كل عام، تمر علينا ذكرى غياب السندريلا.. تمر لنعيشها بشعور عميق شديد
التأثر بافتقادها، هذا بالرغم من اعتزالها التمثيل والمجتمع كله قبل سنوات
طويلة من رحيلها.. على اعتبار أن جيل الستينات والسبعينات والثمانينات عاش
في حضرة فنها الجميل.. رحلت وتركت إرثاً زاخراً بالإنجازات الفنية.. رحلت
لتولد فينا عشق لذكريات الفن الجميل.. رحلت لتترك الجميع في حيرة وجدل حول
سر رحيلها، والصحافة كل يوم تطالعنا بجديد من أسرار حياتها، ولتجعل من
السندريلا مارلين مونرو جديدة. رحلت لنرى السينما المصرية والعربية بشكل
عام، تفتقد لفنانة نادرة لم ولن تتكرر.
الراحلة سعاد حسني، أو سندريلا الشاشة المصرية.. فنانة بكل ما تحمله هذه
الكلمة من معنى.. ممثلة رائعة وغير عادية، تعطي في كل الأدوار بدون افتعال،
تصل إلى القلوب بسرعة ملفتة.. تتمتع بعبقرية حقيقية في الوصول لأعمق
الأعماق من المعاني.. هذه هي سعاد حسني التي لن تتكرر أبداً في تاريخ
السينما المصرية.
سعاد حسني فنانة ولدت معها النجومية .. طفولتها خلت من الراحة، مما أنتج
شخصية ذات تركيبة شديدة الخصوصية ، تملك قدرة الإضحاك رغم أنها أقرب الى
الحزن.. يفرحنا ويبكينا عطائها الصادق المتدفق، تألقت خلال 50 عاماً من
تاريخ السينما المصرية. سعاد حسني علامة فنية أخرى تصاحب فاتن حمامة على
الشاشة المصرية.
مشوار سعاد حسني، مشوق وله سحر خاص.. حيث هذا التواجد الفني الطاغي والأداء
المذهل والخاص لكل فيلم، يجعل منها ممثلة موهوبة خارقة في كل مرحلة.. مشوار
طويل ومليء بالحواجز والآمال الكبيرة والأحلام المجمدة، وكأنها تسير مغمضة
العينين على أرض كلها متفجرات.. ومع ذلك كانت خطواتها الجادة وحسها السليم
ونظرتها الثاقبة والنابعة من الأعماق، تمهد لها طريقاً سلساً وواقياً
يحميها من كل الثغرات.
البداية:
حسن ونعيمة وبركات ومحمد عبد الوهاب وعبد الرحمن الخميسي، إشتركوا جميعاً
في خلق بداية نجمة براقة تضيء السينما المصرية بنعومة مفرطة.. نعم كانت
الوجه الجديد والبطلة في نفس الوقت في فيلم (حسن ونعيمة) عام 1959 أمام
الصوت الشاب محرم فؤاد.
كانت سعاد وقتها تملأ أستوديوهات الإذاعة شقاوة، وهي طفلة صغيرة في برامج
الأطفال، تغني أغنيتها المشهورة (أنا سعاد أخت القمر بين العباد حسني
إشتهر). وفعلاً.. وقفت الفتاة النحيلة، ذات العيون الذكية البراقة، إبنة
الرابعة عشرة، لتواجه كاميرات السينما للمرة الأولى، بثبات وقدرة فائقة على
التعلم والتأقلم.
تتذكر سعاد حسني، فتقول: (...يومها لم أخف من الكاميرا، ولم أشعر بتلك
الرهبة التي كانوا يتحدثون عنها حينما يقف الممثل لأول مرة أمام الكاميرا..
سؤال واحد كان يتردد في ذهني، وهو هل سأنجح وأستمر في عملي هذا أم لا؟...).
هكذا وصفت سعاد حسني شعورها حين وقفت لأول مرة أمام الكاميرا.. أما الآن،
وبعد خمسة وثلاثين عاماً على ظهورها الأول، وتربعها علي قمة النجاح، فمشاعر
الخوف والقلق يلازمانها مع كل فيلم جديد تقدمه، فالخوف والقلق أصبحا مفتاح
شخصيتها، ولولاهما لما إستطاعت الوصول الى هذه القمة الفنية.
