والتشتت، والثانية معاصرة تعود الى التسعينات. في الجزء الاول “الرحيل” الذي بدأت صالات امبير بعرضه الاسبوع الماضي، نعود بنفس ملحمي وتصوير جميل اداره سمير بهزان واسلوب كلاسيكي احترم مميزات تلك الحقبة من ناحية الديكورات (عادل الغربي) والازياء (ناهد يسري) والاجواء والعادات الى قصة ناهيلة ويونس.

يونس (عروة نيرابيه) مراهق في الرابعة عشرة يزوجه اهله بفتاة عمرها 12 عاما ولكن يونس يرحل مع المقاومين الى الجبال لمحاربة الانكليز واليهود ولا يعود الا عندما تصبح زوجته ناهيلة (ريم تركي) امرأة فاتنة، فيعاشرها للمرة الاولى وينجب منها. ومع حصول النكبة وتشتت الفلسطينيين واحتراق منازلهم، يرحل يونس الى لبنان استعدادا للمقاومة والنضال بينما تظل ناهيلة وامه (هيام عباس) في فلسطين. خلسة سيتسلل الى فلسطين ويتردد على زوجته بالسر حيث يلتقيان دائما ولأوقات محددة وحميمة في مغامرة “باب الشمس” في الجليل التي تشهد حبهما. هذا الحب هو الذي سيحول يونس شخصية مثيرة لأنه عاشق وليس لأنه مقاتل. هذا ما سنسمعه على لسان راوية القصة، الدكتور خليل الذي معه يبدأ الفيلم عام 1994 في المخيمات الفلسطينية في لبنان. خليل موجود في المستشفى  جالسا بالقرب من سرير يونس الممدد في غيبوبة. هو يراهن على ابقائه حيا عبر تذكيره بقصته مع فلسطين والنضال والحب وناهيلة. هو يراهن على ابقائه حيا ليعيده الى فلسطين ليموت ويدفن في ارضها كالابطال.

“باب الشمس: الرحيل” ملحمة عابقة   بموسيقى حنين مؤثرة ومؤلمة تضع الاصبع على الجرح، جرح الفرد المقهور والمذلول والمتشبث بانسانيته وكرامته كآخر قشة تحميه من الغرق. سيناريو مدهش معجون بلحم هؤلاء الافراد ودمهم وسذاجتهم وطيبتهم وتقاليدهم ومعاناتهم التي سنشاهدها كما لم نرها من قبل: نكبة وشتات وطرد في مشاهد قاسية جدا وخصوصا عندما نرى انها حصلت بالعنف لا بالاقناع. مشاهد أدارها نصرالله في تحكم شديد يثبت خبرته وبراعته وخصوصا انها جاءت واقعية جدا ومنفذة بشكل احترافي. لكن تبقى الاشارة الى ان الفيلم يوجّه في احد مشاهده، وإن بشكل غير مباشر، اصبع اتهام للبنان الذي عامل الفلسطينيين كلاجئين وليس كفدائيين. لقد نسي ربما كاتبو السيناريو ان الفلسطيني فدائي صحيح نكب وتعذب واستمر في نضاله لاسترجاع ارضه لكنه على ارضنا لاجئ لأنه “لجأ” الى وطن شقيق استقبله في وقت الضيق. اذاً  ليس في الكلمة اذلال كما قدمت في المشهد المذكور.

