كتبوا في السينما

 

 
 
 
 
 

ملفات خاصة

 
 
 

ألمودوفار وموريتي وفون ترير وسوكوروف وماليك بعضٌ قليل:

ما خسره "برلين" يذهب إلى "كان"

إعداد: ريما المسمار

مهرجان برلين السينمائي الدولي

الدورة الحادية والستون

   
 
 
 
 
 
 

ما إن اختتم مهرجان برلين السينمائي دورته الحادية والستين حتى تحوّلت الأنظار إلى مهرجان كان السينمائي الذي تنكبّ إدارته حالياً على الإعداد للدورة الرابعة والستين (11-22 أيار/ مايو 2011). والأمر أبعد من مجرّد ترقّب الآتي وأقرب إلى انتظار ما فات برلين من الإنتاجات السينمائية الكبرى. فإلى جانب الإجماع الذي حقّقه الفيلمان الفائزان بالجوائز الأساسية، الإيراني "نادر وسيمين: إنفصال" لأصغر فرهادي والمجري "حصان تورينو" لبيلا تار، كان إجماع آخر على ضعف هذه الدورة البرلينية وغياب الأفلام المميزة عنها، لا سيما في المسابقة الدولية. من هنا، تبدأ التأويلات حول ما سيكشفه مهرجان كان في تشكيلته الرسمية التي لن تعلن قبل منتصف نيسان/ أبريل وستظل عرضة للإضافات والمفاجآت حتى الأيام الأخيرة قبل الافتتاح. وتتخذ تلك التوقّعات منحىً جدياً ومثيراً مع استعراض الأعمال السينمائية أسماء مخرجيها المتاحة أمام المهرجان. وما الأسماء إلاّ تلك المعروفة التي سبقت لها المشاركة في دورات كان، ما يعني أن هناك كنزاً إضافياً لينهل منه "كان" وهو ذاك المجهول الذي يصب في خانة الاكتشافات.

إن مجرّد الوقوف على الأفلام المنجزة أو شبه المنتهية كفيل أن يكوّن لائحة من الطراز الأول، تفيض عن حاجة مهرجان كان. وما لم يتعثّر بعض الإنتاجات ويتأخر فيصبح من نصيب مهرجان سينمائي آخر منافس لكان وبرلين، أي البندقية، أو يفاجئنا بما هو دون المستوى، فإنه يمكن القول إن تييري فريمو وفريقه من المبرمجين لن يعدموا وسيلة لبناء برنامج متماسك وقوي لدورة كان المقبلة. فماذا ومن يحلّق إذن في الفضاء السينمائي؟

على الرغم من أن ما من شيء مؤكد بعد لدورة "كان" المقبلة سوى فيلم وودي آلن الافتتاحي "منتصف الليل في باريس" وروبرت دينينرو في مهام رئيس لجنة التحكيم الدولية ونظيره الفرنسي ميشال غوندري كرئيس للجنة تحكيم الأفلام القصيرة و"سينيفونداسيون"، إلا أن الترجيحات تشير إلى مشاركات لأمثال بيدرو ألمودوفار ولارس فون ترير وناني موريتي وجان-بيار ولوك داردن وسواهم.

فيلم ألمودوفار الجديد "الجلد الذي أحيا فيه" (The Skin that I Inhabit) سيعيد السينمائي الإسباني إلى الكروازيت مرة جديدة بعد مشاركته الأخيرة عام 2008 بفيلم "عناقات متكسّرة" (Broken Embraces). أما جديده فيعيده إلى البدايات من خلال تعاونه للمرة الأولى منذ 21 عاماً مع ممثله الأثير أنتونيو بانديراس الذي لعب بطولة بعض أفضل أفلامه الأولى. العنصر الثاني المرتقب في تجربة ألمودوفار هذه تحوّله إلى ما يشبه الرعب من خلال قصة جراح يبحث عن وسيلة لإعادة إحياء جلد زوجته المتوفاة في حادث سيارة. السيناريو مقتبس عن رواية الكاتب الفرنسي الراحل تييري جونكيه "تارانتولا".

"ميلانكوليا" (Melancholia) هو عنوان شريط المخرج الدنماركي لارس فون ترير الجديد. صاحب "الأمواج المتكسرة" و"راقصة في الظلام" و"دوغفيل" التي عرضت جميعها في كان بالإضافة إلى فيلمه الأخير "المسيح الدجال" (Antichrist) عام 2009 جالباً لبطلته تشارلوت غاينسبور جائزة أفضل ممثلة، يجدد في "ميلانكوليا" تعاونه مع الأخيرة ضمن طاقم تمثيلي يضم أيضاً الأب والإبن ألكسندر وستيلين سكارسغارد وكيفر ساذلاند وكيرستن دانست. أما الحكاية فلم يكشف الكثير عنها سوى أن هنالك ارتباط زواج بين شخصيتي ساذرلاند ودانست سينتهي بشكل مأسوي.

