كتبوا في السينما

 

 
 
 
 
 

ملفات خاصة

 
 
 

بعد عشر سنين على تولي كوسليك الإدارة الفنية: لولا أصغر فرهادي وبيلا تار...

مهرجان برلين يقفز من فوق أسوار التاريخ الى عالم جديد!

برلين ــ من هوفيك حبشيان

مهرجان برلين السينمائي الدولي

الدورة الحادية والستون

   
 
 
 
 
 
 

بعد عشر سنين على تولي كوسليك الإدارة الفنية: لولا أصغر فرهادي وبيلا تار...

مهرجان برلين يقفز من فوق أسوار التاريخ الى عالم جديد!

برلين ــ من هوفيك حبشيان

برلين مدينة مفتوحة على كل جديد وغريب. ساحة بوتزدامر الواقعة في قلب هذه العاصمة هي نموذج لهذه الحداثة الألمانية التي استشفّها فريتس لانغ في "متروبوليس" متطرقاً الى مسألة مكننة الانسان. مركز سوني سانتر يعبّر عن رؤية مستقبلية. انه مدينة الغد... اليوم! بقية الأشياء الموجودة حوله ترزح تحته. مهرجان هذه المدينة التي مرّت بمخاضات متكررة ويُعقد مرة كل عام يعكس فكرة الحداثة. بدءاً من الملصق الذي يوحي بالأبعاد الثلاثة وصولاً الى الشريط المشبع بالموسيقى الالكترونية الذي يمرّ قبل عرض كل فيلم، نحن في الدورة 61 وجدنا أنفسنا "في مواجهة" مهرجان ذي عراقة، يبحث عن هوية جديدة له، محاولاً القفز من فوق أسوار التاريخ وجدرانه ومعوقاته الى عالم جديد. أما اذا أصاب سهمه أم طاش في اقتناص الحداثة المنشودة، فهذه مسألة أخرى!

يخطئ مَن يعتقد ان المهرجان هو فقط الصحافة التي تغطيه (ببرودة اعصاب شديدة نظراً الى درجات الحرارة المتدنية) أو الجماهير التي "تهجم" على الأفلام، أو النجوم الذين يعتلون المنصة ليلتي الافتتاح والختام أو حفلات الـ"في أي بي". فالحقيقة أن المهرجان يعيش ايضاً في "كامبوس المواهب" الذي يبث روح السينيفيلية في قلب الأجيال الناشئة. منذ تاريخ تأسيس هذا الكامبوس، شارك 4000 سينمائي شاب من 130 بلداً في المهرجان. الادارة مهتمة بهم لأنها تعلم جيداً أن هؤلاء سيملأون شاشات الـ"برليناليه" في السنوات المقبلة. وعود بسينما حديثة ستولد هنا من نقاشات حامية بين شبان ينظرون الى السينما نظرة مغايرة، معظمهم ولد بعد انتهاء الحرب الباردة. ومن يعلم، فقد يكون للمدينة فضل عليهم وعلى افكارهم التي ستبصر النور في هذا الحيز الذي يمنحه المهرجان حرصاً منه على مستقبل السينما. تسكعاتهم في مدينة، لها قاع وهامش وشوارع جانبية، قد تلهمهم وتعود بهم الى هنا.

جمهور في طوابير

ليس من السهل تدفئة القلوب في مهرجان عندما تصل حرارة المدينة الى عشرة تحت الصفر. سواء في صفّ الضيوف العاديين او النقّاد المتعبين جرّاء اسفارهم حول العالم، فإن التململ قائم على مدار الايام الـ 11 للتظاهرة. لكن الجمهور البرليني هانئ النفس وطويل البال. ينتظر في طوابير ويحترم طقوس المشاهدة ولا يعبّر عن رأيه الا بعد مضي فترة على مشاهدته للفيلم. ليس جمهوراً "سهلاً" بمعنى أن ارضاءه يحتاج الى جهد كبير تبذله الادارة. انه جمهور مثقف سينمائياً يمتلك مرجعيات فكرية عالية في مدينة تعدّ احدى عواصم الثقافة في أوروبا.

ننسى أحياناً ان المهرجانات تقام ايضاً لجمهور محلي وليس فقط للوافدين اليه من أهل المهنة. وعلى ديتر كوسليك الذي يتولى الادارة الفنية منذ عشر سنين، ملاقاة هذا الجمهور في منتصف الطريق، أي ان يحسب حسابه ويداعب أحلامه، من دون أن يكسر في المقابل طموحات الـ"برليناليه" وتعطيل مشروعه في التصدي لمنافسة شقيقه الأكبر، مهرجان كانّ. هذه معضلة كل مهرجان، لكن شيئاً ما، في لحظة ما، في برلين، يحول خياراً ما فضيحة أو مهزلة. قبل بضعة أعوام تمثلث هذه الفضيحة في فيلم من بطولة جنيفر لوبيز، أما هذه السنة فنستطيع اطلاق هذا النعت على نصف التشكيلة الرسمية التي قادتنا في ختام عشرة ايام الى فيلم يُعتبر فضيحة المهرجان الكبرى، وهو "مجهول" لمخرج أفلام الحركة جوم كوليه سيرا.

