مهرجان برلين السينمائي الدولي (9):
فوز فيلم إيراني بجائزة الدب الذهبي يثير الجدل في برلين
محمد رُضا
سنوات ضوئية
* الكاميرا غير الخفية
* ما زلت على اعتقادي وبل يزداد هذا الاعتقاد رسوخا: معظم
من يستخدم الكاميرا كما لو كان يحرك أصبعه في الهواء يفعل ذلك لأنه لا حس
فنيا لديه يرشده إلى كيف يستخدم الكاميرا لصالح الفيلم. في أفلام هؤلاء
تتحرك الكاميرا كما لو كانت الجزرة أمام المشاهد. تلهث. تصعد. تهبط. تستدير
يمينا أو يسارا. ترتجف. تهتز وكل ذلك باسم الواقعية أو «الطبيعية».
الحقيقة هي أن تأطير اللقطة، وإضاءتها، وتحديد حجمها
وزاويتها، والانتقال من لقطة إلى أخرى ضمن منهج فني، أمر غير سهل على
الإطلاق. صحيح أن القرار في التصوير يتخذه مدير التصوير، لكن هذا يعمل
بمقتضى منهج المخرج وكيف يعالج موضوعه الدرامي ولأي غاية. المخرج الذي لا
يعرف كيف يوضب لقطاته وبالتالي مشاهده، سيجد من السهولة بمكان كبير أن يطلب
من مدير تصويره أن يحمل الكاميرا واللهاث وراء الممثل حينا وأمامه حينا ثم
تركه ورمي نظرة على المكان وربما على سيارة مارة أو امرأة ترمي مياها وسخة
في الشارع قبل أن تستدير في عودة إلى الممثل.. كل ذلك من دون دواع فعلية.
في أحد الأفلام التي شاهدتها مؤخرا تنحدر الكاميرا من
الممثل السائر في الطريق لكي تتبع حذاءه الأيسر. لماذا؟
ما يفعله مثل هذا المخرج هو الطلب من المشاهد النظر إلى
الفيلم من خلال الكاميرا وليس مباشرة، بينما لا شيء علي الإطلاق؛ حتى
التمثيل أو الإخراج، يجب أن ينزع نحو معاملة نافرة متدخلا بين الجمهور
وفيلمه، فما البال بالتصوير؟
* الدب الذهبي بلون أخضر: أخيرا فازت السياسة
* كما انقسم الحضور حيال فيلم «نادر وسيمين» حين عرضه،
انقسموا ثانية حين إعلان النتائج.
الانقسام الأول كان تبعا لمشاهدة الفيلم. كثيرون أحبوا
الفيلم لخصاله الفنية والخطابية، وكثيرين أيضا اعتبروه فيلما جيد الصنع،
إنما ليس بالجودة التي يدعيها الفريق الأول.
الانقسام الثاني تبع إعلان جوائز الدورة الحادية والستين
الحالية مساء التاسع عشر من الشهر الحالي. صفق البعض وصفر البعض، لكن إذا
ما كانت الغالبية بالعددية، فإن عدد المصفقين غلب على عدد المصفرين.
المشكلة هي أن الفيلم، الذي هو دراما اجتماعية حول تبعات
الانفصال لزوجين قررا أن طريق كل منهما يختلف عن الآخر، يصب في وسط وضع
سياسي ساخن يحيط بالوضع الشامل لمنطقة الشرق الأوسط. ومع أن لجنة التحكيم
لم تشر إليه، إلا أنه كان هناك على المنصة كما كان هناك حينما تم عرض ذلك
الفيلم وفي كل يوم آخر.
وبما أن ما يحدث في إيران حاضر بقوة، فإن منح الفيلم جائزة
الدب الذهبي كان فعلا سياسيا أكثر منه أي شيء آخر. الأمل، لا بد داعب
المهرجان ولجنة التحكيم، هو أن يحرج ذلك الحكومة الإيرانية ويرد على قرارها
بحرمان جعفر بناهي من السفر. ففي نهاية الأمر، كان من المفترض بالمخرج
الإيراني المقيد إلى قرار بإدانته لفيلم لم يحققه بعد، أن يشترك في لجنة
التحكيم التي ترأستها الممثلة الإيطالية إيزابيلا روسيليني، وقرار بمنح
الفيلم الإيراني «نادر وسيمين» الجائزة الأولى (وجائزتي أفضل تمثيل نسائي
وأفضل تمثيل رجالي) هو من باب الرد من ناحية، ومن باب التعاطف مع منتقدي
النظام؛ هذا على الرغم من أن «نادر وسيمين» لا ينتقد شيئا. إنه ليس فيلما
سياسيا ولا يهدف إلى أن يكون؛ وإلا لما سُمح له بالانتقال إلى المهرجان
الحالي.