"لدينا البابا" (We Have a Pope) يشكّل عودة السينمائي الإيطالي ناني موريتي إلى السينما بعد عمله الأخير الفاضح لسيلفيو برلوسكوني "التمساح" (The Caiman) الذي شارك في كان عام 2006. يلعب بطولة الفيلم الجديد الممثل الفرنسي ميشال بيكولي في شخصية البابا الذي يقرّر الإعتذار عن تأدية مهامه بعيد انتخابه. ويجسد موريتي في الفيلم دور طبيب نفسي يستدعيه الفاتيكان لحل المشكلة. تجدر الإشارة إلى أن موريتي حاز سعفة كان الذهب في العام 2001 عن فيلمه "غرفة الإبن" (The Sons Room). وليس بعيداً من مجهر المهرجان مواطن موريتي المخرج الشاب باولو سورينتينو بجديده "هذا هو المكان حتماً" (This Must Be the Place)، لا سيما أن الأخير من بطولة شون بن. والحكاية الطريفة التي تروى هي أن بن الذي كان رئيس لجنة تحكيم مهرجان كان في العام 2008، منح فيلم سورينتينو السابق Il Divo جائزة لجنة التحكيم الكبرى وهنأه قائلاً: "إبقني في ذاكرتك لمشروعك القادم". وهكذا يلعب بن دور البطولة وإلى جانبه فرانسيس ماكدورماند حول نجم روك ينسحب من عالم الموسيقى ليقوم برحلة ستغيّر حياته.

من بلجيكا، يعود الأخوان جان-بيار ولوك داردن، صاحبا السعفتين الذهب، بجديدهما "الصبي والدراجة" (The Kid with a Bike) حول صبي يتركه والده فيرمي نفسه في أحضان امرأة غريبة تلعب دورها سيسيل دو فرانس. والمعروف ان الأخوين داردن ينتميان إلى "نادي المفضّلين" في كان، إذ إنهما منذ فوز فيلمهما "روزيتا" بالسعفة الذهب عام 1999، لم يغب فيلم لهما عن المهرجان والفوز بأحد جوائزه. ففيلمهما الأخير "صمت لورنا" (The Silence of Lorna) فاز بجائزة أفضل سيناريو في كان 2008.

ينضم إلى هؤلاء السينمائي الفنلندي آكي كاوريزماكي الذي انتهى من فيلمه الجديد Le Havre حول ماسح أحذية يحاول إنقاذ طفل لاجئ. كاوريزماكي ليس جديداً على كان أيضاً حيث عرض فيلمه الأخير "أضواء في الغسق" (Lights in the Dusk) عام 2006، وقبله نال جائزة لجنة التحكيم الكبرى عن فيلمه "رجل بلا ماضي" (The Man Without a Past) عام 2002.

على صعيد آخر، يمكن اعتبار أندريا أرنولد اكتشاف المهرجان الذي قدم باكورتها الروائية "الطريق الأحمر" (Red Road) عام 2006 وتجربتها الثانية "حوض السمك" (Fish tank) عام 2009. فاز الفيلمان بجائزة لجنة التحكيم الكبرى. جديد أرنولد مختلف جذرياً عن سابقيه حيث أنه اقتباس لرواية أميلي برونتي الشهيرة "مرتفعات ويذيرينغ".

تحت مجهر كان أيضاً السينمائي التركي نوري بيلج تشيلان، ضيف كان شبه الدائم منذ فيلمه القصير الأول "شرنقة" (Cocoon) وحتى أخيره "ثلاثة قردة" (Three Monkeys) الذي حاز جائزة الإخراج في كان 2008، مروراً بفيلم "بعيد" (Distant) حائز جائزة لجنة التحكيم الكبرى وجائزة التمثيل عام 2002. فيلمه الجديد في عنوان "كان يا ما كان في الأناضول" (Once Upon a Time in Aanatolia) عن طبيب يعيش في سهوب الأناضول.

على لائحة الاختيارات شبه المؤكدة أيضاً المخرج الروسي ألكسندر سوكوروف بـ"فاوست" (Faust) الذي سيعيده إلى رباعية فساد السلطة بعد محطته في الحرب العالمية الثانية من خلال "ألكسندرا" (Alexandra) الذي عرض في كان 2007. يختتم "فاوست"، وإنما من خلال الأسطورة المعروفة هذه المرة، ثلاثية السلطة والفساد التي أنجز سوكوروف منها Moloch (1999) عن هتلر Taurus (2002) عن لينين وThe Sun (2005) عن هيروهيتو. الأفلام الثلاثة عرضت في مسابقة كان.

ومن المرجّح كذلك أن ينهي المهرجان الجدل الطويل المعقود حول آخر أفلام المخرج المتميز والمقل تيرينس ماليك "شجرة الحياة" (Tree of Life). فالمشروع الموضوع على سكة الإنتاج منذ العام 2005 كان من المفترض أن يعرض في الدورة الماضية من مهرجان كان ولكن المخرج شعر بأنه غير جاهز بعد. ومع الإعلان الرسمي عن عرضه تجارياً في 27 أيار/ مايو 2011، يتأكد أكثر عرضه الافتتاحي في كان. المشروع برمّته يحوطه الغموض والحكاية يقال إنها من نوع الخيال العلمي. والبطولة لبراد بيت وشون بن. وماليك نفسه ليس غريباً عن المهرجان الذي عرض ثاني أفلامه "أيام الجنة" (Days of Heaven) عام 1979 ومنحه جائزة الإخراج.

