في مشوارنا مع نجوم الفيلم الغنائي، نصل الى محطتنا الأخيرة، ألا وهى محطة
الفنان عبدالحليم حافظ، هذا الفنان المعجزة. حيث لم يكن عبدالحليم حافظ
مجرد عبقرية فنية، أثرى الوجدان العربي بحلاوة صوته وعمق أدائه فحسب، بل
إنه شكَّل مرحلة فنية قائمة بذاتها، وكان تجسيداً حقيقياً لعصر بكامله..
كان مرآة لعصره، وترمومتراً لأحاسيس الشعب العربي عاطفياً ووطنياً وقومياً.
إن فناننا في هذه الحلقة، يجمع بين الموهبة والذكاء والعطاء.. فقد نشأ وفي
داخله مقومات الفنان، وكان ذكياً في توظيف هذه الموهبة وهذه القدرات الفنية
لديه، إضافة الى عطاءه الغزير لفنه، والذي بدى وكأنه النهر الذي يروي
الوجدان. لقد كان عبدالحليم حافظ ظاهرة قومية، لها أبعادها النفسية
والإجتماعية والسياسية، وإستطاع ـ بأغنياته ـ أن يشكل وجدان جيلين، بل إن
هذا الدور مازال قائماً الى الآن.
ولد عبدالحليم حافظ في الحادي والعشرون من يونيو عام 1929، ونشأ في قرية
الحلوات، حيث عانى من نفس المشكلات التي عانى ويعاني منها الملايين من
أبناء مصر، بل إن حياة عبدالحليم شبانة ـ وهذا إسمه الحقيقي ـ صاحبتها ظروف
صعبة وقاسية، من الضياع والفشل والنجاح في آنٍ واحد. فقد عرف عبدالحليم
اليتم والفقر والمرض، فاكتسب بذلك ملامح الشخصية الميلودرامية.
فقد ماتت والدته بعد أسبوع من ولادته، ومات والده في نفس السنة، فكفلته
عمته أشهراً قليلة ثم ماتت هي الأخرى، ثم كفله ـ وأخوته الأربعة ـ خاله
متولي عماشة الموظف بوزارة الزراعة، والذي نقلهم ليعيشوا معه في مدينة
الزقازيق. وبعد بلوغ عبدالحليم سن السادسة، ألحقه خاله بالكتَّاب ثم
بالمدرسة الإبتدائية، لكنه أدمن الهروب منها، مما دفع خاله بأن يدخله
الملجأ، وكان عمره وقتها تسع سنوات. وقد أمضى عبدالحليم في الملجأ ثماني
سنوات، أضافت الى شخصيته ـ بالتأكيد ـ أبعاداً جديدة. وقتها بدأ شغفه
بالأناشيد والأغاني، وتكرر هروبه ـ أيضاً ـ من الملجأ الى موسيقى المطافيء
بالزقازيق، ليتعلم العزف على آلة الكلارنيت، على يد رئيس الفرقة الموسيقية
هناك، وكانت تلك أول آلة موسيقية يتعلم العزف عليها. إلا أنه وجد في الملجأ
فرقة موسيقية تعزف الآلات النحاسية، فأظهر ولعاً شديداً بالموسيقى، مما دفع
مدرس الموسيقى بأن يحتضنه ويعلمه العزف على آلة الأبوا، بالإضافة الى تعلمه
مهنة الحياكة التي ستؤهله للعمل كخياط بعد تخرجه من الملجأ. وبعد أن حقق
عبدالحليم مستوى طيباً من التحصيل العلمي، تقدم للحصول على الشهادة
الإبتدائية، وحصل عليها فعلاً. وكانت تلك الشهادة العلمية الأولى والأخيرة
التي حصل عليها في حياته.
وفي السادس عشر من نوفمبر عام 1945، إنتقل عبدالحليم الى القاهرة، وكان
عالمه قد تحدد في الغناء والموسيقى، سبقه الى ذلك شقيقه الأكبر إسماعيل
شبانة، والذي حصل على دبلوم معهد الموسيقى العربية، أما عبدالحليم فقد تخصص
في آلة الأبوا. وفي الخامس والعشرون من مايو عام 1948، تخرج عبدالحليم من
المعهد، في الدفعة نفسها التي كانت تضم كمال الطويل وأحمد فؤاد حسـن
وفـايــدة كــامـل وعليّ إسماعيل.