لوريال وهوغو بوس

عانى المهرجان من خلط فظيع بين ماهية الفيلم التلفزيوني وماهية الفيلم السينمائي. اعمال صمِّمت برؤية تليق بالشاشة الصغيرة ضلّت طريقها الى التشكيلة الرسمية، وايضاً الى الاقسام المحاذية لها، المخصصة اصلاً لإطلاق سينما صعبة تجارياً وقليلة الانتشار. مواجهة من نوع آخر برزت ايضاً بين أفلام ستبقى حكراً على "زوار" المهرجانات المحظوظين، وسينما تجارية باهتة حمل رايتها الفيلم الاميركي "مجهول"، فشكلت لحظة عرضه على الصحافة إحدى قمم المهرجان، اذ استُقبل بنوبات الضحك المتواصلة والصفير لشدة ركاكته.

البحث عن هذه الحداثة السينمائية يمرّ عبر مطبّات لا تُحصى. المهرجان ليس فقط أفلاماً وجمهوراً ومؤتمرات صحافية بل أرقام واستثمارات وعقود تُبرم بين أطراف ينتظرون هذا الموعد لإطلاق البزنس الخاص بهم. لا شكّ أن السينما أمام كل هذين الليبيرالية والمنطق النفعي، لا تزال محصنة الى حد ما. لكن، اذا كان كوسليك يصرح في سياق كلامه عن قضية بناهي بأن لا مكان للرقابة في برلين، فعقود الشراكة التي تربطه بنحو اربعين من الجهات الرسمية والخاصة، من لوريال الى هوغو بوس، هي ايضاً نوع من الرقابة، اذا ان هؤلاء هم الذين يموّلون الجزء الأكبر من المهرجان، ويملون عليه تالياً أذواقهم وتوجهاتهم التسويقية.

في 2011، تراجع مستوى المسابقة لكن الاقبال الجماهيري ظل هو هو. سجلت الصالات أكثر من 350 ألف مشاهد من جميع الأعمار. هذا رقم جيد، لكنه غير كاف، لأن مهرجان روتردام، الأقل طموحاً وشهرة من برلين، يسجل رقماً قريباً مما يسجله برلين. سوق الفيلم، هي الأخرى، كانت في منأى من البهتان الذي ضرب الجسم الحيوي في المهرجان، أي التشكيلة الرسمية. وضعت السوق في تصرف الموزعين، أفلاماً ننتظر عرضها في مهرجان كانّ، كاقتباس رواية "على الطريق" لجاك كيرواك بتوقيع والتر ساليس، وأيضاً جديد وانغ كار واي. أربعة الاف شخص حضروا الى هذا المكان.

المشكلات الكبرى التي كان يعاني منها المهرجان في الدورات الماضية تفاقمت الى درجة بات اخفاؤها صعباً. انعدام الذوق الذي أظهره الطاقم المبرمج وفي مقدمه كوسليك، يجب أن ينتج منه على الاقل اشراك دم جديد برؤية جديدة. للأسف، فإن التيمة لا تزال في صدارة اهتمامات هذا الفريق. ما يقوله الفيلم عند المبرمجين في برلين، أهم من كيف يقوله ولماذا يقوله. هذه السياسة في الانتقاء متأتية ربما من هوس بالتاريخ يثقل كاهل المهرجان ويتيح وصول افلام الى الضوء، حظوظها قليلة في مهرجانات أخرى. فـ"البرليناليه" يبدو كأنه ملتزم قضايا معينة: الهولوكوست مثلاً، أو النازية، أو الهجرة بين الشرق والغرب، أو المظالم في بلدان العالم الثالث...

الشارع الطهراني

يمكن اعتبار "نادر وسيمين: انفصال" لأصغر فرهادي الفائز بـ"الدبّ الذهبي"، الفيلم الذي أجمع على تفوقه كلٌّ من النقّاد ولجنة التحكيم والجمهور. تكاتف أطراف ثلاثة حول عمل لا شكّ انه سيكون حديث العالم في الأسابيع المقبلة، خصوصاً اذا تسبب هذا الفوز الكاسح بمنعه في ايران أو على الأقل بمحاولة منعه. فرهادي أول ايراني يحمل الدبّ الذهبي الى بلاده، وفي ظلّ الأوضاع الراهنة هناك، ومحاولة المهرجان الوقوف الى جانب جعفر بناهي وقضيته، لا نعرف ماذا يكون مصير الفيلم وحصته من التوزيع في ايران. يقال ان فرهادي عانى خلال التصوير من اضطهاد رسمي، نظراً الى موقفه المؤيد لبناهي. على رغم هذا، رفض ان يمنح الجائزة معنى سياسياً، ليلة تسلمها السبت الفائت.

