شادي عبدالسلام.. هذا الفنان التشكيلي والمخرج والمنظر السينمائي المصري، الذي
أعتبر واحداً من أهم فناني عصرنا العربي الحديث، ليس لأنه تميز بأسلوبه السينمائي،
وإنما لأنه كان أحد المناضلين في حرب الفن والثقافة العربية. فقد ولد شادي
عبدالسلام في 15 مارس 1930، وتوفي في الثامن من أكتوبر عام 1986، بعد أن أهدى
للسينما فيلمه الخالد (المومياء ـ 1970)، ذلك الفيلم المعجزة الذي تفخر به السينما
العربية. لقد رحل عنا شادي دون أن يتمكن من تحقيق مشروع حياته الثاني، ألا وهو فيلم
(أخناتون)، والذي كتب له القصة والسيناريو والحوار، إضافة إلى وضعه التصاميم لأدق
وأصغر اللقطات والمشاهد، ثم عجز عن توفير منتـج لـه. خمـسـة عـشر عـامـاً قضاها
شادي وهو يبحث عن ذلك المنتج، وقضاها ـ أيضاً ـ وهو يحارب المرض الخبيث من جهة، ومن
جهة ثانية كان عنيدا في حربه مع الجهل المتفشي في مؤسسات وأجهزة ثقافية أحجمت عن
إنتاج فيلم سيعتبر مفخرة لمن يصنعه. خمسة عشر عاماً من الانتظار لتحقيق فيلم، إصرار
مبالغ فيه فعلاً، إلا أنه لا يوازي ذلك الجهل والإهمال والحرب التي واجهها هذا
الفنان. إنه حقاً تحدٍ مباشر، يكشف عن قدرة أسطورية على التحمل، ويكشف ـ إلى حد
كبير ـ عن خصوصية هذا الفنان وتميزه. لذا سنتوقف طويلاً، لنتعرف على مشوار هذا
الفنان العبقري، وسنحاول ـ تواضعاً ـ دخول عالمه الفكري والفني.
كان ذلك في عام 1949، عندما تخرج شادي عبدالسلام من كلية فيكتوريا التابعة لجامعة
أكسفورد بإنجلترا. وكانت لديه رغبة لدراسة السينما، ولكن لعدم وجود معهد لدراسة
السينما في مصر وقتها، علاوة على إن أهله كانوا يحتقرون السينما ويرفضون التحاقه
بها، التحق بمعهد الفنون الجميلة بالقاهرة لدراسة العمارة، وكان ذلك ـ بالطبع ـ عن
اقتناع تام، حيث إنه يقدر فن العمارة ويعتبره أساس كل الفنون، متخذاً من
«آيزنشتاين»، المخرج السوفيتي الكبير، قدوة له، حيث يعتبر من أبرز منظري السينما في
العالم، وقد بدأ مهندساً معمارياً.
حصل شادي على درجة الامتياز في العمارة، ولم تكن لديه الرغبة بالعمل كمهندس معماري،
فبدأ يفكر بالعمل في السينما، بعد أن قضى مدة الخدمة العسكرية. كان مغرماً
بالسينما، وإلا لما جاءته الشجاعة لأن يطرق باب بيت المخرج صلاح أبوسيف. شادي
عبدالسلام إذاً دخل السينما عن طريق أبوسيف في فيلمه (الفتوة ـ 1957)، وكان عمله
وقتها يقتصر على تدوين الوقت الذي تستغرقه كل لقطة. هكذا بدأ شادي عبدالسلام، بدأ
صغيراً جداً في محراب السينما، لم يستصغر هذا العمل، لأنه كان مؤمناً بأن الطريق
دائماً يبدأ بالخطوة الأولى مهما كانت صغيرة.
بعدها عمل مساعداً لصلاح أبوسيف في أفلام الوسادة الخالية، الطريق المسدود، أنا
حرة. وفي أثناء عمله مع المخرج حلمي حليم في فيلم (حكاية حب)، حدث أن تغيب مهندس
الديكور، فقام شادي بعمل الديكور، الذي كان ملفتاً للنظر، مما دفع المنتجين للتعاقد
مع شادي على تصميم وتنفيذ ديكورات مجموعة من الأفلام، كان أهمها ديكورات فيلم (وا
إسلاماه ـ 1961). كذلك عمل خارج مصر كمصمم للديكور والملابس في الفيلم الأمريكي
(كليوباترا)، وفيلم (فرعون) البولندي.