يتوقع المتابعون أيضاً أن تضم لائحة اختيار كان 2011 كل من: "طريقة خطيرة" (A Dangerous Method) للكندي دايفيد كروننبيرغ؛ "قلِق" (Restless) لغاس فان سانت؛ "على الطريق" (On the Road) للبرازيلي والتر ساليس؛ وربما Twixt Now and Sunrise جديد فرانسيس فورد كوبولا.
أما الأسماء الفرنسية المطروحة للتشكيلة الرسمية فتضم برونو دومون (
LEmpire)، فيليب غاريل (That Summer)، كريستوف أونوريه (الكوميديا الموسيقية The Beloved)، مارجان ساترابي وفانسان بارونو (Chicken with Plums) اللذين عرضا في كان فيلمهما التحريك "بيرسيبوليس" عام 2007 وحازا جائزة لجنة التحكيم الكبرى.

اسم عربي وحيد يشق طريقه إلى التوقعات هو الفرنسي المغربي اسماعيل فروخي بثاني أفلامه "رجال أحرار" (Free Men) مع مواطنه طاهر رحيم (Un Prophéte) في دور البطولة. جذب فروخي الاهتمام بباكورته الروائية الطويلة "الرحلة الكبرى" (Le Grand Voyage) عام 2004 حائز جائزة "لويجي دي لورنتس" (أسد المستقبل) لأول فيلم روائي في مهرجان البندقية السينمائي.

 

المستقبل اللبنانية في

26.02.2011

 
 
 
 
 

مهرجان برلين الـ61 ....عدي «بديل الشيطان»

قيس قاسم

العراق كان حاضراً في مهرجان برلين السينمائي (الدورة 61) عبر فيلم «بديل الشيطان» الذي تناول سلوك عدي صدام حسين الدموي المشين في مرحلة ما قبل غزو الكويت. وقارات العالم حضرت بدورها عبر مجموعة أفلام صوّرت تواطؤ بعض الغربيين مع الحكام الفاسدين في العالم الثالث. «الأسبوعية» شهدت المهرجان.

في عامه الواحد والستين راهن المهرجان على الشباب وكأنه يعاند الزمن ليظل محتفظا بحيويته، متحديا سنواته الطوال، عبر الكثير من أفلام الشباب. وليس مصادفة ان تكون الألمانية من أصل تركي ياسمين سامديرلي واحدة من اللواتي قدمت لهن الدورة فرصة عرض فيلمهن الأول والى جانبها الأميركية فكتوريا ماهوني. مع الشباب حضرت السياسة وكالعادة بقوة في الدورة، وأول انعكاساتها اعلان منظمي المهرجان تعاطفهم مع المخرج المسجون في ايران جعفر بناهي، إذ علقت صوره العملاقة على جدران الساحات العامة أو على سيارات كبيرة، فيما شكلت قلة عدد المصريين المشاركين علامة على انشغال السينمائيين والصحفيين بالهم السياسي المحلي الذي تشهده بلادهم. طبعا لم يمنع هذا بعضهم من الوصول خصوصاً الى سوق المهرجان لعرض فيلم «6 7 8» كما لم يمنع حضور بعض من زملائنا الصحافيين الذين كانت أحاديثهم هذه المرة عن السياسة تعلو أحاديثهم عن السينما. والعراق كان حاضرا وبقوة عبر فيلم «بديل الشيطان» الذي تناول شخصية عدي صدام حسين وسلوكه الدموي والمشين خلال الفترة التي سبقت قليلا احتلال الكويت. وقارات العالم حضرت هي الأخرى عبر أفلام مخرجين منهم: الأرجنتينية باولا ماركوفيتش وفيلمها «الجائزة» والنمسوي اولريش كوهلير و«وعكة نوم»، الذي تمحور حول المساعدات الدولية الى البلدان النامية وكيف تواطأ بعض الغربيين مع الأفارقة المحليين على سرقتها فذهبت الى جيوبهم بدلا من أن تذهب الى المحتاجين.

وزوار المهرجان أبدوا اهتماماً بالعرض الأول لفيلم «بديل الشيطان» للمخرج النيوزيلندي لي تاماهوري، والأسباب معروفة، فهو فيلم عن ابن صدام حسين والطريقة التي حكم بها صدام وعائلته العراق خلال ما يقارب الثلاثة عقود. غير أن تاماهوري ركز كثيرا على أواخر الثمانينيات، وكيف كانت اشاعة الخوف واحدة من مصادر الحفاظ على السلطة. لقد خطط صدام لسياسة تعتمد القوة نهجاً في الحكم، وكان حريصا على تطبيقها بالعدل على أبناء الشعب العراقي، وهي نفسها كانت تدفعه الى ابتكار وسائل تحمي حياته من الأفعال الانتقامية من جانب خصومه، وهكذا لجأ الى اختيار بديل يشبهه كثيرا وكان يدفعه الى الظهور العلني بدلا منه تجنبا لسقوطه في أي محاولة اغتيال ضده. وعلى النهج اياه، سار ابنه الأكبر عدي، فقام هو الآخر باختيار بديل عرفه العالم حينما غادر العراق وطلب اللجوء السياسي في النرويج، ومن ثم أصدر كتابا عن تجربته عنونه«كنت إبنا للرئيس»، وهو المصدر نفسه الذي اعتمده مخرج «بديل الشيطان» وشخصيته الاساسية لطيف يحيى الذي اختاره عدي بديلا منه بعدما أجرى بعض العمليات الجراحية ليكون أكثر شبها به. وفي كتابه وصف لطيف أدق تصرفات عدي المشحونة بالعنف والانغماس الجنوني في الجنس والإدمان على المسكرات والمخدرات.