امرأة شابة تقرر ترك بلادها ايران بحثاً عن فرصة حياة أفضل، لا سيما كي تتيح لإبنتها المراهقة ان تتعلم فتشرع امامها آفاق النجاح المهني. بيد ان ثمة عائقاً أمام هذه المرأة، هو عدم انسجام زوجها مع هذا المطلب، ليس لسبب ما، بل لأنه موكل الاهتمام بوالده المصاب بمرض خطير. هذا سيضع العلاقة بين الزوجين على المحكّ. لا شيء جديداً في هذا كله، سوى ان المخرج يستطيع اسناد كل مشهد وكل حركة بمعان كبيرة.

في فيلمه الخامس وفي الجائزة الثانية له في برلين، بعد فوزه بـ"الدب الفضي" عام 2009 عن فيلمه "عن ايلي"، يستعين فرهادي بدراما عائلية جاعلاً اياها مرافعة في السياسة والدين، تظهر الشرخ بين الطبقات في ايران اليوم، والتضارب بين المفاهيم. من هنا يولد الفيلم. الاخراج ممسوك بقبضة حديد، لا يضعف ولا ينصاع الى تقنية تنفيذية مثقلة بواجب خطابي يتحكم بكل شيء، كما هي الحال مع افلام كثيرة تبدأ جيداً ثم لا تنفك تتحول "مشروعاً سينمائياً يجب إنقاذه بأي ثمن". المعالجة معقدة لكن تصبح شفافة وسلسة ما إن يأخذ الفيلم وجهته.

يسلك فرهادي درب الواقعية في نقله الحقيقة الايرانية. اسلوبه مستحدث، بسيط، والبساطة كما نعلم تتطلب جهداً كبيراً لبلوغها. كاميراه لا تخاف النزول الى الشارع الطهراني الصاخب والتقاط الحياة المزدحمة بألف تفصيل. مشاهد من الحياة اليومية، المستشفى، قصر العدل، عجقة السيارات، هذه كلها تساهم في بلوغ الفيلم درجة عالية من التماس مع واقع يتشكل من ألوان وطبقات مختلفة، نكاد نلمسها بحواسنا.

العائلة ومكانة الفردية في مجتمع بطريركي، يشكلان الداعم الاساسي لخطاب فرهادي. علاقة الشخص بمن يقوده ومن يقرر عنه، تغدو مصدر الالهام الاساسي، وتفتح المجال واسعاً لمجموعة تأويلات وقراءات. هذا الغوص الباهر في مجتمع ينام على سنوات من الممارسات القمعية اليومية، ينتج متتاليات بصرية ذات ثراء فكري. وهنا يجب الاّ ننسى، أن فرهادي، من خلال هذا كله، يتعرى تعرية جريئة، وهو يعرف مسبقاً ويدرك جيداً أنه لا يملك هيبة عباس كيارستمي ولا الماكينة الدعائية التي انوجدت لتدعم قضية بناهي، وربما هذا يزيد من أهمية الفيلم، فهو لا يتملق للغرب ولا يستعرض بؤس الشرق بأساليب بدائية لاستدرار العواطف.

حصان بيلا تار

نال فيلم "حصان تورينو" للمجري بيلا تار اعجاباً قل نظيره، وهو مستوحى من الفصل الأخير من حياة الفيلسوف الكبير نيتشه. في كانون الأول من عام 1889 شاهد الفيلسوف رجلاً في الشارع يسيء معاملة حصان، فهرع الى حمايته. وفي اللحظة التي حاول صاحب الحصان ضرب الحيوان بالساطور، احتضن نيتشه رأسه وأجهش في البكاء. هذا الحدث ترك أثراً عميقاً في نفس الفيلسوف الكبير...