وفي عام 1966، عمل شادي مع المخرج الإيطالي الكبير روسيلليني، وذلك في فيلم عن
الحضارة، مما جعل لروسيلليني كبير الأثر على شادي عبدالسلام فنياً وفكرياً، لما
يمتاز به الأول من بساطة في التفكير السينمائي مع العمق في نفس الوقت، وإليه يرجع
الفضل في تحقيق رغبة شادي للانتقال إلى مهنة الإخراج.
كانت الرغبة بالإخراج تسيطر على شادي عبدالسلام منذ بدأ بالعمل في السينما، لكنها
تبلورت فيما بعد لدرجة إنه اكتشف تضييعه للوقت بالعمل في الديكور، خصوصاً بأن
تصميماته للديكور لم تكن تنفذ كما كان يريد. لذلك شعر بأن الوقت قد حان ليقول رأيه
للعالم من خلال السينما، وبدون أي وسيط.
# # # #
بدأ شادي بكتابة فيلمه (المومياء)، يدفعه إحساس قوي بالرغبة في تقديم ما هو جديد
وجاد، دون النظر إلى إمكانية تنفيذه من عدمها. واستغرق في كتابة السيناريو عاماً
ونصف العام، تاركاً ورائه كل شيء لا يتعلق بالمومياء. كان صادقاً مع نفسه منذ
البداية، حيث كان يعيش أزمة مالية قاسية، بالرغم من العروض الكثيرة التي كانت تعرض
عليه لتصميم وتنفيذ الديكور، والتي كانت ذات أجور مغرية، إلا أنه وجد نفسه غير قادر
على عمل أي شيء غير المومياء، وشعر بأنه سيكذب عليهم وعلى نفسه لو قبل بالعمل فيها.
بعد انتهائه من كتابة المومياء، بدأ شادي بالبحث عن طريقة لتنفيذه، وقتها كان يعمل
مع روسيلليني، فعرض عليه السيناريو، وبعد أن قرأه روسيلليني لم يصدق بأن هذا
السيناريو يبحث عمن ينفذه. فأخذه فوراً إلى وزير الثقافة المصري، وكان ذلك بمثابة
تزكية واعتراف صادق من مخرج عالمي كبير، بأهمية الفيلم وأهمية تنفيذه، لذلك دخل
السيناريو ضمن مشاريع مؤسسة السينما.
لقد كانت مرحلة تنفيذ فيلم (المومياء) تجربة صعبة، مع مخرج صعب يحمل فكراً وأسلوباً
مختلفين. وتكمن تلك الصعوبة في أنه استخدم الكاميرا التي تفكر، فالكاميرا عند شادي
لا تنقل الملامح فقط، وإنما تربط عناصر التمثيل والأداء الصوتي بكادرات فكرية
تُوظَف داخل بناء الفيلم بشكل كامل. دراسته للعمارة منحته القدرة على البناء، بناء
الفيلم بكامله، فهو يقتصد ويستفيد من كل العناصر المكونة للمشهد، وأن يكون لكل عنصر
شخصية مميزة، ووظيفة تتمشى مع بقية المشاهد، وذلك حتى يصبح العمل في النهاية قطعة
من المعمار الحيّ، له روحه الخاصة، ويتدفق بالحياة.
كل لقطة، كما يقول شادي، محددة ومرقمة في السيناريو، وباستطاعته ـ أيضاً ـ أن يحدد
عدد لقطات الفيلم منذ البداية وقبل التصوير، لأنه لا يؤمن بالارتجال أثناء التصوير
في الفيلم الروائي (...أذهب لوحدي إلى أماكن التصوير،
وأصورها بالفوتوغرافيا، حتى يصبح كل شيء واضح تماماً في ذهني...). كذلك، فهو
يحدد على السيناريو الوقت الذي يتم فيه التصوير بالنسبة للمواقع الطبيعية، إنه لا
يحدد رقم العدسة للمصور، وإنما يخبره بما يريد ويترك له تحديد الرقم المناسب
للعدسة. فشادي فنان يؤمن بالتخصص كلٍ في مجاله. فقد استعان بالكاتب علاء الديب
لصياغة كل حوار المومياء، فالصياغة الأدبية للحوار عنده ـ كما يقول ـ غير مكتملة
وضعيفة. ولكي تظهر الصورة كما يريدها أو كما يتصورها، يلتقي شادي مع مدير التصوير
عبدالعزيز فهمي في جلسات طويلة، يناقشه ويشرح له ويعيد عليه حكاية الموضوع كما يشعر
به، فالمسألة بالنسبة لشادي ليست مجرد حكاية الفيلم أو ما يقوله، إنما المهم إحساس