وفي الفيلم يتلمس المشاهد بعض جوانب النظام السياسي في العراق، وكيف تركزت الدولة في يد عائلة صدام متجاوزة شكليات اعتمادها على حزب البعث. وخلال حرب الكويت تجاوزت السلطة حتى القيادات العسكرية وصار صدام وأولاده هم من يديرون المؤسسة العسكرية. وقد ولّد امتلاك البلاد ومقدراتها احساسا عند صدام وعائلته بامتلاكهم أرواح العراقيين واعراضهم. والفيلم يركز على هذا الجانب كثيرا من خلال قصص متعددة تعكس السلوك المستهتر الذي كان عدي يمارسه. فهو لم يتورع عن ملاحقة طالبات الثانوية واختيار واحدة منهن ليقضي ليلته معها، وقد يقتلها بعد ذلك، ومشاهد انتحار العروس الكردية التي أخذها عنوة في ليلة زفافها واغتصبها خير دليل على ما كان عليه هذا الكائن الذي كثيرا ما وصف بـ«الوحش». و«بديل الشيطان» قدم مشاهد تكمل صورته حين رأيناه يعذب بنفسه رياضيين ومعارضين سياسيين في أقبية اللجنة الأولمبية العراقية التي كان يرأسها. ومن ناحية أخرى قدم الشريط صورة عن علاقة عدي بوالده وكيف الأخير يمارس دوره كأب صارم ومعارض لسلوكه، لكنه في واقع الحال كان يعفو عنه بتدخل وحماية زوجته التي كانت تحب ولدها كثيرا وتشجعه على تصرفاته المعيبة.

على مستوى الصنعة، وعلى أهمية ما وفره كتاب لطيف يحيى من مادة سردية مكتوبة بشكل جيد، لم يكن الفيلم جيدا. لقد أخطأ في معطيات تاريخية كثيرة وغَيَر كثيرا من الوقائع، وكل هذا قد نبرره له وحتى نتفهمه ربما، لو أن المحصلة كانت فيلما جيدا. فـ«بديل الشيطان» في النهاية ليس أكثر من فيلم مغامرة وحركة عادية، ممثلوه لم يجيدوا أدوراهم، والطامة الكبرى انهم كانوا يتكلمون الانكليزية بدلا من العربية، فأضعف هذا من مصداقية العمل كثيرا. وعلى المستوى الفني ظلت حركة الكاميرا محدودة والصوت ومؤثراته كانا ضعيفين وأقرب الى أفلام «الأكشن» السريعة الانتاح والرخيصة الكلفة. ومن الواضح أن لي راهن على حرارة الموضوع وإحتمال اقبال الناس على مشاهدة صورة عدي صدام وهي تنقل على الشاشة الكبيرة، بعدما قرأوا وسمعوا عنها الكثير، وقد يكون هذا الرهان موفقا من الناحية التجارية، لكنه ومن المؤكد لن يحقق أي نجاح سينمائي، وهذا ما لمسناه في برلين. على عكس هذا العمل جاء الفيلم الأرجنتيني «الجائزة» الذي تناول الدكتاتورية في البلاد بطريقة رائعة وغاية في البساطة، من خلال طفلة في السابعة من عمرها تعيش مع والدتها في كوخ تلعب فيه الريح وتغمره مياه البحر كلما ارتفعت.

عبر كلمات قليلة ورسائل مقتضبة يتعرف الجمهور الى أحوال العائلة، وصراعها مع السلطة بعدما زج بالزوج في السجن، فاضطرت الأم الى أخذ ابنتها والهرب معها الى كوخ صغير في قرية نائية. ومن خلال مدرسة القرية نعرف أن البنت تكره الجيش الذي تسبب في حرمانها من والدها، وهي تعبر عن هذا الكره من خلال نص بسيط كتبته بمناسبة الاحتفال بعيد الجيش الأرجنتيني، وبدلا من مدحه سطرت كلمات قليلة عبرت عن حقدها على العسكر، وكان وقوع الورقة في يدهم كافيا للزج بها وبأمها في السجن. لكن المفارقة التي تقدمها لنا المخرجة الشابة باولا ماركوفيتش تكمن في تغيير النص الأصلي بعدما طلبت والدتها من المعلمة تمزيقه وكتابة آخر بدلا منه. على النص الثاني «الكاذب» حصلت الطفلة على جائزة أفضل كاتبة صغيرة، وفي لحظة تسلمها الجائزة تدرك الطفلة وهي تقابل الضباط الذين جاءوا لحضور الحفل، انها تخون نفسها وعائلتها فتطرق برأسها وتعود الى صفها حزينة يائسة. «الجائزة» فيلم مناهض للدكتاتوريات كتب وقدم بأسلوب أخّاذ، والتمثيل خصوصاً دور الطفلة، كان على مستوى عال فرض علينا المقارنة بين الفيلم التجاري الهابط «بديل الشيطان» وهذا الفيلم الجاد والجيد.