على هذا النحو، يقدّم تار فيلمه في الملخص، لكننا لا نرى شيئاً من هذا كله في العمل الذي يقترحه. فقط رجل عجوز وابنته في بيت تعصف به الرياح. يأخذنا تار الى رحلة حيث لا يطيب الذهاب. لقطات بالأبيض والأسود تدوم وتدوم وتدوم... يريدنا مخرج "تانغو الشيطان" أن نتأمل لا أن نفهم. تماشياً مع مبدأ جان كوكتو الذي كان يقول: "لا يتعلق الأمر بأن نفهم بل بأن نصدّق ما نراه". يبقى تار وفياً لذاته ومعتقداته السينمائية. يخرّب ترتيب المعلومة وينهال على المتلقي تعذيباً كي يخرج الأخير باقتناع مفاده أنه نال نصيبه من الفيلم. أمام بقعة الضوء التي يمثلها هذا الفيلم الميتافيزيكي، لا نملك الا ان نحلم مأخوذين بتنقلات كاميرا، فيها من الشعر أكثر مما نجده في القصائد. طبعاً، يزايد تار على تاركوفسكي في تشكيل كادرات بديعة تذهب الى أهدافها على ظهر سلحفاة، لكنه لا ينافس السينمائي الروسي في امكان الاتيان ببعض الاوكسيجين الى الكادر. ذلك ان كادر تار مغلق على نفسه، وليس ثمة متنفس في عالمه. سوداوية ما بعدها سوداوية، وهذا اصلاً موقف المخرج من الحياة والفنّ. لذلك يأخذ الفيلم طابعاً أبوكاليبتياً حاداً. الميتافيزيك هي من جملة ما يهمّ تار. طريقته المثلى في بلوغ ذلك هي الحركة البطيئة التي تتيح التماهي مع الزمن الذي يصوّره. لدقائق طويلة مثلاً ترتكز الكاميرا على حصان يشقّ طريقه. في مشهد آخر، عملية طهي البطاطا تصبح في بؤرة السينمائي اعتراف حبّ.

الفيلم الألماني "إذا ليس نحن، فمن؟" لأندريس فيل، شكل وقفة ضمير، في مسابقة لم تكن الأسئلة السياسية الشائكة حاضرة بكثرة. يعود فيل الى صفحة مهمة من التاريخ الألماني المعاصر، انطلاقاً من احد رموز عصابة بادر ماينهوف، ليتحول العمل من السيرة الذاتية الى تأمل سياسي في أحوال مرحلة تذكّر بحاضرنا الآني. يدور العمل على شخصيتي غودرون انسلين وبرنفارد فيسبر، منذ الحقبة التي جمعتهما الأفكار اليسارية، الى أن فرقهما المفهوم السياسي لكل منهما. الشريط يعود الى اصل ايمان يساري متطرف سرعان ما تحول الى راديكالية ارعبت المانيا في سبعينات القرن الفائت.

الفيلم الألماني الثاني "مرض النوم" لأولريش كولر، يعود الى هواجس أفريقية كانت للسينما الأوروبية محطات معها منذ زمن بعيد. التقطت مشاهده في الكاميرون. حكاية تروي في جزءين خفايا المساعدات التي تهدف الى التنمية في البلدان غير المتطورة. أبو، طبيب ألماني يعمل في افريقيا على تطوير برنامج مخصص لمرض النوم، وهو يعاني من اصرار زوجته على ترك كل شيء والعودة الى ألمانيا، على رغم ان الطبيب صار يشعر بالغربة حيال بلده الأم بعد فترة ابتعاد عنه. دخول طبيب آخر على الخط سيغيّر حتماً المعادلة...

ليست هذه المرة الاولى يتطرق فيها كولر الى أزمة الفرد في ايجاد مكان له على هذه الأرض. هنا يرتبط هذا الهاجس بأفريقيا، فتلك القارة التي يصوّرها بنظرة عادلة، من دون تمجيد، متفادياً فخاخ الاكزوتيكية أو اللقطة الاستعمارية، تشكل مادة دسمة لفيلم لا ينصاع الى السهولة والحلول الوسطى. كولر ينتمي الى الجيل الجديد من السينمائيين الألمان الذين ظهروا في مطلع سنوات الألفين. فيلمه "بانغالو" عرّفه الى النقاد والجمهور. عام 2006، أنجز فيلمه الثاني فعُرض في قسم "فوروم" البرليني الذي غالباً ما يضم نتاجات سينمائيين شباب لا يزالون في مقتبل تجربتهم الابداعية. اليوم، مع "مرض النوم"، يتخلص كولر من التأثيرات الجانبية التي غرقت فيها بداياته، محلقاً بجناحيه.

فاينز خلف الكاميرا

من الأفلام اللافتة التي استُبعدت من قائمة الجوائز: "كوريولانوس" لرالف فاينز. باكورة الممثل البريطاني بدت خارجة من المستجدات المثيرة التي حلّت بالعالم العربي من افريقيا الى اليمن، ولو كان ذلك من خلال العودة الى نص شكسبيري عظيم. هذا ما يؤكد، مرة أخرى وجديدة، ان الاعمال الكبيرة هي التي تصمد أمام امتحان الوقت وتبقى صالحة لأكثر من زمان ومكان، وفي وسعها القفز فوق أسوار الجغرافيا برباطة جأش.

