جديد الموقع

مجلة «عالم الكتاب»: عطيات الأبنودي.. عاشقة الناس والسفر (ملف خاص)

لاحق << 31 30 29 28 27 26 >> سابق

وغابت توحة وراوية ونجاة وعطيات صفاء الليثي في حضرة عطيات

اصطحبتني عطيات الأبنودي في رحلة عمل بقطار الصعيد لنعرض أفلامها بقصر ثقافة سوهاج ضمن نشاط الهيئة العامة لقصور الثقافة وكان الناقد علي أبو شادي يرأسها في ذلك الوقت، التقينا بالقطار وكنا في شهر رمضان، أنا لم أكن صائمة ولا عطيات ولكني عادة لا أجهر بإفطاري وأفضل ألا أقع تحت نظرات الرافضين من الصائمين وهم الأغلبية، أما عطيات فقد أخذت في تقشير البرتقال وتناولته بمتعة أتصور أن ما يغلبها ليس الاستمتاع بجو الرحلة ولكن متعة تحدي الأعراف والتقاليد، اعتبرت ما فعلته عطيات شجاعة أحسدها عليها ولا أملك أن أجاريها بها. في القصر كان في استقبالنا مديره ومجموعة موظفات غادرن مبكرا إلى بيوتهن (الستات ما تتأخرش برة البيت) كعادة المصريين والمصريات مؤمنات على كلام الرجال. لحقتنا د. عواطف عبد الرحمن التي قدمت عطيات من وجهة نظر الدراسات الاجتماعية وشرحتُ أنا عملها على المستوى الفني، كان الحضور كثيفا في قصر الثقافة فالسهرات تحلو في أجواء رمضان، ولا يهم المحتوى، مسرحية هزلية، أمسية شعرية أو فيلم سينما. الحاضرون كانوا فتية ورجالا وعددًا قليلا من السيدات هن موظفات في القصر. تكرر العرض في قرية تابعة للمحافظة، وفي المضيفة وجدنا صفوفا من الرجال في انتظارنا مرحبين، صفوف من الرجال ليس بينهم امرأة واحدة، سألتهم عطيات عن النساء فقالوا في نفس واحد وبكلمات فيها تفاخر مبطن بسخرية، الحريم عندنا بتنام من المغرب، بس انتوا قلتلهم ان احنا جايين؟ تهربوا من السؤال وأغلب الظن أن الرجال لا تخبر نساءها على مقصد السهر، (أنا خارج، ابقى اتعشي انت والعيال وأنا هاتعشى برة) كنت أفكر هل ستترك عطيات ود. عواطف المكان غاضبة وتصحبانني معهما، كنت الأصغر منقادة لهما سيدتان قويتان حققتا سمعة طيبة كل في مجالها، شربنا الشاي، فقط الشاي وظل الرجال يستمعون إلى ما يشبه المحاضرة من د. عواطف التي لم يظهر عليها الاندهاش من عدم حضور النساء. تكررت تجربة عرض الأفلام في الصعيد بقصور ثقافية أخرى لم أحضرها مع عطيات وكانت تأخذ شكل المحاضرة تلقيها المخرجة وأستاذة علم الاجتماع دونما الحاجة إلى وجود ناقد سينمائي يحلل الأفلام فنيا. والآن حين أكتب عن عطيات بعد مرور سنوات على كتابتي لدراسة عنها بمجلة الفن السابع عنوانها (عطيات الأبنودي موسيقى البسطاء) يسيطر على ذهني سؤال حول مصير راوية فنانة الخزف وشخصية فيلم "راوية" هل استمرت في عملها، هل نجحت في الحصول على حقها من ايفلين، السويسرية التي أقامت مشروعا لصناعة الخزف في قرية بالفيوم، وعلمت فلاحات وفلاحين كيف يصممون القطع الخزفية ويحرقونها ويلونوها وكانت راوية التي سجلت عطيات الأبنودي تجربتها في فيلم تسجيلي قصير، هل تزوجت راوية وأصبحت تنام من المغرب كما سيدات سوهاج، وما مصير توحة الحزينة، ونجاة بطلة فيلم نساء مسئولات، أين أنت يا عطيات العظيمة وأين بطلاتك؟ هل ساهمت أفلامك في تحقيق قدر من المكاسب لهن، هل أصبحتن نموذجا يحتذى لتمرد المرأة البسيطة على وضعها في مجتمع ذكوري وبيئة يسيطر عليها الرجال؟ غيبك الموت يا عطيات وفاتني أن أسألك وأنت التي قلت لي أن للفنان وظيفة مجتمعية بعد اختيارك للفيلم التسجيلي عن سبق إصرار وترصد. قرأ الناقد الكبير الراحل فتحي فرج مقالا لي عن عطيات، قال لي بانفعال أنت لا تكتبين عنها نقدا أنت مؤمنة بها، إعجابي بعطيات وعملها أخذ معي شكلا من أشكال الانبهار بشخصيتها القوية وقددرتها على تصوير "الأحلام الممكنة" لبطلاتها، كنت أجدها فيهن راوية ونجاة، ولا تغيب عني صورتها حين أسمع أغنية من تأليف الأبنودي، وخاصة أغنية مادام معاي اللي بحبه وبريده، مادام معاي، وبنقسم اللقمة وبنشرب شاي..، عطيات التي تركت اسم الوالد عوض واتخذت لنفسها اسما مقترنا بالزوج فأصبحت عطيات الأبنودي على غرار سيدات الغرب، فهذه هي عطيات المعجونة بتراب الأرض، الفلاحة المصرية في صميم تركيبتها والمثقفة الثورية على الطريقة الغربية، تكتب بصراحة عن تجربة غياب الأبنودي في السجن كمعتفل سياسي فيكون كتابها "أيام لم تكن معه" كمذكرات زوجة معتقل في أجواء المعارضة السياسية لنظام دكتاتوري رغم قراراته التي صبت في صالح نجاة وتوحة وراوية. حين اختارها فريق مهرجان أسوان لأفلام المرأة للتكريم في دورته الثانية مع ماريان خوري المنتجة ومؤسسة زاوية وناهد نصر الله فنانة تصميم الملابس كان حضورها على كرسي متحرك مؤلما لي، تحول الحزن داخلي إلى فرحة كبيرة بلقائها حين هللت في استقبالي وقد تباطأت الكلمات على شفتيها، وسط دموع يختلط فيها الفرح مع الأسى اعتذرت لها عن غيابي عن زيارتها، ووعدتها بالزيارة، دفعت كرسيها لندخل القاعة مما أعطى فسحة قليلة لابنتها بالتبنى أسماء يحى الطاهر عبد الله لترعى الحفيد، أحضرته واحتضنته عطيات وهى على كرسيها مبتسمة لوجودها في قاعة العرض، جدة ككل الجدات محاطة بحب واحترام ممن عرفها شخصيا وممن تعرف على أفلامها فقط، تكريمها جاء تكريما لفن الفيلم التسجيلي ولدورها في تعريفنا بكل هاته النساء النابغات، نساء تزخر بهن مصر وتستمد قوتها في التفرد بمجتمع أمومي تقود فيه النساء أسرهن نحو حياة أفضل. غابت النساء عن الاحتفال في مضيفة قرية سوهاج ولكنهن حضرن مع عطيات باقيات في الصورة الفيلمية الخالدة في الأعمال التي تركتها عطيات التي ما زالت حاضرة تفرض علينا احترامها والإيمان بكل ما آمنت به من دور تجاه نساء مصر وشعبها البسيط  مع "الأحلام الممكنة"، "ونساء مسئولات". صفاء الليثي يناير 2019

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004