 

الأسبوعية العراقية في

27.02.2011

 
 
 
 
 

«انفصال» لأصغر فرهادي الفائز بـ«الدب الذهبي» في الـ«برلينالة» الـ61

هناك أشياء أخرى غير القنبلة النووية في الحياة الإيرانية

زياد الخزاعي

بدت الحماسة الإيرانية جليّة في أروقة الـ«برلينالة»، اللقب الرسمي لـ«مهرجان برلين السينمائي الدولي»، الذي اختُتمت نشاطاته مساء السبت الفائت. فأينما يمّمت وجهتك، تر طلّة صاحب «البالون الأبيض» (1995) و«الدائرة» (2000) و«تسلّل» (2005)، المخرج جعفر بناهي، وضحكته التي وشت أن الكاميرا أرغمته عليها. إن الشعارات التي صاحبت تلك الصورة، ومنها الذكي على شاكلة «هل شاهدتم بناهي في مكان ما! (في برلين)»، أو الخائب مثل: «لن نتخلّى عنك»، هي المزاج العام الذي صبغ الدورة الحادية والستين هذه. «إيران عدو»، «نظامها قامع»، «الإيرانيون جميعهم ضحايا»، حتى لو كانوا من «السافاك»: هذا ما تلوكه الألسن. وكما توقّعت تلك الألسن الضربة العسكرية الأميركية ـ الإسرائيلية على بلد بناهي وكياروستامي ومجيدي وغيرهم، كاد هذا الخطاب يحوّل الشعب الإيراني كلّه إلى مخرجين وفنيين سينمائيين بالجملة.

حضور بناهي

خسّة السياسة متوجّرة ومتحمسة. الجميع هنا رفع راية الاعتراض على ملالي جمهورية خامنئي. وحدهم المعارضون الإيرانيون الناشطون، الذين تواجدوا في الدورة الماضية تزامناً مع هبة انتفاضة مير موسوي محرّضين الجميع على توقيع المناشدات، غابوا عن ساحة «بودستامر» (موقع الـ«برلينالة»). لا تبرير للغياب، لكن ماكنة المهرجان عوّضت. صُور قيصر الـ«برلينالة» ديتير كوسليك، بوقفته المستفزة خلف المقعد الخالي الذي يحمل اسم بناهي، والأخرى التي أظهرت لجنة التحكيم مجتمعة عند طاولة المداولات مع اللافتة نفسها، والإشارة اليتيمة التي ظهرت على الشاشة قبل العرض التركي ـ الألماني خارج المسابقة «مرحباً بكم في ألمانيا»، وحملت كلمة تضامن مع بناهي وزميله محمد راسولوف اللذين حُكم عليهما بالسجن ست سنوات بتهمة «نشر الدعاية المغرضة ضد الجمهورية الإسلامية»، وأحرجت بعض الحاضرين فصفّقوا متفاجئين، ومثلها صرخة مواطنهما المخرج رفيع بيتز صاحب «الصياد» في ندوته الصحافية المفتعلة: «نحن لسنا مجرمين. ما نسعى إليه هو أن نطرح أسئلة، وأن نبيّن الصعوبات التي يواجهها مجتمعنا»، قبل أن يكتشف: «ما وجدته سخيفاً، هو أن طرح الأسئلة أصبح جريمة»، ليؤكّد لاحقاً أنه سيُصوِّر فيلمه المقبل داخل إيران، وأنه «سيقاتل» لتحقيق ذلك (هناك ندوة نُظِّمت بعنوان «السينما المُراقَبة» بحضور مخرجين إيرانيين. كما جرى تجييش إعلامي منظّم لدعم بيع فيلم الرسوم المتحرّكة «الموجة الخضراء» لعلي صمدي أحادي داخل سوق الفيلم).

وحدها رسالة بناهي كانت عقلانية ضمن الهرج الإيراني في برلين. فالرجل لم يطالب بغلبة العواطف، بل قال صريحاً: «لقد أدانونني عشرين سنة من الصمت. بيد أني في أحلامي، سأنشد من أجل زمن نكون فيه متسامحين مع بعضنا البعض، نحترم آراء بعضنا البعض، ونعيش من أجل بعضنا البعض»، قبل أن يوصل الجميع إلى العزاء السينمائي بقوله: «من اليوم وللأعوام العشرين المقبلة، سأُرغَم على الصمت. سأُرغَم على عدم التمكّن من المشاهدة (الأفلام). سأُرغَم على عدم التمكّن من التفكير. سأُرغَم على عدم القدرة على إنجاز أفلام. خاضعاً لواقع الأسر والسجانين، سأنتظر تجسيد أحلامي في أفلامكم، أملاً في أن أجد فيها ما حُرمت منه». لا شكّ في أن مرجعية كلمات بناهي قائمة على رؤية غير تصادمية، على خلاف الكثيرين المتعجلين إلى العراك، حتى وإن كان تحت صقيع برلين. كلمات بناهي حول التداخل بين الواقع والأحلام، الحقيقة وإيحاءاتها، المخيّلة وآمالها، ستجد ألقها في جديد مواطنه الموهوب أصغر فرهادي «نادر وسيمين: انفصال»، إذ يحوك صاحب «عن أيلي» (2009) مرّة أخرى نعيه السينمائي طبقة متوسّطة تتفكّك وتُرتَهن إلى كفالة الفتوى الدينية، وعسف السلطة التوتاليتارية المتمسّكة بعمامتها وتخلّفها وظلاميّتها. كان الإجماع، بعد العرض الصحافي، على أن فيلم فرهادي مضمون للتكريم الذهبي، كنص وكطواقم تمثيل. وتحقّق ذلك لاحقاً مع إعلان لجنة التحكيم، التي ترأّستها الممثلة إيزابيلا روسّيليني، عندما حمل المخرج الشاب (مواليد أصفهان، 1972) التمثال الصغير، ليكون أول إيراني يدخل «الكتاب الذهبي» في حقبة المستشارة أنغيلا ميركل، التي تُعدّ من أشد معادي نظام الرئيس أحمدي نجاد.