الحقّ ان "كوريولانوس" يثير الحماسة لشدة وقوفه على الحدّ الفاصل بين الكلاسيكية والتجريب، من خلال معالجة لماحة واخراج مبتكر وقاعدة فكرية تدعو الى العصيان. في زمن الثورات، للفيلم وقع مختلف على نفوس المشاهدين الذين ربطوا بين العمل المعروض أمامهم وما يرونه على شاشات التلفزة الدولية ونشرات الاخبار. روما كمكان رمزي في وجدان الانسانية، هي مسرح لحوادث الفيلم. فيما الأغنياء ينعمون بثروات الشعب من عليائهم، يموت الفقراء من الجوع. صراع طبقات يولّد انتفاضة شعبية، ستكون السبب في إحداث حالة غضب وصولاً الى ثورة تطيح الطاغية كوريولانوس، فيهرب من البلاد، كما هي الحال الآن مع الحكّام الطغاة الذين يسقطون واحداً تلو الآخر. الفيلم مناسبة لنتدارك أن تقنيات الطغاة لا تختلف كثيراً بعضها عن البعض الآخر.

فاينز يقف خلف الكاميرا وقبالتها. يجسد دور الطاغية بإدراك كبير لما تمثله هذه الشخصية في الضمير الجمعي. لا تغيب المشهدية عن العمل الذي يسلك في أحايين معينة درب الثريللر المشوّق، علماً ان لغة شكسبير الجميلة كافية ليحلّق الفيلم عالياً. التقطت المشاهد في بلغراد في فندق شهير دمّره الحرب. مع هذه البداية المشجعة، بتنا ننتظر بحماسة العمل الثاني لفاينز في اقرب توقيت، آملين أن يكون من سلالة الممثلين النجوم، على غرار ايستوود وكلوني، الذين لم يُرضِ وقوفهم قبالة الكاميرا تطلعاتهم وطموحهم.

( hauvick.habechian@annahar.com.lb)

 

####

 

خارج الكادر

غير صالح للنشر!

مهنته التمثيل. او هكذا يُقال عنه. هذه "الهواية" التي نشأت عنده بعدما شاهد أفلاماً عدة لممثلَيه المفضلَين تيرينس هيل وباد سبانسر، حين كان أصغر سناً، احترفها منذ أكثر من ربع قرن، كيفما اتفق، في بلاد، التمثيل فيها صار مهنة الذين لا مهنة لهم. بدأ شرساً، ذكورياً، لا يقبل دعوة عشاء من امرأة، أي امرأة، مهما بلغت من القبح، الا اذا كان قادراً على مد يده الى جيبه لسحب مال الطعام. انتهى به الأمر الى أحضان الحلم، متوسلاً لقمة الى طاولة عشاء. الاهانة الكبرى بالنسبة اليه هي انه بات يحلم. رجل تفتخر به عائلته، عليه الا يحلم. فجأةً صار يحلم. طرده الواقع فنزل الى "قعر" الحلم، حيث المصيبة في عينها. ما لم يحققه في الحياة، حققه في الاحلام. على رغم ذلك، لم تداعب أيٌّ من عينيه الاثنتين الحلم البهي الذي جعله يسافر على متنه ويحظى بالتصفيق والورود في زمن فارغ يبحث عن أي وجه يرفعه الى الضوء. استمناء ذهني بليد، نصبه عبقرياً على مملكة. ألا يقولون إن كل ديك على مزبلته صيّاح؟!

بغصة، يروي لي معاناة جيله. لا أصدّق كلمة مما يقوله. هذا الجيل ليس عندي اي احترام حياله، ولا يملك صدقية عندي: فيما كانت نار الحرب مشتعلة، لم يكن يفعل الا صبّ الزيت عليها. هذا الجيل تربّينا في رعايته وفي ظل ايديولوجيته المقززة. ضاع الوطن المتوهم المرتهن للتفاهة، فضاع معه جيله، وصاحبنا الممثل لا يزال يبحث عن طريق الخروج من منطق العنف والالغاء والضغينة بالأساليب نفسها للأطراف الذين يدينهم. تخلى عن طموحاته وهوى في مشاريع متواضعة تليق بموهبته المتواضعة.

روى لي من ضمن ما رواه، انه حين "خرج" أحد أفلامه الى الصالات، راح يشاهد نفسه وليس الفيلم. نصحه مقرّبون أن يعمل على تثقيف نفسه. الجلوس في مقهى وتحت ابطه جريدة جاهزة لتذهب الى القمامة ما إن يدخل المنزل، لم يكن كافياً. احد ماسحي الجوخ اقنعه بأنه صاحب طاقات، وان التعب حلال، وبدأ يرشقه بعبارات جاهزة من مثل "لا تكره شيئاً لعله خير". قالوا له ان "من سهر الليالي..."، فصار يسهر ليلياً حتى تدهورت صحته. وبات يحتاج الى طبيب نفسي. هجرته الحبيبة. صودرت أملاكه. في تلك اللحظة، تذكر والده الراحل الذي كان يريده طبيباً عله يرفع اسم العائلة بدلاً من ان يبهدله على أعمدة الصحافة الصفراء.

