جديد الموقع

 
 
 
 
 
 
 
 

لاحق

<<

31

30

29

28

27

26

>>

سابق

 
 
 
 
 
 
 

الفنانة صاحبة الرسالة

بقلم: تامر عزت

 
 
 
 
 
 
 
 

لم أكن أعرف حين التقيت بها للمرة الأولى عام 1995 إنني سوف أتعرف على إنسانة راقية وسيدة مثقفة من الطراز الأول وفنانة صاحبة رسالة وإننا ستستمر صداقتنا أربعة وعشرين عاما تلت. دخلت علىّ عطيات الأبنودي غرفة المونتاج وكانت ترتدي أحد فساتينها الفضفاضة الملونة المشغولة بالموتيفات المصرية وكان معها المادة المصورة لفيلمها القصير "راوية". كنت وقتها حديث التخرج وفي بدايات رحلتي في مهنة المونتاج وكان التعارف بيننا بواسطة الصديقة نادية كامل التي كنت قد عملت معها كمساعد مخرج في مونتاج فيلم "صبيان وبنات" للمخرج يسري نصرالله، وكان المونتاج الرقمي في بداياته في مصر وكان لدى كل المخرجين فضول للتعرف على هذه التكنولوجيا الجديدة. تعرفت على عطيات وشرحت لها طريقة عمل المونتاج على الكومبيوتر بدلا من الشرائط التقليدية وأدركت هي من أول لحظة فائدة العمل على هذه الأنظمة لأنها تعطي المخرجين مساحة أكبر للتجريب وبالتالي للوصول لقرارات فنية أفضل. لم أكن وقتها أعرف من هي عطيات الأبنودي المخرجة التسجيلية المهمة وبناء عليه طلبت منها أن تعيرني بعضا من أفلامها السابقة فلم تكن الأفلام التسجيلية تعرض وقتها إلا في إطار مهرجانات أو عروض محدودة في ندوات أو مراكز ثقافية. أعارتني النسخ وشاهدت عدة أفلام مثل الساندوتش وأغنية توحة الحزينة ولكن الفيلم الذي أسرني وأبهرني ومازلت أذكر تأثيره كان من أوائل أفلامها وهو فيلم "حصان الطين". حصان الطين فيلم تسجيلي نقي تقود فيه لغة الصورة كل السرد ولا توجد به جملة تعليق واحدة ولكنه مؤثر جدا وبه كم هائل من الإنسانية والواقعية. تأثرت جدا بهذا الفيلم ومازلت اعتبره من جواهر السينما التسجيلية المصرية لا يضاهيه جمالا إلا فيلم آخر من إخراجها أيضا ومصنوع بنفس الروح ولكنه فيلم طويل تم إنتاجه بعدها بسنوات طويلة هو فيلم "قطار النوبة" وهو فيلم لم يأخذ حقه من الاهتمام كما هو حال كل الأعمال المهمة في السينما التسجيلية عندنا. قطار النوبة فيلم تسجيلي به سينما خالصة لا توجد به لقاءات مع ضيوف أو صوت تعليق وإنما فقط كاميرا داخل القطار ترصد البشر.. وتوثق الرحلة السنوية الطويلة التي يقوم بها النوبيون من القاهرة إلى النوبة لقضاء العيد.