فرهادي حكّاء من طراز فريد. فنان وقائع وكاتب حوارات مكثفة. هاجسه محكوم بسرديات تقارب الزمن اليومي لأبطال حكاياته الشديدة الواقعية. لا تزويق سينمائيا، ولا نفخ في الدراميات. لا ادّعاءات في الشتيمة السياسية، ولا تنظير حول تخريب السنن الاجتماعية. يبدو فرهادي كأنّه آخر المتمركسين للحياة الإيرانية المعاصرة من الباب العائلي. السلطة موجودة لتُقرِّر، أما الحق فهو تابع لمستندات وأمزجة وفتاوى. إيران كدولة يسيّرها موظّفون محكومون بالاحتراز المسبق، أي أن القضايا كلّها لا تخضع إلترسيمة معينة، بل لخطوط الاعترافات والوقائع والحلف على القرآن الكريم أو رأس الإمام الحسين. لا وضعية للقانون الذي يبرّر انفصال عائلة وتخريبها، ولا توازن في إخضاع ظروفها لنقاش عقلاني، بل التعجيل في إحقاق القانون، حتى إن كان جائراً وغير منصف، كما هي حالة الشابين نادر (بايمن موعدي) وسيمين (ليلى حاتمي). فالأخيرة تفشل في إقناعه باقتناص فرصة التأشيرة الكندية وضمان حياة أفضل لابنتهما الصبية ترميه. هذا النادر أخلاقياً مرتهن بالاعتناء بوالده المسنّ، الذي يعاني مرض الزهايمر، وليس متحفّزاً إلى الغربة. إنه شخص نبيل، ابن طبقته القوية الأسس. يرى في مرجعية عمله كطبيب توازناً بين واجبه العمومي وواجب النظام في ضمان اعتبارات تمايزه عن الآخرين. لكن الأمور ليست على قدرها العالي من التحضّر.

يوميات الشقاق

يفتتح فرهادي عمله المحكم البناء على الشابين وهما يواجهان قاضياً يكرّر الأسئلة نفسها. ويختتمه بعد ساعتين وثلاث دقائق وهما في انتظار قراره العصيّ على وحدة العائلة الصغيرة. بين الزمنين، يصوغ فرهادي يوميات الشقاق الذي يقود إلى الفاجعة غير المتوقعة. ففيما يلوب العالم الغربي حول القنبلة النووية لطهران، تحدث حرب من نوع قاس في شقة أنيقة وسط العاصمة. معركة ضنينة الدوافع، ضحيتها صبية وجنين. يبحث نادر عن مدبّرة منزل ترعى والده، ويسعفه حظّه بالشابة الأم رضية (أداء مميّز لسارة بيات) وابنتها الصغيرة، التي تكون زناد القنبلة الاجتماعية الأخطر مما تبحث عنه مخابرات العالم في محيط موقع نطنز النووي. في لحظة غضب، يدفع البطل رضية، بعد اتهامها بسرقة ماله، عند درج العمارة، ما يؤدّي إلى خسارتها جنينها. تتحوّل الوجهة إلى اتهامه بقتل كائن بشري. يُطارد حجة (أداء قوي لشهاب حسيني) زوج رضية، الطبيب الشاب سعياً إلى الثأر وأخذ الحق. تحلف رضية برأس الحسين أنها لم تسرق شيئاً، وقبلها سعت إلى فتوى من سيّد إن كان العرف الديني يسمح لها بغسل العجوز الثمانيني الذي بال في بيجامته. بيد أن شكوك نادر وعزّة طبقيته لا تسمح له بالغفران. ترى مع مَنْ يقف القانون؟ لن يقع فرهادي في الفخّ. ذلك أن مشاهده الصبور سيعرف أن التواطؤ لا يخاف من ارتكاب الكفر والتزييف والكذب.

ابنة رضية تكشف لنادر أن أمها كانت في المستشفى يوم «واقعة الدفعة». وبحسب اعتراف الأم، فقد تعرّضت لاصطدام سيارة بعد محاولتها إعادة العجوز الذي قرّر ابتياع صحيفته اليومية، ما أدّى إلى خسارتها الجنين. تعود سيمين إلى بيت الزوجية لتُعيد ترتيب صفقة إفلات نادر من السجن، وتُقنع عائلة حجّة بقبول مال الفدية. تحكم المحكمة بإسقاط القضية لصالح ابن الطبقة النافذة، ويبقى الشاب حجة صارخاً: «هل نحن كلاب». وتُصعق رضية باكتشاف أنها امرأة جبانة، لأن ظروف ديون زوجها أرغمتها على التلكؤ وكشف الحقيقة. وحدها الصبية ترميه، التي يصرف فرهادي المقطع الأخير من فيلمه عليها، تقف أمام الخيار الحاسم، الذي يُحّقق الطلاق وينهي حالة الانفصام الكاذب.