الى اليوم، يبدو خروجه من النفق مستحيلاً لأنه يسكن الحرب أكثر مما تسكنه. التمثيل تمرد وفعل انتقام، لكن صديقنا لا يستطيع حتى ان يتمرد على قسيس قريته. فكيف يتمرد ويصبح مثالاً للتمرد؟ يكلمك عن نابوليون، وهو بالكاد يستطيع أن يضطلع بدور جرذ في فيلم تحريك أميركي. الرجل يصدّق كذبته. فعلاً يصدّق انه ممثل. ومن الصعب أن تقول لرجل في الخمسين يحمّل الحرب مسؤولية فشل مشروعه التمثيلي، إنه لا يملك عبقرية براندو وسحر ماستروياني وفجاجة دوبارديو، وإنه لا يجوز، في اي شريعة، أن يُحسَب هو ولورنس أوليفييه على المهنة نفسها. ففي المسألة ثمة عار. ثم فجأة يستفزك، وبعد طول اناة، أدلي بما في داخلي، فيجيئني منه صمت لا يعني شيئاً، ثم جملة لا تزال ترن في اذني: أخيراً، يقول لي أحدهم في وجهي، ما كنت اريد سماعه منذ فترة طويلة. ربما كان الأجدر بي الاّ أكون ممثلاً.

فيما الثواني تتسرب بين أنامله، لا يجد "صديقنا" الا لوم الماضي الذي اذلّه. هذا السيناريو سمعته عشرات المرات بل المئات. الموّال ذاته: كيف كانت هذه البقعة الجغرافية التي اسمها لبنان، وماذا حل بها! سمعنا روايات كثيرة لفنانين ضاعت احلامهم، بنسخ متعددة وبمفردات متقاربة الى درجة اننا بتنا نتساءل ما اذا كانت ثمة حقيقة خلف هذا كله. ذلك ان من غير المعقول أن تكون الحقيقة متقاربة ومتباعدة الى هذا الحدّ بين شخص يرمي الرصاص وآخر يتلقّاه. فبدلاً من أن يكون "ممثلاً"، اصبح "ممثلاً لبنانياً" يحمل على ظهره صليب الوطن. هذا، كما يقول، منعه من الذهاب الى هوليوود و"تحقيق النجاحات الكاسحة هناك"، لأن البلد كان في حاجة الى ابن، ولو كان ضالاً، والى موهبته الربانية، الى شعلته الخالدة.

لم تسعفه محاولات اظهار نفسه في ثوب الضحية. "عندما تحبّ مهنتك لا تخاف من التضحية"، يقول في سعي واضح الى اشعال روح الوطنية في داخلي. لكن ما التضحية التي قمت بها؟ ما التضحية التي يقدمها شخص لا يملك اي موهبة في التمثيل؟ يا رجل، وحدك مسؤول عما فعلته! عد الى رشدك: عامل مراحيض ناجح في عمله أفضل من ممثل فاشل...

صمت مطبق. ثم ينادي النادل. في صوته استنجاد. من يخلصه في هذه اللحظة من جحيم الجلوس معي في مقهى أميركي؟ قبل لقائي به، قيل لي الاّ احشره في نوع من أسئلة لا يحبها! كالحديث مثلاً عن انفصاله عن زوجته المغنية، وخلافه مع صاحب دار نشر رفض نسخة أولى كتبها بنفسه عن مذكراته. لم أكن اريد منه الا ان اعرف اذا كان متصالحاً مع ذاته، واذا كان بات أكثر حكمة، مع مرور الزمن. لم يعن له السؤال شيئاً. لم يجده مفيداً لمستقبله المهني وللقراء الذين يتابعون نشاطاته. وجد سطحياً وبلا مسوغ أن احادثه عن الزمن، فيما هو لم يعرف منه الا القليل من الشعيرات البيضاء عفي رأسه، أدرجته في عداد المسنّين قبل الأوان. نعم، بعضهم يمرّ عليه الزمن، ولا يراه يمرّ. ذكّرته، محاكياً، وأنا متأكد انه لن يفهم، بأن الثلج، كما يقول الشاعر، يسقط مبكراً على القمم العالية. فقال انه لا يؤمن بالشعر. اردفت ان الشعر لا يحتاج الى أمثاله، وهو موجود بمعزل عنه، وغصباً عن رأيه فيه. الشعر والفنّ باقيان في رؤوس الأحياء والأموات، أما هو فتحول كومة عظام حتى قبل أن يموت. "الشعر موضة قديمة، أنا رجل ليبيرالي، أنظر الى الأمام وليس الى الخلف". لم أفهم العلاقة بين السمك واللبن. لم ينتبه ان المقصود بهذه العبارة هو العبارة عينها، وليس الشاعر. ثم تذكرت المثل الصيني الذي يقول: عندما يشير الذكي بإصبعه الى القمر، ينظر الساذج الى الإصبع

هـ. ح.  