ومع عرض فيلم (حسن ونعيمة)، ولدت نجمة إحتلت مكانها في القلوب، كنموذج
للفتاة العصرية الطموحة المنطلقة والمنفتحة على الحياة والعمل والحب..
وبرزت سعاد حسني كممثلة جديدة تفوق ممثلات جيلها موهبة وحضوراً وقدرة على
التعبير، وإستطاعت أن تخطو نحو الشهرة والنجومية لتترشح كنجمة أولى عبر
أدوار عديدة.. هذا إضافة الى تميزها بالحضور القوي، والصدق في الأداء،
والتلقائية في التعبير، وخفة الروح والجاذبية.. فضلاً عن التنوع في أداء
الشخصيات، ففي بداية مشوارها مع السينما، غلب على أدوارها شخصية الفتاة
الطيبة والشقية في آن واحد، وهي الشخصية التي كانت محبوبة لدى الجماهير.
والحديث عن مشوار الفنانة "سعاد حسني"، حديث مشوق وله سحر خاص.. حيث هذا
التواجد الفني الطاغي والأداء المذهل والخاص لكل فيلم، يجعل منها ممثلة
موهوبة خارقة في كل مرحلة.. مشوار طويل ومليء بالحواجز والآمال الكبيرة
والأحلام المجمدة، وكأنها تسير مغمضة العينين على أرض كلها متفجرات.. ومع
ذلك كانت خطواتها الجادة وحسها السليم ونظرتها الثاقبة والنابعة من
الأعماق، تمهد لها طريقاً سلساً وواقياً يحميها من كل الثغرات.
البداية إذاً كانت مع فيلم (حسن ونعيمة ) عام 1959، وذلك عندما إجتمع رأي
المخرج هنري بركات والمنتج الموسيقار محمد عبدالوهاب والفنان عبدالرحمن
الخميسي، على تقديم وجه جديد للشاشة الفضية، ليشارك المطرب الصاعد ـ آنذاك
ـ "محرم فؤاد" بطولة الفيلم.
مرحلة الإنتشار
بعد فيلمها الأول، ظهرت سعاد حسني في دورين صغيرين في فيلمي (ثلاث رجال
وإمرأة ) و(البنات والصيف).. ثم إنتقلت سريعاً الى الأدوار الأولى، في
أفلام لقيت نجاحاً كبيراً، مثل مال ونساء، السبع بنات، إشاعة حب، وغيرها.
وفي مرحلة مايسمى بـ «الإنتشار» قدمت سعاد حسني كم هائل من الأفلام، وصارت
تقبل الإشتراك في أفلام، ليس لأجل قيمتها الفنية وإنما بقصد الشهرة والرواج
والبروز في الساحة الفنية.. وبالتالي ظهرت في أفلام ذات مستوى متواضع
وعادي، بل ومستوى رديء أحياناً.. وكانت تقوم ببطولة خمسة أو ستة أفلام كل
عام.. ففي عام 1961 قدمت ستة أفلام، وفي عام 1962 قدمت خمسة أفلام، وفي عام
1964 قامت ببطولة سبعة أفلام.. أفلام مثل السفيرة عزيزة، الأشقياء الثلاثة،
شقاوة بنات، عائلة زيزي، الساحرة الصغيرة، للرجال فقط، جناب السفير.
مرحلة الإختيار والنضج الفني
وبالرغم من أن هذه الأفلام قد حققت لها الشهرة وكرستها كنجمة شباك وجعلت
المنتجين يتهافتون عليها، إلا أنها لم تخدم طموح سعاد، ولم تحقق ذاتها أو
تصل بها الى المكانة التي طالما داعبت خيالها.. لذلك فهي لم تنجرف كلياً
ضمن هذا التيار، بل إتجهت الى إنتقاء الأدوار والـدقـة ـ الى حدٍ ما ـ في
الإختـيار والتـنوع.. وكـان دورها الـصعب والهـام في فيلم (القاهرة 30)
بداية لمرحلة فنية جديدة، تميزت بالجد والنضج.. والى هذه المرحلة تنتمي
أدوارها في أفلام مثل الزوجة الثانية، شيء من العذاب، نادية، الحب الضائع.