لكن السؤال عما إذا كان فوز هذا الفيلم الدرامي الاجتماعي
الذي لا بأس بمستواه (أخرجه أصغر فارهادي الذي سبق له أن أخرج فيلما لافتا
أيضا بعنوان «حول إيلي») سيحرج فعلا نظاما ماضيا في تعسف الناس والمثقفين
وأهل المهنة السينمائية. بالتالي، من هو الذي يضحك أخيرا: مهرجان برلين
معتقدا أنه أسدى للنظام ضربة ما؟ أم النظام الذي نال الجائزة رغم كل شيء؟
المضحك - المؤلم هو أن نيل الجائزة أمر معنوي لا حجم
تأثيريا له على الإطلاق، وأن أصغر فارهادي فاز على كتفي مخرج آخر اضطرته
الظروف لكي يبقى في مكانه غير قادر، كما قال في رسالته إلى المهرجان، إلا
على الحلم. فكيف يمكن أن يساعده فوز فيلم إيراني باستثناء مباركته الطيبة؟
* محن عائلية
* الأمر الآخر هو التالي: فيلم أصغر فارهادي عبارة عن موضوع
جيد معالج بإدارة فنية مركبة، لكنه ليس خرقا للمعتاد الفني. الفيلم الثاني
في عداد الفائزين هو «حصان تورينو» الذي لم يتضمن المهرجان ما يتجاوزه من
حسنات فنية وطريقة تنفيذ. موضوع من خارج العالم الذي نعيش فيه يلتقي وشجون
شخصياته الإنسانية البسيطة. ومعالجة سينمائية تصر على الصعب وتصهره في
جماليات رائعة.
النتيجة التي توصلت إليها لجنة التحكيم لا يمكن أن تكون كما
جاءت لو أنها حكمت على النواحي الفنية وحدها وتركت السياسة للنظم وأهل تلك
المهنة، لكن مرة أخرى، ولن تكون الأخيرة، تغلب ما يعتقد بأنه مصلحة سياسية
على ما هو سينمائي بحت. طبعا كان من الأسوأ أن ينال فيلم آخر الجائزة
الأولى أو الثانية. أفلام المسابقة هذا العام كثير منها لم يرتق إلى
المستوى الجيد الذي تعودناه من المهرجان. الغالبية كانت على قدر معين من
الجودة لا ترتفع عنه، بما في ذلك الأفلام الألمانية التي قيل فيها (على
الورق) إنها تعبر عن سنة قوية من الإنتاجات. أحد هذه الأفلام «إذا لم نكن
نحن، من؟»: دراما اجتماعية عن كيف انساق الشباب الألماني في الستينات إلى
حياة من البذخ العاطفي والسياسي، خالطين بين الجنس والمخدرات والسياسة. إذا
ما كان الفيلم أراد التعبير عن فترة، فهو سقط في الانضمام إلى التأطير وخوض
التاريخ كما يقرأه. قائم على الحوار وخال من فرص تعبير حقيقية، لكنه ليس
رديء الصنع مطلقا، بل عادي في طريقة سرده لدرجة لا تخلو من الملل.
الفيلم التركي «يأسنا الكبير» لسيفي تيومان أفضل حالا لكن
ليس بكثير. كذلك أفضل حالا من الفيلم التركي الذي شوهد في مطلع هذه الدورة
لياسمين سمدريللي. إنه حول صديقين من سنوات بعيدة يستقبلان شقيقة صديق ثالث
لتعيش معهما في الشقة الكبيرة الهادئة شرط تركها وشأنها وعدم التعرض لها،
وذلك إثر محنة عائلية وقعت لها. لكن كل منهما واقع في حبها لا محالة.