 

النهار اللبنانية في

24.02.2011

 
 
 
 
 

مابين الافتتاح والختام : ثورات علي الشاشة بأصداء من الواقع

كتب شريف عوض

تصادف افتتاح الدورة الواحدة والستين من مهرجان برلين وليلة العاشر من فبراير الماضي التي التفت فيها مصر والعالم حول شاشات التليفزيون والأقمار الصناعية في انتظار خطاب الرئيس مبارك الذي توقع الجميع أن يزف فيه خبر تنحيه عن السلطة. وبدلاً أن تنشغل وسائل الإعلام الألمانية والأوروبية بأخبار وصول نجوم فيلم الافتتاح علي السجادة الحمراء، كانت التركيز الأكبر علي الأوضاع في مصر ومستقبل البلاد. وفي يوم الجمعة التالية، كان الجميع في برلين خاصة السينمائيين من تركيا وإسبانيا وإيطاليا واليونان، يقومون بتهنئتي بعد انقشاع الغمة ويتمنون مستقبلأً أكثر بريقاً لبلادنا، لما تمثل لهم مصر، ثقافة وتاريخاً وشعباً، من قيمة كبيرة وروابط متوسطية.

اختار مهرجان برلين هذا العام فيلماً أمريكياً هو" ترو جريت" أو شجاعة كبري" الذي بدأ عرضه التجاري في الولايات المتحدة منذ ديسمبر الماضي ويعرض الأسبوع القادم بدور العرض المصرية . ورغم أنه من أفلام "الوسترنز" التي انخفضت كثافتها الانتاجية في السنوات الأخيرة بعد أن كانت تشكل النسبة الكبري من الإنتاج الأمريكي إبان العصر الذهبي، ورغم أنه أيضاً إعادة لفيلم من كلاسيكيات السينما حمل نفس الاسم ولعب بطولته عام 1969 النجم الراحل "جون وين"، وهو أحد عمالقة هذه النوعية من الأفلام وحصل علي الأوسكار الوحيدة في مشواره السينمائي الطويل عن دوره في هذا الفيلم، استطاع الفيلم الجديد أن يحقق في شباك التذاكر الأمريكي 164 مليون دولار حتي الآن ليشكل أكبر نجاحاً تجارياً للمخرجين الشقيقين "جول وإيثان كووين" اللذين يشتركان في كتابة السيناريو والإخراج سوياً منذ عام 1948.

ولهذين المخرجين أفلام عديدة كتباها وأخرجاها من بنات أفكارهم الخالصة وحصلت علي إشادات نقدية وجوائز أمريكية وعالمية. لكن في "شجاعة حقيقية" نجد أنها هي المرة الثانية فقط التي يقدمان فيها علي إعادة فيلم من تاريخ السينما. ولعل إقدام مهرجان برلين علي اختيار هذا الفيلم يعود إلي الاحتياج الماس للنجوم الكبار الذين قل تواجدهم في بقية الأفلام المشاركة سواء في المسابقة أو في بقية الأقسام مثل البانوراما والمنتدي. فبطل الفيلم "جيف بريدجز" حصل علي الأوسكار في العام الماضي عن فيلم "القلب المجنون" كما أنه مرشح للأوسكار أيضاً هذا العام عن دوره في هذا الفيلم ضمن عشرة ترشيحات أخري هي لأفضل فيلم وإخراج وسيناريو وغيرها.

تدور قصة الفيلم حول الفتاة ماتي (هيلي ستاينفيلد المرشحة للأوسكار أيضاً) التي يقتل والدها علي يد المجرم توم شاني (جوش برولين) فتقرر الاستعانة بالمارشال الهرم "كوكبرن" وتصر علي أن تصطحبه في اقتفاء أثر "شاني". وبالمقارنة مع الفيلم الماضي، قام الأخوان "كووين" بتعميق دور الفتاة "ماتي" ليتوازن مع دور "كوكبرن" الذي يتحول وتتطور شخصيته مع تصاعد الأحداث من مجرد "قاتل أجير" إلي بديل لوالدها. كما اقترب سرد الأحداث والحوار من لغة الرواية الأصلية للكاتب "شارلز بورتيز" التي أوحت بالفيلمين القديم والحديث.