وتعتبر مرحلة السبعينات، من أخصب المراحل الفنية التي مرت بها سعاد، حيث
قدمت فيها أدواراً مهمة ومتميزة لمخرجين كبار.. فمع المخرج كمال الشيخ،
قدمت أفلام بئر الحرمان، غروب وشروق، على من نطلق الرصاص.. ومع يوسف شاهين،
قدمت فيلمين هما الإختيار، الناس والنيل.. ومع سعيد مرزوق، قدمت زوجتي
والكلب، الخوف.. ومع عليّ بدرخان، قدمت أفلام الحب الذي كان، الكرنك، شفيقة
ومتولي، أهل القمة، الجوع.
مرحلة الفيلم الإستعراضي
لقد قامت سعاد حسني بأداد مختلف الأدوار، وكانت تحرص دوماً على التنوع في
الإختيار، وعدم تكرار نفسها ضمن نمط معين من الشخصيات.. فهي ترفض أن تُسجن
داخل قالب ثابت ومحدد.. وهذا ما جعلها تخوض مختلف المجالات، ومن ضمنها مجال
الفيلم الإستعراضي.. فكانت أولى تجاربها الإستعراضية في فيلم (صغيرة على
الحب) عام 1966، الذي أخرجه نيازي مصطفى.
أما تجربتها الثانية، والمهمة في الإستعراض، فكانت في فيلم (خللي بالك من
زوزو) عام 1972، مع المخرج حسن الإمام. هذا الفيلم الذي حقق نجاحاً
جماهيرياً كبيراً، وحطم الأرقام القياسية في مدة العرض، حيث إستمر عرضه
عاماً كاملاً. وقد كان حضور سعاد حسني طاغياً في هذا الفيلم، حيث كانت تغني
وترقص وتمثل وتحب وتبكي وتثأر لكرامتها، وتخاطب الرجل الذي يعجبها قائلة له
بغزل «ياواد ياتقيل».
وقد حاول حسن الإمام إستثمار هذا النجاح الذي حققه (خللي بالك من زوزو)،
فقدم نسخة مكررة منه، في فيلم (أميرة .. حبي أنا).. وبالطبع لم يلاقِ نفس
النجاح المتوقع، والذي حققه الفيلم السابق.
ثم جاءت تجربتها التالية في الإستعراض بفيلم (المتوحشة) عام 1979 للمخرج
سمير سيف، وكان هذا الفيلم هو أول إنتاج لسعاد حسني مع رأفت الميهي وصلاح
جاهين.. إلا أن الفيلم فشل فنياً بسبب ضعف السيناريو، وظروف أخرى.
حذر وخوف ملحوظ
مع بداية الثمانينات، بدأت سعاد حسني في الإقلال من الظهور على الشاشة بشكل
ملحوظ، حيث رفضت العديد من السيناريوهات لعدم إقتناعها بالأدوار المعروضة
عليها.. ثم أن إمتناعها عن أداء تلك الأدوار لايرجع الى حرصها على الإنتقاء
فحسب، بل أيضاً الى أعذار السينما المصرية، وظهور كم هائل من الأفلام
الهابطة والمصنوعة أساساً لغرض الربح التجاري، دون أي إهتمام بالقيمة
الفنية.
تتحدث سعاد حسني، في لحظة مواجهة مع النفس، فتقول: (...لا أريد أن يأتي
الخريف.. فلا أجد مايبعث الدفء في مشاعري.. وأحس بأنني نسيت في غمرة كل
ماقدمت، أن أقدم الذي كان يجب أن أقدمه.. لا أريد أن تسرقني دوامة العمل،
فيفقد العمل معناه.. أريد أن أحقق في الفترة القادمة أشياء محددة بعينها،
وأشعر بالرضا عنها...).
وتواصل سعاد إعترافاتها، فتقول: (...عندي من الثقة مايجعلني أتطور
باستمرار، وروح التغيير متأججة بداخلي.. ولكن هل الجو العام يساعد على
تحقيق هذا؟ أنا أصطدم بأشياء كثيرة تعوق هذا الإندفاع، بل توقفه، فالمستوى
العام للسينما في هبوط، رغم وجود بوادر أمل، ومؤشر لتغيير جديد في رغبات
المتفرج...).