بدأنا العمل على مونتاج فيلم راوية ولاحظت كيف تعمل هذه السيدة فهي منظمة تنظيما نادرا لم أقابله بعدها أثناء عملي في المونتاج إلا في حالات قليلة وكانت طريقتها ودقتها في كل تفاصيل العمل من المؤثرات الأساسية في طريقة عملي كمخرج مستقبلا، ولكن ما لفت انتباهي وأثر في - وحملته في داخلى ليكون محركا لي في اختياراتي فيما بعد حينما أصبحت مخرجا للأفلام التسجيلية – هو حبها الجم لشخصيات أفلامها وتعاطفهم الإنساني معها. كانت راوية فتاة صغيرة من قرية تونس بالفيوم تقوم بأعمال الفخار وكان لديها أحلام بالدراسة وطموحات شخصية بسيطة. كانت ذات ابتسامة جميلة وكان الفيلم بسيطا جدا لا يريد أن يثبت للعالم أي شيء أكثر من أن هذه الفتاة الريفية لها أحلام ومن حقها أن تحلم وأن تتعلم وأن تعمل وأن تكون قادرة على التأثير فيمن حولها. وأعتقد إنني بعد أن عملت مع عطيات في أعمال أخرى مثل أحلام البنات وأيام الديموقراطية لاحظت أن هذه ثيمة ترددت كثيرا في أعمالها خصوصا في الفترة التي عملت فيها معها. كان تمكين المرأة من همومها الشخصية ولم تكن تتحدث عن هذا كثيرا بالكلام ولكن كان واضحا من خلال أفلامها. فكانت شخصيات الأفلام الثلاثة نسائية متنوعة الخلفيات تتراوح بيم الريف والحضر وكانت هذه الشخصيات دائما شخصيات قوية وفاعلة كما كانت عطيات نفسها شخصية قوية وفاعلة.

وعلى جانب آخر كنت دائما ومازلت معجبا بقدرتها على اختيار أسماء لا تنسى لأفلامها، فمن أكثر ما تميزت به عطيات عن غيرها من المخرجين والمخرجات - بخلاف طبعا عمق وبساطة افلامها على السواء - هو قدرتها على اختيار أسماء شعرية لأفلامها فتحس وأنت تقرأ اسم الفيلم إنك على وشك أن تسمع قصيدة شعر. فلنتأمل مثلا افلاما اسماؤها مثل: بحار العطش، أغنية توحة الحزينة، الأحلام الممكنة، اللي باع واللي اشترى، حديث الغرفة رقم 8، الساندوتش، حصان الطين وغيرها كثير. كلها اسماء تحمل عمقا وشاعرية وتناقضا يجعلنا نبدأ في التفكير بمجرد سماع الاسم وقبل أن نبدأ بمشاهدة الفيلم. ومازلت حتى يومنا هذا أتذكر طريقتها في تسمية أفلامها وأنا بصدد اختيار عنوان لفيلم جديد أصنعه. كان اهتمام عطيات بتيمات مثل المرأة والديموقراطية والحرية واضحا في أعمالها المختلفة ولكنها كانت أيضا فخورة بمصريتها جدا وكان هذا لا يخفى على أحد وكانت تعشق اللغة العامية والتاريخ المصري والإنسان المصري البسيط.

تطورت علاقتنا الإنسانية لتصبح صداقة وأخوة فهي كانت بمثابة الأخت الكبرى أو الأم الروحية ليست لي فقط ولكن لكل العاملين معها. ولا أدري ماذا كانت تفعل ولكنها كانت تختار من يعمل معها بمعايير مهنية طبعا ولكن معايير إنسانية أيضا وكان هذا واضحا في الشخصيات المتميزة التي تعرفت عليها من خلالها مثل مدير التصوير محمد شفيق ومهندس الصوت جاسر خورشيد والكاتب بلال فضل وغيرهم وكانت دائما ما تجمعنا عطيات عندها في البيت وتطهو لنا وكانت أحاديثنا لا تقتصر على العمل فقط بل أصبحنا أسرة وأصدقاء تجمعنا روح أوسع بكثير من إطار العمل في الأفلام التي كنا نصنعها معها.

عطيات كما عرفتها كانت من الشخصيات المتفردة في جيلها ولا أبالع إن قلت إنني لا أعتقد أنها سوف تتكرر في الأجيال الحالية أو القادمة. لن تتكرر بحجم ثقافتها وتقدميتها واستقلاليتها وحريتها وحبها لمصر. ستظل دائما معي وبداخلي وستظل دائما حية بحصيلة أفلامها القيمة والمتميزة. كنت من المحظوظين أنني عرفتها وعملت معها وأنصح كل من يحب مشاهدة الأفلام التسجيلية ألا يضيع أي فرصة لمشاهدة أفلام عطيات الأبنودى أكثر من مرة فهي بكل تأكيد سوف تجعلنا نشعر ونفكر ونفرح ونحزن ونتعلم من الحياة أن الأحلام ممكنة. رحمك الله يا عطيات.

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004