الجميع كان يتوقع حصول الفيلم الإيراني "نادر وسيمين، انفصال" علي جائزة الدب الذهبي لهذه الدورة نظراً لمستواه الفني المتميز وأيضاً لمساندة مهرجان برلين للمبدعين الإيرانيين خاصة المخرج "جعفر باناهي" الذي تم الاحتفاظ بموقعه شرفياً كعضو في لجنة تحكيم المهرجان بعد أن حكم عليه بالسجن ست سنوات وبالمنع من ممارسة الإخراج السينمائي أو السفر خارج إيران لمدة عشرين سنة بحجة أنه قدم أفلاماً تناهض النظام. أما "أصغر فارهدي" مخرج و سينارست فيلم "انفصال"، فهو ليس غريباً عن مهرجان برلين إذ حصل فيلمه الماضي "عن إيلي" علي جائزة الإخراج في دورة عام 2009، تدور أحداث الفيلم حول "نادر" (بيمين موادي) الذي يتمسك بوظيفته في أحد البنوك ويرفض الهجرة رغم مشاكله اليومية مع زوجته "سيمين" (ليلي حتامي) التي تطلب منه الطلاق وتترك منزل الزوجية وتحث ابنتهما "سيمين" (سارينا فرهدي وهي ابنة مخرج الفيلم) علي ترك البلد بحثاً عن الحرية والمستقبل أفضل. يقوم "نادر" بالاستعانة بالسيدة "رازيه" لتعتني بوالده المريض بالزهايمر. وتتوالي الأحداث التي تعكس التقاليد المعقدة في المجتمع الإيراني، إذ نجد "رازيه" تواجه مشاكل عدة عندما يكتشف زوجها العاطل عملها في بيت رجل غريب دون وجود زوجته ودون استئذانه في المقام الأول. ويصبح "نادر" في صراع بين مطلقته من ناحية والخادمة من ناحية أخري وتصل الأمور للقضاء الذي يتدخل في تغيير الحياة اليومية ولو في أقل التفاصيل. ومثل فيلمه السابق "عن إيلي" الذي ركز علي ثلاث شخصيات نسائية، تطغي شخصية الزوجة والخادمة علي سائر شخصيات فيلم "انفصال" لأن "فرهدي" يري أن المرأة تمثل قوة دافعة كبيرة في المجتمع الإيراني، تطالب بحقوقها وحرياتها بصلابة وقوة، رغم محاولات اختزال دورها وتهميشه. وتلك صورة مغايرة لما يراه المجمع الغربي في المرأة الإيرانية وربما هذا ما أبهر لجنة التحكيم التي ترأستها الممثلة "إيزابيلا روساليني" ذات التجارب الإخراجية.

من أفلام قسم البانورما، الفيلم الإسباني الفرنسي المكسيكي "حتي المطر" الذي نجد فيه أصداء مشابهة للثورة التي شهدتها مصر. فبطل الفيلم "سباستيان" (النجم المكسيكي الشاب جابرييل جارسيا برنال) هو مخرج سينمائي يسافر لبوليفيا مع فريق عمله الجديد من أجل تصوير فيلم عن "كريستوفر كولمبس" برؤية مغايرة لما قدم عن هذا المستكشف من قبل، يظهر فيها قمعه للسكان الأصليين من الهنود واستعبادهم وقتلهم. أما "كوستا" (الممثل الإسباني لويس توسار) فهو صديق "سباستيان" ومنتج الفيلم الذي لا يأبه بالرؤية السينمائية بقدر ما يهمه سرعة الإنجاز حتي لا يتجاوز الفيلم الميزانية التي رصدها. ولذلك وقع اختياره علي "بوليفيا" التي لاتزال تحتفظ بمواقع التصوير الطبيعية والزهيدة. ومع بداية التصوير واستخدام مجموعة من الهنود كمجاميع في مشاهد الفيلم المختلفة، تلتهب المدينة بسلسلة من الاحتجاجات والثورات عندما تقوم الحكومة بخصخصة مرفق المياه وبيعه لشركة أمريكية إنجليزية لاستغلاله فترتفع أسعار الاستهلاك وتتعدي امكانيات الفقير. (وهذه الحادثة حقيقية وجرت عام 2000 وتعرف باسم "حرب مياه بوليفيا"). ويبدو لسباستيان أن التاريخ يعيد نفسه تماماً كما كان يريد أن يعبر في فيلمه فها هو الغرب يعود للغزو ولكن بأساليب اقتصادية هدفها الاستيلاء علي الموارد للبلاد الفقيرة حتي لو كانت المياه والمطر. نجحت المخرجة الإسبانية "إيسيار بولين" في تقديم ثلاثة محاور في فيلم واحد، قصة الثورة المستوحاة من أحداث حقيقية وقصة تصوير فيلم سينمائي يسعي للواقعية وكذلك ربط كل هذا بتاريخ الغزو العربي والاستعمار. تصوير متميز في مواقع الأحداث وإعادة صياغة بصرية لأحداث معروفة أضفت قوة وتأثيراً محسوساً حتي النهاية.

 

روز اليوسف اليومية في

24.02.2011

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004