وبصراحة، تقول سعاد حسني: (...راودتني فكرة الكبر والزمن والشيخوخة منذ عام
1981، فاهتززت بشكل هائل، إلا أنني تمكنت من السيطرة على نفسي، لأن هذا
الإحساس لو تمكن مني فمعناه النهاية.. والآن لا أعرف كيف أستعد لهذا
التغيير!؟ وكيف سأواجهه، وعلى أي صورة سيكون شكلي خلال الأعوام القادمة!؟
إنني موقنة بأن الخريف قادم، وإن الزمن يتربص بنا ليوجه ضرباته المتتالية
لتغيير الملامح والألوان.. وأعرف إن السينما عندنا تفضل الشباب والجمال
وتفتح لهما مجالاً واسعاً...).
وتواصل سعاد حديثها، فتقول: (...فكرة الإعتزال موجودة في ذهني منذ سنوات،
وليس عندي أي مانع في الإعتزال.. فلم أعد متشبثة بالسينما كما كنت في
الفترات السابقة، بل أصبحت أكثر مرونة.. لم تعد السينما وحدها تملك أن
تعطيني هذا الإحساس، ولاشك إن هذا تغير جوهري بالنسبة لي، ولكني أشعر به..
وعندما أفقد القدرة على تقديم جديد، وأقوم بدور ثاني في الحياة، سوف أتوقف
على الفور، وبلا تراجع...).
ومن إعترافات سعاد حسني هذه، نستشف مدى سيطرة الرقيب الداخلي عند الإنسان،
حيث الحذر والتدقيق في إختيارها للأدوار.. ففي السنوات العشر الأخيرة،
إستطاعت سعاد حسني بفضل هذا الرقيب، أن تقدم أدواراً متميزة وهامة.. فقد
أصبحت البطولة لا تهمها، بقدر مايهمها قوة الدور، طال أو قصر.. فهي في فيلم
(عصفور من الشرق) تقدم دور قصير وصامت، وهي في فيلم (الجوع) تكتفي بدور
ثانٍ مهم.
أما بالنسبة لتجربتها في فيلم (الدرجة الثالثة)، فقد كان من المفترض أن
تقدم فيه إستعراضات غنائية، لولا وفاة الفنان صلاح جاهين، وهو من الأصدقاء
المقربين جداً لسعاد، وقد شاركها في جميع تجاربها الإستعراضية ككاتب، وغياب
هذا الفنان قد أشعرها بالضياع فبدت مترددة وغير واثقة من نفسها.. مما جعلها
تتغيب عن بروفات الإستعراضات، والتي لم تصور بعد.. وأمام إصرار المنتج،
إستسلم المخرج شريف عرفة وجهز الفيلم للعرض.. وفعلاً عرض الفيلم، وجاء دور
سعاد حسني باهتاً لا معنى له، حيث فقد أجمل مافيه، ألا وهو الإستعراضات.
وفي آخر أفلامها (الراعي والنساء) تألقت سعاد حسني، وقدمت درساً بليغاً في
الأداء الرصين، وأمتعتنا بلحظات من العذوبة والدفء والشجن.
أفلام وجوائز
أما بالنسبة للجوائز، في حياة سعاد حسني، فهي كثيرة، خصوصاً مع فنانة شاملة
مثلها.. فمن أهم الجوائز، جائزة الدولة الثانية عن دورها المميز في فيلم
(الزوجة الثانية) عام 1968، وجائزة الدولة الثانية عن دورها في فيلم (الحب
الذي كان) عام 1974، وجائزة الدولة الأولى عن دورها في فيلم (أين عقلي) عام
1975.. وكانت آخر جائزة حصلت عليها سعاد حسني، من جمعية الفيلم، كأفضل
ممثلة عن عشر سنوات، منذ 1975 الى 1984.
هذه هي الفنانة سعاد حسني، أو سندريلا الشاشة المصرية.. فنانة بكل ماتحمله
هذه الكلمة من معنى.. ممثلة ممتازة وغير عادية، قادرة على أن تعطي في كل
الأدوار بدون إفتعال، وقادرة أن تصل الى القلوب بسرعة ملفتة.. فنانة تتمتع
بعبقرية حقيقية في التوصيل لأعمق الأعماق من المعاني.. هذه هي سعاد حسني
التي لن تتكرر أبداً في تاريخ السينما المصرية. |