فيلم أصغر فرهادي جدير بتعميم المشاهدة. إنه استكمالٌ باهر لـ«عن أيلي» (جائزة «الدب الذهبي» لأفضل مخرج في «برلينالة» العام 2009)، حيث يتمّ تسبيق العائلة أولاً كضحية لنظام قهري، تضمّ شباباً نرى أن حماساتهم يقمعها زجر اجتماعي وسياسي يلاحقهم حتى وإن كانوا في بقعة نائية (المنتجع السياحي في «أيلي»)، أو كانوا في قلب طهران. فالشك عام، مع فساد الذمم.

)برلين(

 

السفير اللبنانية في

03.03.2011

 
 
 
 
 

'انفصال نادر وسيمين' يحصد الجوائز بالجملة

السينما الإيرانية تتفوق على السينما الأمريكية في مهرجان برلين السينمائي

حسن بنشليخة

يبدو أن المخرج الإيراني اصغر فرهادي لم يكن راضيا بحصوله على جائزة (الدب الفضي لأفضل إخراج) عن فيلمه 'عن إيلي'، الذي فاز به في مهرجان برلين السينمائي قبل عامين. فعاد هذه السنة، أي بعد سنتين فقط، بفيلمه 'انفصال نادر وسيمين'، من تأليفه وإخراجه، ليفوز ليس فقط بجائزة (الدب الذهبي) الكبرى لأحسن إخراج بل ليحصد صغاره وكباره من الدببة الأخرى لأفضل ممثل وممثلة وبذلك يكون تفوق على حضور السينما العالمية والأمريكية على الخصوص، المتمثلة في رالف فينيس وكيفن سبيسي وفنيسا ريدغريف وجريمي آيرنز.

يتتبع فيلم اصغر فرهادي 'انفصال نادر وسيمين' تفكك عائلة إيرانية ضد مجموعة من التوترات السياسية والاجتماعية في طهران. إنها قصة زوجين، نادر (بيمان موعدي) وسيمين (ليلى حاتمي)، وابنتهما ترميحة (سرينة فرهادي، ابنة المخرج) البالغة من العمر 11 عاما. تطلب سيمين من زوجها رحيل الأسرة عن إيران طمعا في حياة أفضل، لكن نادر يرفض ويقرر البقاء في بلده لرعاية والده الذي يعاني من مرض الزهايمر. بعدها تقاضي سيمين زوجها للحصول على الطلاق حتى تتمكن من مغادرة البلاد. لكن المحكمة ترفض طلبها وتمنحها فقط حق الانفصال عنه وتذهب للعيش مع والدتها. أما ترميحة فتقرر العيش مع والدها على أمل أن والدتها ستعود يوما ما. إنها دراما تعرض هموم ومشاكل ومكبوتات متعددة من حياة أسرة طهرانية، لتغوص في أخلاقيات المجتمع الإيراني الحالي بإبداع راق استحق معها المخرج الحصول على أهم جائزة سينمائية ألمانية من مهرجانها في دورته الواحدة والستين، في أول سابقة في تاريخ السينما الإيرانية.

سحر الصورة وروعة الأداء وثراء اللغة

هذا الفيلم، رغم طعمه الدرامي، يشبه سحر فن روائع الرسم الإيراني: لوحة بديعة تنبض بالجمال وبشاعرية فياضة. جاء معقدا على الطريقة الهيتشكوكية في احداثه المتناسلة المتغيرة المتجددة التي تتعقد باستمرار، ورائعا ومليئا بالحوار الروحي-الفلسفي على طريقة المخرج السويدي انغمار برغمان، ومؤثرا على الطريقة الايطالية بتقنيات جديدة وطرق وأساليب ملهمة في الإخراج، وبديعا في قصته وحبكته ولغته الإنسانية المستلهمة من الهوية الإيرانية. أما أداء الأدوار فتختطفك من مكانك أثناء مشاهدة الفيلم ببراعة مذهلة وبكل عفوية وبراءة وبقوة تأثيرية هائلة، تصل إلى حدود الدهشة في أدق التفاصيل الذي يحمل كل الجمال والمتعة والتألق الإنساني. انه فيلم متنوع ومتشابك بعناية فائقة مثل بيت العنكبوت يفضح عالم الأنانية والفخر، والأخلاق والدين والمال والشرف الذي تنهشه الماديات وتسقط فيه القيم الإنسانية. ويبني الفيلم ذروته الدرامية مشهدا بعد مشهد بتفاصيل جديدة وتعقيدات لا نهاية لها، يحير معها المشاهد ويتساءل عن المَخرج. وكان لزاما على المتفرج أن يدقق بعين ثاقبة في الفيلم لان السينما الإيرانية بها غموض غريب وإثارة لا يستطيع معها المتفرج الإمساك بالمعنى الذي يريد المخرج التعبير عنه. فالتفاصيل فيه مهمة (لغز الخادمة مثلا وتهمة التسبب بإجهاض جنينها) لأنها تحمل الكثير من رموز الصراع الطبقي والتعقيدات الاجتماعية والنفسية الخفية. فالمخرج فرهادي يحكي قصة لكنه لا يكشف عن كل جوانبها، ويترك هذه المهمة للمتفرج ليتفاعل معها. وقد اعتمد فرهادي على الصور الحقيقية للمجتمع الذي يرصده عبر الكاميرا بلا تزيين أو ألوان زاهية، ورصد الواقع واشكالياته في أطر بعيدة عن الاستعراض استند معها إلى أحداث حقيقية غالبا ما تحمل في طياتها الوعي الاجتماعي أو السياسي الحافل بالتفاصيل والهموم الإيرانية اليومية من دون الحاجة إلى أي مرافعات ايديولوجية ذات الطابع السياسي. وعلو شأن الفيلم يكمن في قيمة التعبير في الصورة، ومدى ما تنطوي عليه من رموز ودلالات يرغب المخرج في بلورتها داخل اللقطة، كي تفرز إثارة تخيلية ذات أبعاد معينة داخل نسق الفيلم يعطي صبغة واقعية إنسانية أكثر للأحداث. أما السيناريو فقد سيطر عليه فرهادي سيطرة تامة والتزم بكل ضوابطه وامسك بالأهداف والطموحات ولم يدع الفيلم ينام ولو للحظة. وكلما حاول الفيلم ذلك أيقظه بمزيد من الاشتعال لأنه يفهم جيدا ما يترتب من حروب نفسية جراء الطلاق أو الانفصال، وان لم يكن تعرض شخصيا لهذه المعاناة على حد تصريحاته. لقد استطاع المخرج حقا أن يستعرض أوضاع النساء ومعاناتهن داخل إيران، عن طريق النبش عميقا في النفس البشرية، ولا يملك المرء سوى أن يقع في عشق عالم فرهادي الذي جاء كتحفة فنية رائعة. وضع فرهادي بصمته الخاصة في الإلهام السينمائي بتقنيات جديدة وطرق وأساليب ملهمة في الإخراج تجعلك تظن أنك أمام عبقرية فلّينية. كل هذا الإلهام يتحقق بميزانية لا تتعدى الـ 350 ألف يورو!