المصور بالأشياء.. فعن استخدامه للألوان، يتحدث شادي عبدالسلام، فيقول:
(...أهمية اللون أن يظهر عندما أحتاج إليه، وأنا لا أحتاج
إليه أكثر من مرتين أو ثلاث في الفيلم...). صحيح بأن شادي قد صور المومياء
بالألوان الطبيعية، إلا أنه كان حريصاً على إعطاء اللون دلالته الدرامية، وإلا فلا
داعي لإظهاره. فمثلاً في أحد المشاهد، يستخدم فيه الأبيض والأسود فقط للمشهد
بكامله، فيما عدا لقطة واحدة يظهر فيها لون محدد، فالمشهد يظهر جنازة الأب، وكل
القبيلة ترتدي الزي الأسود في مقابل اللون الفاتح للجبل.. يقول شادي:
(...النقطة السيكولوجية عندي في هذا المشهد هي ارتباط
الشاب بأبيه الذي لم نره، وبالتالي لم نتعرف على مشاعر الابن نحوه، وليس هناك حوار
يدل على هذه المشاعر، فالمشهد كله صامت، إنما هناك اللحظة التي تصور وجه الابن
ورأسه ينحني حزناً على قبر أبيه، فنرى الأرض من وجهة نظره مغطاة باللون البنفسجي،
وهو لون الورد المفروش على القبر، وعن طريق هذا اللون وحده، أردت أن أعبر عن
العاطفة التي تربط بين الابن وأبيه...). هكذا تصور، ليس إلا دليلاً على إن
شادي عبدالسلام يتمتع بحس سينمائي ذو شاعرية شفافة وعميقة في نفس الوقت، ولا يفكر
بهذه الطريقة، في تنفيذ مشهد واحد، إلا مخرج متمكن من تقنياته الفنية وأدواته
السينمائية.
صُورت أغلب مشاهد فيلم (المومياء) خارج الأستوديو، وهذا يعني بأن مخرجه شادي
عبدالسلام، لن يستطيع أن يلون الأرض والجبال والآثار على مزاجه، لذلك استفاد شادي
من الشمس ودورتها التي تلون الطبيعة، فكان يصور في الصباح مشاهد الصباح، وفي الظهر
والليل كذلك. وكانت دورة الشمس اليومية هي التي تحكم عمله، وعلى أساس حركتها تم وضع
جدول العمل، حتى تتحقق وحدة اللون المطلوبة للفيلم. كانت هناك ـ أيضاً ـ صعوبة
التصوير في الليل بالنسبة للمشهد الأخير، وهم ينقلون التوابيت من بطن الجبل إلى
النهر، فقد كان من الصعب تصويره في الليل، وذلك لأن الطبقة الحساسة على الشريط لن
تسمح بظهور شيء، لعدم توفر الضوء، وكان شادي حريص كل الحرص على عدم استخدام إضاءة
صناعية، فهي ترمي ظلالاً على الأرض، وهو لا يريد في هذا الفيلم الإحساس بالكهرباء
إطلاقاً. لذلك اتفق مع مدير التصوير على تنفيذ هذا المشهد خلال وقت محدد وضيق جداً،
وهو لحظة ما بعد الغروب مباشرة، حيث يختفي قرص الشمس وتبقى أشعته في السماء، يبقى
ضوء الشمس لكن دون احمراره. ويصر شادي على التصوير في هذا الوقت بالذات، لأن
الطبيعة في الأقصر ـ كما يقول ـ في هذا الوقت، تلون الجبال باللون البنفسجي المائل
إلى الاحمرار. إن هذا المشهد يمتد عرضه على الشاشة اثنتي عشرة دقيقة فقط، ويتكون من
ثماني وعشرون لقطة، ولم يكن من الممكن أن يتم تصوير هذا العدد من اللقطات دفعة
واحدة أو في يوم واحد من تلك اللحظة المحددة، إذاً ماذا فعل هذا المخرج العبقري؟
لقد صور في كل يوم لقطة واحدة فقط من هذا المشهد، وبالتالي استغرق تصوير هذا المشهد
ثمانية وعشرون يوماً، وذلك حتى يحتفظ المخرج باللون الواحد للمشهد كله.
إن هذه الدقة وقوة الملاحظة لا تصدر إلا من مخرج حساس وغير عادي، فأي مخرج عادي قد
يصور فيلماً كاملاً مدته ساعتان في ثمانية وعشرون يوماً، وليس مشهداً مدته اثنتي
عشرة دقيقة.. حقاً إن شادي عبدالسلام لمخرج عبقري.