وبدأ عبدالحليم حياته العملية مدرساً للموسيقى بمدرسة طنطا الإبتدائية،
وإستمر بها أربعة أعوام، ثم إنتقل الى مدرسة الزقازيق، وسافر بعدها الى
القاهرة. وقد كانت البلهارسيا هي رفيق عبدالحليم في إنتقاله من الزقازيق
الى القاهرة، حيث تبين له إصابته بها وهو في سن العاشرة أثناء إقامته في
الملجأ. وقد رفض عبدالحليم ـ قبل أن يجاوز الثانية عشر ـ أن يمتثل للعلاج
خوفاً من حقن الطرطير، لذا لزم المرض جسده الى أن فاجأه ذات ليلة بنزيف
دموي. ثم تلاحقت الأزمات، وتلاحقت العمليات الجراحية لتصل الى سبعة وستون
عملية، أزيل فيها الطحال ونصف المعدة وأربعة ضلوع، فضلاً عن مئات الحقن في
المريء.
وفي القاهرة، أتاح له المذيع حافظ عبدالوهاب ـ وكان مراقباً للموسيقى
والغناء في الإذاعة ـ فرصة العمل كمطرب. وتقديراً وعرفاناً من عبدالحليم
شبانة، أطلق على نفسه إسم عبدالحليم حافظ، تكريماً لإسم حافظ عبدالوهاب.
كما عمل عازفاً على آلة الأبوا ضمن فرقة الإذاعة الموسيقية.
وكانت الفرصة الأولى لعبدالحليم بالوقوف على المسرح للغناء في الثالث
والعشرون من يوليو عام 1953، وذلك في الحفل الكبير الذي أقيم بمناسبة
الذكرى الأولى للثورة. وبقدر ما كانت الفرصة رائعة، كان الإمتحان قاسياً،
فقد كان نجوم ذلك الحفل كل الأسماء اللامعة في دنيا الغناء المصري آنذاك:
فريد الأصرش، محمد فوزي، كارم وعبدالعزيز محمود، شادية، وغيرهم. أما
عبدالحليم، فقد غنى
"صافيني
مرة"
من تلحين محمد الموجي، وأغاني أخرى.
بعدها أعجب محمد عبدالوهاب بصوته، فتعاقد معه لمدة عامين، لم يتحرك فيهما
عبدالحليم في الإتجاه الذي ينشده خطوة واحدة، ذلك لأن عبدالوهاب إكتفى
بتوقيع العقد دون أن يتيح لعبدالحليم فرصة الغناء.
وقد عانى عبدالحليم في الغناء بطريقة الدوبلاج على شاشة السينما، حيث سجل
بصوته أغنية
"ليه
تحسب الأيام"
في فيلم (بعد الوداع ـ 1953)، وأغنية
"لو
كنت يوم على قلبي تهون"
في فيلم (فجر ـ 1955). كما غنى عبدالحليم في أربعة أفلام، لم يحاول مخرجوها
أن يتيحوا له الظهور حتى ولو في لقطة سينمائية واحدة، مما عكس تأثيراً
سلبياً في نفسية الفنان، يصعب إغفاله أو التهوين من قيمته. إلا أن الإصرار
الذي كان أهم أبعاد شخصية عبدالحليم، جعله ينتظر الفرصة المفتقدة
وإقتناصها. تلك الفرصة التي جاءت عندما عرض عليه عبدالوهاب بطولة فيلم (لحن
الوفاء) أمام شادية. وبسبب تعثر إنتاج هذه القصة، تولتها شركة أخرى
للإنتاج، وهي شركة أفلام المخرج إبراهيم عمارة.