الفيلم من هنا يرصد تغير حالتهما السابقة. ليس أن الصديقين يتعاديان
بسببها، لكن بالطبع هناك تلك اللحظات التي يود كل منهما لو أنها تحبه هو.
فيلم تيومان بذلك دراما عاطفية مثيرة للاهتمام ومشغولة بحس كلاسيكي هادئ
بلا مغامرات فنية أو أسلوب عمل لافت.
«أودم» الإسرائيلي (أيضا من المنطقة ذاتها التي ضمت هذا
العام تركيا وإيران وإسرائيل) عن المرأتين الفلسطينيتين اللتين تلتقيان في
لندن بعد طول غياب وتسردان، كل للأخرى ولنا، مزيجا من الذكريات العاطفية
وتمران على أحداث ومواقف سياسية عانتا منها حينما كانتا تعيشان في رام
الله. مرة أخرى، نجد الموضوع المهم المعبر عنه بجفاف فني على يدي المخرج
جوناثان ساغال على الرغم من صدق رغبته في وصم الاحتلال الإسرائيلي
بالاغتصاب رابطا ما حدث لهما بما يحدث للأرض الفلسطينية.
* انفجارشرنوبل
* أما باقي الأفلام الآتية من دول أوروبية فبعضها لم يكن
يخلو من تحديات، لكن الهدف ضاع عليها فلم تصبه. المثال الأوضح هو فيلم «سبت
بريء» للروسي ألكسندر ميندازه حول ربيع سنة 1986 عندما اشتعل الأفق في
شرنوبل بلون برتقالي بعدما انفجرت محطة شرنوبل فجأة. الفيلم يقع في يوم
واحد حيث يحاول بطل الفيلم (أنطون شاغان) إنقاذ نفسه وصديقته وحين تفوتهما
الفرصة ينضمان إلى حفلة عرس تقام على الرغم من كل المخاطر الصحية التي يعلم
الجميع مداها. من نصف ساعة أولى تعد بعمل صارخ، إلى ساعة لاحقة يقضيها
المخرج في فوضى من الصورة والصوت. الأولى تصبح لهاثا لا طائل منه، والثانية
ضجيجا يشبه ذلك الذي ينتج عادة عن أصوات طحن نحاسية ممتزجة مع صوت موتور
قطار قديم سقطت سماعات الصوت في داخله.
وبالأمس، قبل النتائج عرض فيلم ألباني، وهي المرة الأولى في
تاريخ المهرجان الذي يتم فيه عرض فيلم من هناك: إنه «غفران من الدم» لجوشوا
مارستون (أميركي) عن ثأر بين عائلتين في قرية ألبانية ومعاناة بطل الفيلم
الشاب جراء هذا الوضع، وأيضا معاناة شقيقته التي عليها أن تبيع الخبر بدلا
من أبيها الهارب خوفا من القتل. كل ما كان يحتاجه هذا الفيلم هو شيء من
البعد الاجتماعي الأوسع للحالة التي يرصدها لأن الحكاية كما هي لا تخرج عن
نطاق قصة عادية معزولة عن محيطها قدر الإمكان. فيلم جيد، كما الحال مع
الفيلم التركي «يأسنا الكبير» ومثله أيضا يبقى محدود الطموحات والنتائج.
وفي حين نال «نادر وسيمين» الدب الذهبي وتبعه «حصان تورينو» حاصدا الدب
الفضي، نال، كما ذكرنا، فريق ممثلي الفيلم الأول، ذكورا وإناثا، جائزتي
التمثيل. أما جائزة أفضل مخرج فذهبت للألماني أولريخ كولر عن «مرض النوم»
الذي تدور أحداثه في أفريقيا حول امرأة ألمانية تجد أن عمل زوجها هناك
يباعدها عنه. وكالعادة، ذهبت جائزة السيناريو للفكرة وليس لحيثيات الكتابة
وبذلك نالها «غفران من الدم» علما بأن بعض قصوره عائد إلى السيناريو ذاته.
في مجال التصوير حصد ووجيش ستارون الجائزة في هذا المجال وهو الذي صور فيلم
«الجائزة»، أحد تلك الأفلام المصنوعة بكاميرا مهزوزة. |