سر تألق السينما الإيرانية

الذي يشاهد الفيلم يدرك سر احتفاء المتخصصين والنقاد العالميين بالسينما الإيرانية. إنها سينما بدأت بسيطة على مستوى السرد تحمل في ثناياها نفحات إنسانية وقيما جمالية تتجاوز حدود محليتها وبإشارات ملائكية وفنية تصل إلى قلب المشاهد مباشرة. لكنها تعقدت في ما بعد لتطال الأخلاقيات النفسية والاجتماعية، كما هي الحال مع فيلم اصغر فرهادي وأفلام أخرى. لهذا تجد السيناريو الإيراني يحمل عمقا مدهشا ولغة ثرية متنوعة ومكتوبا بنكهة الإبداعات القصصية الراسخة في الثقافة الإيرانية الشعبية، وتشم من خلاله رائحة حافظ الشيرازي وعمر الخيام وجلال الدين الرومي. ونظرا لطبيعته التأملية والفلسفية وقيمة مادته الجمالية ولغته التعبيرية، يصبح السيناريو واحدا من أهم خصوصيات وميزات السينما الإيرانية. أما الإخراج فيركز على الحس الجمالي في أرقى مستجدياته تحس معه أنك أمام السجاد الإيراني المفعم بروعة الفن وجمال النقوش والألوان التي تعبر بدورها عن شاعرية الإنسان الإيراني ودفئه العاطفي وحبه للفن. وقمة التمثيل تدهش المشاهد، ومهارة الكاميرا وتحكمها في اللقطات ودقة اختيار مواضيعها والتركيز على التفاصيل تفهم معها انك أمام سينما مختلفة، من خلال تأكيدها على هويتها وخصوصياتها وتفردها وعدم تشبهها بأي سينما أخرى. وهذا بالضبط ما يجعلها تنافس المستويات العالمية. ويشكل الرهان على المحلية الذي اعتمدت عليه الأفلام الإيرانية أهم خطواتها نحو العالمية إذ اهتمت بتوثيق مشاغل مجتمعها وهمومه وتخلت في المقابل عن زخرفة الديكورات المسرفة والنماذج البطولية الهوليوودية المزيفة واهتمت بالمواطن الإيراني وآلامه وهواجسه. وبذلك تكون السينما الإيرانية قدمت استعراضاً راقياً يصل إلى الجمهور المحلي والعالمي يستحق كل الإعجاب والتقدير.

هكذا تتميز السينما الإيرانية عن سواها وتستقطب المشاهد العالمي بسحرها وتستحوذ على مخيلته وتطير به إلى عالمها الغني بإبداعات التصوير والإخراج والموسيقى والحوار في أدق التفاصيل، قدمت فيها مجموعة من روائع الأفلام ونماذج عظيمة للفن الإنساني الراقي. انه الفيلم الإيراني الجديد الملتزم وما يحمله من نقد للمجتمع نتيجة المناخ الثقافي الجديد والانفتاح السياسي الكبير واحترام حرية التعبير داخل إيران. لكن، ما يحز في القلب، هو أن إيران التي تستثمر في الفن للرفع من شأن شعوبها، يقابله التباهي باستنساخ المركبات الرياضية العملاقة وناطحات السحاب الشاهقة من طرف بعض الدول العربية، ولاسيما الخليجية منها المطلة على سواحل إيران.

ناقد ومخرج سينمائي مغربي

 

القدس العربي اللندنية في

22.03.2011

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004