بعد إنجاز الفيلم مباشرة، وقبل عرضه جماهيرياً، عرض بشكل خاص على النقاد والمهتمين
بالسينما، فقوبل بعاصفة من النقد بين التأييد والمعارضة، وأمام هذه العاصفة كان من
الممكن أن ينهار صاحب (المومياء)، لولا وجود النقد المخلص الذي وقف إلى جانبه ورد
الثقة إلي نفسه ومنحه إحساساً بأن جهده لتقديم شيء جديد لم يذهب هباءً، فقد كان
يريد أن يعرف هل هو على خطأ أم على صواب في أول تجربة إخراجية له. ولم يقتصر دور
النقاد في تحقيق توازنه النفسي فحسب، بل كان لهم الفضل ـ أيضاً ـ في توجيه نظر
الآخرين إلى الفيلم، واكتشاف قيمه الجديدة.
بعدها خرج فيلم (المومياء) إلى المهرجانات السينمائية الدولية، ليحصل على العديد من
الجوائز.. منها أربع جوائز عالمية وسبع شهادات تقديرية من سبع مهرجانات، وكان أهمها
جائزة جورج سادول الفرنسية عام 1970.
يرى البعض من السينمائيين، بأن شادي عبدالسلام يهتم بالشكل على حساب المضمون، بمعنى
إن اهتمامه وتركيزه على القضايا الحرفية السينمائية يجعل المضمون في مرحلة تالية،
وهذا غير صحيح، فاهتمامه الحرفي يخدم ـ أساساً ـ القضية التي يريد أن يعبر عنها،
باعتبار أن الشكل له الدور الهام والفعال في تطور المضمون. ويقول شادي في هذا
الصدد: (...أنا مؤمن بأن للسينما لغة خاصة بها، وهي لا
تعتمد على الكلمة المنطوقة، وإنما على الصورة السينمائية التي تخدم الإطار العام
للفيلم، والحرفية بالنسبة للمخرج هي آخر شيء يفكر فيه، بل من الكريه أن يكون المخرج
مجرد حرفي فقط، لا بد أن يكون للمخرج وجهة نظر ورأي يلتزم به، حرفة المخرج تماثل
معرفتي لاستخدام القلم...).
الفكرة عند شادي عبدالسلام هي الفيلم كله، والفيلم هو الفكرة. فنحن في (المومياء)
لن نجد لقطة أو مشهد أو حدث يمكنه أن يعبر عن فكرة الفيلم، فالفكرة تجري في شرايين
الفيلم بأكمله.
# # # #
بعد (المومياء) قام شادي عبدالسلام بإخراج (شكاوي الفلاح الفصيح)، وهو فيلم قصير
استوحى فكرته من بردية فرعونية عمرها أربعة آلاف سنة، تتناول قصة قصيرة عن موضوع
العدالة، قصة فلاح يستصرخ السلطة لتسترد له حقه وتقيم ميزان العدل. والقضية لدى
شادي «ليست مجرد تاريخ فقط، أو إحياء بردية لها قيمة خاصة، ولكنها بالفعل صرخات
احتماء بالعدالة، وهي صرخة قائمة في كل العصور».
التاريخ يأخذ اهتماما كبيراً من شادي عبدالسلام، فبالإضافة إلى (المومياء) و(شكاوي
الفلاح الفصيح) هناك فيلم (أخناتون) الذي كتبه وصممه ورسم مشاهده على الكرتون لقطة
بلقطة، ورحل عنه قبل أن يظهر إلى النور. يتحدث شادي عبدالسلام عن رأيه في التاريخ،
فيقول: (...أتصور بأن الأفلام التاريخية التي أقدمها، ومصر
عليها، هي نوع من البحث التاريخي، بلغة الكاميرا، عن هموم وأشواق الحاضر...).
صحيح بأن شادي يتناول التاريخ في معظم أفلامه، ولكنه لم يكن مجرد تاريخ،
وإنما هو في الأصل محاولة لتحديد العلاقة بين الإنسان وتاريخه، وهي في تصوره علاقة
طبيعية. يواصل شادي، فيقول: (...أنا أرى الحياة في
استمراريتها سواء بالنسبة لي أو لغيري. ولا يمكن أن أعزل اليوم عن الأمس، إذا أردت
أن أرى جيداً ما يجري اليوم. فما نحن فيه اليوم هو نتاج تاريخنا).