اللافت ايضا في هذا الفيلم ادارة الممثلين التي جاءت على افضل صورة واحترافية، فالى اللغة السينمائية المتقنة يجيء التمثيل ليزيد من قيمة العمل. جميع الممثلين دون استثناء تألقوا في تركيب شخصياتهم ورغم انهم ليسوا كلهم من الفلسطينيين بل من الاردنيين والسوريين واللبنانيين والمصريين كذلك، الا اننا شعرنا بأنهم كلهم مجبولون بتلك العاطفة والطاقة والوعي بفلسطين وخصوصا بعدما فقدوها. ريم تركي مدهشة وتلقائية في دور ناهيلة وهيام عباس الفلسطينية رائعة في تركيبها دور ام يونس، ونادرة عمران طبيعية جدا وكأنها تقمصت شخصية ام حسن. في الجزء الثاني الذي نشاهده لاحقا، مجموعة اخرى من الممثلين الذين ظهر بعضهم في الجزء الاول ويكمل البعض الآخر القسم الثاني مثل باسل خياط وهلا عمران وباسم سمرة وفادي ابو سمرا وحنان الحاج علي ودارينا الجندي والنجمة الفرنسية بياتريس دال. في الجزء الثاني، القصة تستمر لكن مع حب آخر حب خليل وشمس.

دليل النهار في 24 أكتوبر 2004

كتبوا في السينما

 

مقالات مختارة

حوار صريح مع المخرج السينمائي المصري محمد خان

عمر الشريف يفوز بـ"سيزار" أفضل ممثل

جوسلين صعب:السينما التسجيلية تمنح رؤية نافذة للاحداث

ناصر خمير: أفلامي حلم... وعندما تحلم تكون وحدك

      برتولوتشي: لقاء

رندة الشهال: أهل البندقية يحبونني

تاركو فسكي: بريق خافت في قاع البئر

 

 

"باب الشمس: الرحيل"

فلسطين الملحمة الانسانية لا القضية

جوزفين حبشي

"باب الشمس" فيلم تناقشه الصالونات الثقافية في اوروبا... الحب الفلسطيني يبدأ يوم الفراق

جنيف/ امتياز دياب

بثت القناة الأوروبية فيلماً بعنوان "باب الشمس", لمدة أربع ساعات, على مدار يومين, وعلى رغم طول الفيلم, فقد لاقى استحساناً غير متوقع, من جمهور لم يعتد أن يشاهد أفلاماً صنعها مخرجون من العالم الثالث. كان الفيلم من تمويل القناة الأوروبية ذاتها, ولذا عرض على الشاشة الصغيرة قبل أن يعرض في صالات السينما, وكان من المتوقع أن يقلل هذا العرض من حظه في صالات السينما, ولكن النتائج جاءت مخالفة لكل التوقعات, اذ كتبت عن الفيلم أكثر من صحيفة فرنسية وسويسرية, ما جعل الفيلم حديث الصالونات الثقافية.

شاهد الملايين فيلم "باب الشمس", عندما نطق الممثلون العرب باللغة الفرنسية ورووا قصة حب نهيلة ويونس التي بدأت يوم الفراق. تماماً كما أحب اللاجئون فلسطينهم يوم فراقهم لها. يمشي التاريخ في الفيلم على جسد الفلسطيني, ما يزيد على نصف قرن, ثم يرافقه الى لبنان. ثم يركض الزمن بخطوات واسعة تاركاً وراءه صوراً معلقة على الجدران, أينما حل. وفي كل خطوة يترك المكان, لتبدأ علاقة حب معه, كما حدث مع نهيلة ويونس, مثلما حدث عندما تحول الفلسطينيون من فلاحين الى عمال, ثم الى مناضلين وفدائيين, ثم الى مستضافين أو محتلين, ثم الى مواضيع الخطابات التي كتبت على عجل.

تراهم يقفون مع الفراق ويبدأون مع الصفر, يصفقون له, ثم يودعونه ليرتموا في أحضان السنين التي تطوى الواحدة تلو الأخرى, متراكمة على شكل عناقيد, مثل العنقود الذي داسته نهيلة في ليلة عرسها, وانزلقت عليه وجرحت ساقها, ثم جففت خيط الدم الذي سال بالمنديل الذي انتظرته والدة يونس وراء الباب, وفرحت عندما رأته. لأنه دليل الشرف الذي اختبأ في بطن نهيلة, الذي انتفخ في "باب الشمس", باب الشمس هو المكان المحرر الوحيد من فلسطين.