لقد كان فيلم (لحن الوفاء ـ 1955) بداية جديدة فعلية لعبدالحليم حافظ، جاوز
بها ظروفه النفسية والمادية معاً، فقد كان قد إقترض معظم البدل التي
إرتداها في هذا الفيلم. وقد وفق عبدالحليم حافظ، أو إن الظروف هي التي
ساعدته في إختيار الوقت الذي بدأ فيه خطواته السـينـمائية الأولى، فظــهر
له ـ وفي شـهر واحــد ـ فـيــلــمـان لحن الوفاء، أيامنا الحلوة. فإذا قمنا
برصد الأفلام التي قدمتها السينما المصرية في نفس العام، وجدنا أن اللون
الإستعراضي والغنائي كان يقدم آخر مالديه، فقد كانت هناك أفلام لمحمــد
الكـحـلاوي ومحمد عبدالمطلب وليلى مراد ومحمد فوزي وغيرهم. كما شهدت
السنوات التالية إعتزال البعض، ووفاة البعض الآخر. ولم يبقى سوى فريد
الأطرش، الذي أتاح له عشاق فنه أن يواصل عطاءه السينمائي الى أن توفي عام
1975.
لكن أفلام عبدالحليم حافظ، بدأً بلحن الوفاء الى أبي فوق الشجرة، إستطاعت
أن تحقق نجاحاً واضحاً بين أفلام الفترة. وبالتالي أضافت إليه والى مشواره
الفني الكثير، ليس بتفوقها الفني، ولكن بالتيمة الروائية المتشابهة لتلك
الأفلام.. الشاب الذي يواجه العديد من المتاعب أو العقبات، الحاجة المادية،
الإخفاق في بلوغ الهدف، الإصابة بمرض خطير، الضياع بين أبوين منفصلين،
التضحية بالحب توصلاً لإسعاد الحبيب وغيرها من المواضيع.
وقد أضافت رحلة المعاناة مع الفقر والمرض، بعداً جديداً في المأساة التي
لامست مشاعر المعجبين بفن عبدالحليم حافظ، فهو ذلك الشاب اليتيم الذي قضى
طفولته في الملجأ، ولم ينقذه من المصير المؤلم سوى موهبته وإصراره على تحدي
كل هذه الظروف. وإن ملامسة مشاعر المتلقي بمأساة تكاد تبدو شخصية، قد أدى
بالفعل الى نجاح الأفلام التي قام ببطولتها عبدالحليم حافظ، فمعظم أفلامه
تقترب من حياته كما كانت. وكان البعض يتصور ـ فعلاً ـ إن هذا الفيلم أو
ذاك، يروي جانباً من حياة الفنان. فقد حرص عبدالحليم على مزج الواقع
بالخيال، ونجح في مخاطبة المتلقي بأفلام وأغنيات يسهل نسبتها الى جوانب من
حياته الحقيقية. وكان ذلك عاملاً مؤكداً في توثيق الصلة بين عبدالحليم
وجمهوره. فالمتلقي يستطيع أن يضع يديه على ملمح أو ملامح من حياته في معظم
الأفلام التي قام ببطولتها، سواء جاء ذلك بتزكية من عبدالحليم، أو إن الأمر
ينتسب الى المصادفة البحتة، فإن المطرب الشاب خريج معهد الموسيقى، الذي
ينشد تحقيق ذاته في دنيا الغناء، هو بطل فيـلم (لحن الوفـاء).. وفيلم
(دليلة) يروي قصة مطرب فقير يحيل صدمته في حبه الى إصرار على التفوق الفني،
ويفلح في ذلك بالفعل. كما أن عرض فيلم (حكاية حب) الذي يؤدي فيه عبدالحليم
دور فنان شاب يسافر الى الخارج لإجراء عملية دقيقة، كان متزامناً مع رحلة
حقيقية قام بها عبدالحليم للخارج بهدف إجراء واحدة من العمليات العديدة. ثم
إن التيمة التي تتكرر في العديد من أفلام عبدالحليم شارع الحب، حكاية حب،
معبودة الجماهير هي قصة المطرب الشاب الذي يصعد من أسفل السلم الى أعلاه،
لا ينسى أهله وناسة الذين نشأ بينهم، ولا يقدم على تنازلات من أي نوع، حتى
ولو كانت عاطفية. وكذلك اليتم، الذي كان تيمة أخرى جسدها عبدالحليم في
فيلمي أيام وليالي، الخطايا، يذكر المتلقي بالمأساة الحقيقية التي عاشها
الفنان. وحتى الأفلام التي كانت فيها شخصية عبدالحليم غائبة عنها الوسادة
الخالية، موعد غرام، فتى أحلامي، ليالي الحب، أبي فوق الشجرة جاءت تعبيراً
عن أحلام وأماني قطاعات عريضة من الشباب. بينما كانت أفلام عبدالوهاب وأم
كلثوم الأكثر تعبيراً عن المناخ الإجتماعي في الثلاثينات والأربعينات،
وتعبيراً عن الطبقة الأرستقراطية والوسطى وطموحاتها في مصر، وكذلك كانت
أفلام فريد الأطرش، فقد جاءت أفلام عبدالحليم حافظ لتعبر عن ذلك التغيير
الكمي والكيفي الذي أحدثته ثورة يوليو، وفي مقدمتها ـ بالطبع ـ تغيرات
العلاقات الإجتماعية، كعلاقة الرجل بالمرأة وعلاقة الفرد بالمجتمع، فضلاً
عن إقترابها الحميم من مشاكل الغالبية العظمى من الشعب المصري وهي قطاع
الشباب.