وفي الفترة مابين عامي 1974 و1980، قام شادي عبدالسلام بإخراج أربعة أفلام تسجيلية
قصيرة، بدأها مباشرة بعد استلامه لرئاسة مركز الفيلم التجريبي التابع لهيئة
السينما، وهي: (آفاق ـ 1974) وهو نموذج لأوجه النشاط الثقافي المختلف في مصر، وفيلم
(جيوش الشمس ـ 1976) ويتناول العبور وحرب أكتوبر 73، ثم فيلم عن إحدى القرى الصغيرة
التي تقع بالقرب من معبد «أدفو» الفرعوني في أسوان. كذلك قام بعمل فيلم مدته ثلاث
دقائق ونصف عن ترميم واجهة بنك مصر.
وفي الفترة التي ابتعد فيها شادي عبدالسلام عن إخراج الفيلم الروائي الطويل، كان كل
تفكيره وبحثه منصب على إيجاد منتج لفيلمه (أخناتون). لذلك اعتقد الكثيرون بأنه قد
توقف عن العمل في السينما، خصوصاً عندما صرح لوكالات الأنباء بأنه قد يعتزل العمل
السينمائي، وإنه سينصرف إلى تربية الدواجن. ولم يكن هذا التصريح إلا احتجاجا على
واقع السينما العربية، وإن هذا الفنان الذي عاش للفن السينمائي لدرجة العشق، لم ولن
يتوقف عن العمل في السينما، والفترة التي يسميها البعض توقفاً، يسميها هو لحظات عمل
من خلال التأمل والدراسة، حيث يقول: (...أنا في حالة عمل
متواصل حول موضوع لا ينتهي، بل لا يمكن إيقافه. فإذا لم أنجح في إيصاله إلى الشاشة،
يمكن أن يصبح كتاباً مثلاً أو محاضرات للتدريس، أي إنه يبقى عملاً أستطيع إيصاله
إلى الناس، وخاصة إن موضوعاتي لها علاقة بالتاريخ...).
يعود شادي عبدالسلام في عام 1982 وفي جعبته عدة مشاريع لأفلام تنتمي إلى الفيلم
التعليمي، والذي يسعى من خلاله في مخاطبة العائلة المصرية عبر التليفزيون. فلشادي
عبدالسلام، منذ أن بدأ العمل في السينما، قضية هامة وهي التاريخ الغائب أو المفقود.
يقول شادي: (...إن الناس الذين نراهم في الشوارع والبيوت
والمزارع والمصانع، هؤلاء الناس لهم تاريخ، فقد ساهموا يوماً في تشكيل وصناعة
الحياة البشرية كلها، كيف نعيدهم ليقوموا بنفس الدور؟! كيف نستعيد مساهمتهم
الإيجابية والقوية في صنع الحياة والتقدم؟! لا بد أولاً أن يعرفوا من هم، وماذا
كانوا، وماذا قدموا، لا بد أن تصل بين الإنسان الواقع والإنسان التاريخ، لتقدم ورقي
إنسان بكره، هذه هي قضيتي...).
وقد بدأ شادي هذه المشاريع بفيلم (الكرسي)، والذي يسجل فيه بالكاميرا ترميم كرسي
«توت عنخ آمون»، ولكن بطريقة هي مزيج من التسجيلي والروائي. وكانت لديه آمال لتحقيق
سلسلة طويلة من الأفلام التعليمية الثقافية، والتي لا تخلو من المتعة والتسلية في
نفس الوقت، منها فيلم عن رمسيس الثاني، وآخر عن بناة الأهرام، وثالث عن أول عاصمة
في التاريخ الفرعوني «نخن». كما فكر في تقديم «ماكبث» أسطورة شكسبير الخالدة، ولكن
برؤية خاصة من خلال تاريخ المماليك في مصر.
بعد إنتاج فيلم (الكرسي) عام 1982، وتوزيعه للإتحاد السوفييتي وأوروبا، انقطعت
أخبار شادي عبدالسلام عن الجميع. إلى أن طالعتنا الصحف، وبشكل مفاجأ، في يونيو من
عام 1985، بأنه موجود في مستشفى «تيفناو» السويسري، لإجراء عملية استئصال ورم خبيث،
وهو المرض الذي توفي به وحرمه من تحقيق مشروع (أخناتون).
وإذا كانت هناك من كلمة أخيرة، فلا يسعنا إلا أن نقول بأنه إذا كان السرطان قد هدد
الجسد وقضى عليه، فإن دهاليز الأجهزة الثقافية المسئولة عن الإنتاج السينمائي في
الوطن العربي، لا بد أن تشل قدرة فنان مبدع وخلاق مثل شادي عبدالسلام. |