قالت الشابة الفرنسية, التي كانت تطالع صحيفة اللوموند: "هذه المرة الأولى التي أشاهد فيها فيلماً عربياً, من دون ان اسمع صوت النواح واستدرار العواطف الساذجة, انه فيلم موضوعي في عرضه للقضية الفلسطينية, أما النساء اللاتي مثلن فيه فكن في آية الجمال, يدعونك الى تعلم درس في الحب, في الصدق, في الصبر, يدعونك الى التشبث في الحياة". يحكي القصة خليل, الذي انفصل عن أمه, وأحب شمس, يحكي قصته وقصة يونس الغافي في نومة أبدية, وتتتالى قصص خليل المستيقظ المنتَظِر, يحكي قصص الفراق, حين تفرقوا بين سجن وملجأ, ينظرون من وراء النوافذ, ويرون حلماً أزرق, ترميه نهيلة, عندما تدق الطبول في رأسها تعبة, نراها في حلمها تشاهد يونس الذي أغمض عينيه, وغفا من الخوف, ولم يعد ير باب الشمس.

قال لي اندي غرين الذي سألني اذا كنت شاهدت الفيلم, عندما طلبت منه ان يعيرني صحيفته "اقرئي هذا المقال, هو عن فيلم رسم الهوية الفلسطينية, لا أدري اذا كان المخرج فلسطينياً, ولكنه في كل الاحوال افضل من حكى القضية الفلسطينية". وعندما قلت له أن الحكاية حقيقية, وبطلتها حية ترزق, وتعيش في قرية دير الأسد, وبأن الكاتب الياس خوري والمخرج نصر الله ليا فلسطينيين. قال: "ولكنهما استحقا جائزة الشعب الفلسطيني".

الفيلم من اخراج يسري نصر الله, عن رواية الياس خوري, موسيقى مارسيل خليفة. عرض الفيلم على شاشة التلفزيون, قبل عرضه في صالات السينما, ذلك العرض الذي شهده الملايين, على مدار ليلتين, ودقت قلوبهم ثم استيقظوا ليسألوا, هل يمكن أن نزور باب الشمس؟ الجزء الثاني من الفيلم, يبدأ بغصن برتقال يحمل برتقالة, وأحدهم يقول: "لا يجب أن نأكلها لأنها فلسطين".

ما زال خليل ابن ياسين أيوب ونجوى, يحكي الى جانب النائم الغافي. حكى للنائم عندما عاد عن فكرة الرحيل الى تونس, لأن أحداً لم يقل له وداعاً. وحكى عن لقائه بشمس, وما زالت الأرض تحمل آثار ورود الوداع, وحكى للنائم ما حكاه لشمس, عن ياسين الذي كانه, ياسين الذي أرادته جدته أن يكونه, ليكون ابناً لها, وشدته من يد أمه, ثم شدُّوه ليشب فدائياً.

وحكى خليل للنائم ألغافي, وعن (الزعران) الذين ركبوا (الجيبات) العسكرية, وداروا بها في أزقة المخيم, وانبعثت منها موسيقى صاخبة, وحكى عندما وجدوه في ثلاجة الأموات حياً, كان ذلك في صنين, ومنها الى الصين, حيث تحول الى دكتور, وذلك بعد ثلاثة أشهر تدريب. وانتقل من الثورة الى الطب الثوري, وحكى خليل عن اللاجئ الذي يتزوج لاجئة ويرزق بابناً لاجئاً.

ألغافي بقي غافياً, وخليل يحكي, أنه ذهب الى بيروت مع فتاة فرنسية, وتحدث من هاتفها مع والدته نجوى التي تعمل في مستشفى في رام الله, عرف ذلك من أم حسن القابلة التي ربته, وتبنته معدماً, رحل حسن عنها الى اميركا, ثم عاد الى النائم من رحلته الى بيروت, ليريح الغافي من نومه.

الحياة اللبنانية في 29 أكتوبر 2004