وعموماً، فقد وجد النموذج الذي قدمه عبدالحليم في أغلبية أفلامه، الشاب
الذي تعترضه عقبات فيحاول تخطيها، وهي مشكلة كل شباب الجيل.. وجد ذاك
النموذج إستجابة بين أوساط الشباب خاصة، بل وتعاطفوا معه، فقد أفعمهم
الإحساس الشخصي بالسعادة، وذلك عندما يتخطى بطل الفيلم تلك الحواجز أو
يتغلب عليها. وبالطبع، فقد كان الخيال الذي شاهده المتلقي على الشاشة،
والواقع الذي يحياه الفنان، فضلاً عن الواقع الذي يحياه المتلقي، قد إختلط
في وجدان المتفرج، بحيث تلاشت الحدود بين الواقع والخيال. قدم عبدالحليم
حافظ ستة عشر فيلماً سينمائياً، على مدى أربعة عشر عاماً، غنى فيها ثلاثاً
وتسعون أغنية سينمائية. وقام بأدوار البطولة أمام أشهر نجمات السينما
المصرية، مثل: شادية، فاتن حمامة، آمال فريد، سعاد حسني، زيزي البدراوي،
إيمان، كريمان، صباح، مريم فخرالدين، مديحة يسرى، نادية لطفي، لبنى
عبدالعزيز، منى بدر، ميرفت أمين.
وبدأ أجر عبدالحليم في السينما بثلاثمائة جنيه، وذلك في فيلمي لحن الوفاء،
أيامنا الحلوة. ثم تقاضى خمسمائة جنيه من عبدالوهاب عن فيلم (ليالي الحب)،
وإرتفع أجره الى خمسة وعشرون ألفاً من الجنيهات في فيلم (معبودة الجماهير)
إنتاج حلمي رفلة.
وقد أسس عبدالحليم حافظ شركة إنتاج سينمائية مع محمد عبدالوهاب ومدير
التصوير وحيد فريد بإسم
"صوت
الفن"،
أنتجت فيلمي الخطايا، أبي فوق الشجرة.
ومثل عبدالحليم قصص كبار الكتَّاب، مثل إحسان عبدالقدوس، يوسف السباعى، على
ومصطفى أمين، يوسف جوهر.
كما يعــتــبر فــيـلـمـه الأخير (أبي فوق الشجرة) أول فيلم مصري يستمر
عرضه خمسة وثلاثون إسبوعاً، ويحقق إيراداً قدره خمسة وتسعون ألفاً من
الجنيهات، من دار سينما واحدة بالقاهرة.
وقد غنى عبدالحليم لكبار الملحنين، أمثال محمد عبدالوهاب، محمد الموجي،
كمال الطويل، بليغ حمدي، منير مراد، رياض السنباطي، محمود الشريف.
وختاماً، فقد شكل عبدالحليم حافظ ضاهرة فنية حظيت ـ ولاتزال ـ بنصيب وافر
من إهتمام الباحثين والنقاد. فهو بجانب موهبة الصوت والأداء، إمتلك رهافة
في الحس أعطته القدرة على الأداء الغنائي والتمثيلي العميق. أضف الى ذلك
الدقة في إختياره التنوع لمضامين أفلامه وأغانيه. |