المعروف عن الفنان الرائد يوسف العاني حماسته لمحاولات الشباب, وخصوصاً ما يتميز منها بالجرأة... وان كان, في الوقت ذاته, يقف ضد ما يدعوه "مغامرات سطحية بعيدة عن الوعي والفهم الجاد", لان غايته في ما يقدّم هو "تحقيق الهدف النافع من اي محاولة جاء". آخر ما حدث في هذا المجال, ومن بعد احتلال العراق, ان مجموعة من الشباب يصفها الفنان العاني بأنها "مجموعة تعمل بهدوء ووعي لتسجيل مظاهر الخراب التي حصلت في البلد جراء الاحتلال, ورصد الجوانب التي اوقعت الكثير من المآسي والنكبات" يجد العاني ان "من واجب من يستطيع ان يسجل سينمائياً هذا الوجه الكالح للاحتلال ان يبادر بحماسة وجرأة, واضعاً نفسه داخل المعمعة فيكون شاهداً للتاريخ على الحقيقة". هؤلاء الشبان الذين لا يمتلكون من مستلزمات العمل غير الحماسة والاخلاص والافكار المثيرة... حصلوا ايضاً على "الفيلم الخام" ولكنه, كما قيل لهم, "غير صالح" (expired) ولم يكن امامهم الا المحاولة... فحاولوا, عسى ان تظهر "الصور" كما يريدون لها ان تظهر على هذا "الفيلم الخام". مع هذه المحاولة كانت تخامرهم فكرة ان يكون في الفيلم حدث درامي يسير جنباً الى جنب مع هذه المأساة التي يحاولون جمع اطرافها. وتبلورت الفكرة لديهم... من دون الخوض في التفاصيل.. وحصلوا على مبلغ من المال لا يكفي الا لتغطية الضرورات ثم تقدموا بطلب الى وزارة الثقافة لتساعدهم في أمرين: مقر العمل, وسيارة نقل. الحكاية وبدأوا كتابة "الحكاية": حكاية حماستهم لأن ينتجوا فيلماً سينمائياً "يؤرخ" ما يعيشون ويعيشه مجتمعهم ووطنهم. وهنا بحثوا عن "الخبرة الفنية" التي تدعمهم في عملهم هذا... وتقدموا الى الفنان العاني, مقدمين له, مع طلبهم المساعدة الفنية, "دفتر يومياته" الذي كان فقد منه, او ضاع من بين يديه حينما احترقت - مع الكثير الذي احترق أو احرق - "مكتبة المركز العراقي للمسرح"... وهي يوميات بدأ الفنان العاني تسجيلها منذ عام 1948.. وكانت بالنسبة إليه "ثروة ذاتية وشخصية لا تعوض" - كما يقول, ويضيف: "حينما جلبوا إلي هذه "اليوميات" التي احترقت اطرافها كان "الحدث" بالنسبة إلي مفتاحاً لبحث التعاون معهم.. وكانت البداية ان سألتهم: - "ما الذي تريدون "قوله" في هذا الفيلم؟". فقال المخرج عدي رشيد: "نريد القول ان الشعب العراقي "لا يستاهل" ما حل به! هنا قال لهم العاني: "انا معكم.. اجلبوا لي ما كتبتم..." وبدأ, هو الآخر, يكتب ليبلور - كما يقول - شخصية "ابو شاكر" الذي تجاوز السبعين من العمر, وعاش احداث العراق كلها, منذ بداية الحكم الملكي... ثم مقتل الملك غازي, وتتويج فيصل الثاني.. حتى العهد الجمهوري, والانقلابات التي تتابعت, ليعيش هذه الفترة كلها ويصل الى اليوم فيشاهد ما يحدث الآن! و"ابو شاكر" هذا جاء بغداد من شمال الوطن ليعيش فيها مع والده: طفلاً يمارس مختلف الاعمال... من دون ان يغادر بغداد. في المكان نفسه الذي عاش فيه "ابو شاكر" كانت تعيش فتاة من البصرة (اقصى جنوب العراق) جاءت هي الاخرى الى بغداد لتعيش فيها... ولها ولد معوق. والناس حولها من مختلف المستويات. واذا كان العاني مثل دور "ابو شاكر" في الفيلم, فإن لدور الفتاة البصرية "فضة" اختيرت الممثلة القديرة عواطف السلمان. وبدأ العمل... واكتمل التصوير... والعاني معهم في دورين: المرشد والموجه من خلال خبرته الطويلة.. وهو, ايضاً, في دور "ابو شاكر" ممثلاً: يضع السيجارة في فمه من دون ان يشعلها... ويستمع الى الاخبار, ويعلق على الاحداث وهي تمر بعيدة عنه او قريبة منه... ويعكس صورة العراق الذي يعيش المعاناة. الفيلم طبع في "استوديو بعلبك" في بيروت... فكانت نتيجة الصورة - كما اخبرنا المخرج - باهرة... وقد عمل على تجاوز "حالة الاكسبايرد" فيه باستخدام التقنيات الحديثة.. ويجرى مونتاجه حالياً في برلين بمباركة من المخرج المعروف جان لوك غودار الذي - كما نقل عنه - اعجب بالفكرة التي قام عليها الفيلم, وبطبيعة العمل... فتعهد باكمال المراحل الاخيرة فيه.. ليكون, بانتظار عرضه في خلال الاسابيع القليلة المقبلة, الفيلم رقم (100) من مجموع انتاج السينما في العراق - وان كان سيحمل عنواناً هو النقيض لواقعه: "غير صالح للعرض". الحياة اللبنانية في 29 أكتوبر 2004 |
برتولوتشي: لقاء |
بغداد/ ماجد السامرائي |