الألمان أول من اكتشف كيفية صنع أفلام
ثلاثية الأبعاد.. وتحية من برلين لإنغمار بيرغمان
سنوات ضوئية بروباغاندا بثلاثة أبعاد
محمد رُضا
بينما كان مخرج أسترالي اسمه فرانك مورا ينقب بحثا في
المواد الأرشيفية الألمانية المصورة، تمهيدا لإنجاز فيلم وثائقي عن كيف
استخدم النازيون السينما لخدمة إعلامهم، فوجئ باكتشافه فيلمين قصيرين (مدة
كل منهما 30 دقيقة) مصنوعين بالأبعاد الثلاثية.
بذلك يكون الألمان أول من اكتشف كيفية صنع أفلام ثلاثية
الأبعاد في العالم. فالسائد هو أن الأميركيين أنجزوا ذلك النظام في مطلع
الخمسينات، لكن ها هي القرائن تشير إلى أن السينما الألمانية هي التي سبقت
نظيراتها حول العالم، فتاريخ هذين الفيلمين يعود إلى سنة 1939.
إنه اكتشاف بالغ الأهمية يعيد النظر في أشياء كثيرة، من
بينها أن هناك قيمة بالغة الأهمية حتى في الأفلام ذات القصد الإعلامي أو ما
يسمى بسينما البروباغاندا. فالغاية لإتقان اللغة السينمائية التي من خلالها
يتم التعبير عن الفيلم (أي فيلم) لم تتوقف، والكثير مما نراه اليوم في هذا
الصدد هو تطوير لما كان سائدا. فنحن نعلم أن الألوان استخدمت حتى حينما
كانت السينما ما زالت عبارة عن أفلام قصيرة صامتة في السنوات العشر الأولى
من القرن العشرين، وأن التعبير عن زمانين، ماض وآن، في فيلم واحد على طريقة
«فلاش باك» تم أيضا في تلك الفترة، بل إن نطق السينما كان مثار محاولات
لعدة سنوات طويلة قبل أن ينبري «مغني الجاز» للنطق - جزئيا - سنة 1927.
وبالنسبة للمؤرخين، فإن هذا الاكتشاف الجديد بالغ القيمة
وسيعيد إرساء جديدا على التاريخ الفعلي للسينما، مما يعني أنه كلما اعتقدنا
أننا فهمنا التاريخ واعتبرناه مرجعا موثوقا، تبدت لنا حقائق جديدة تغير
مفهومه تغييرا كاملا، وهذا ليس فقط بالنسبة للسينما، بل بالنسبة لكل شؤون
الحياة.
* سبعة أيام برلينية: تعدد القضايا وغياب الهم الجماعي
* البعد الشاسع بين السينما العربية وكل ما عداها يتكشف هذا
العام مع كل يوم يمر من أيام هذا المهرجان السينمائي الكبير. لقد لاحظنا
هنا، كما لاحظ سوانا، غياب السينما العربية، لكن هذا الغياب هو قاعدة وليس
استثناء، بينما بات غياب سينمات أخرى من المنطقة ذاتها هو الاستثناء وليس
القاعدة.
فمبدأيا، لا يوجد منطق وراء غياب السينما العربية، بل مناهج
تفكير خطأ تتمدد في اتجاهات ثقافية واجتماعية وسياسية تجتمع تحت مظلة «اللا
اكتراث». لكن حتى هذا التجمع لا يعني أنه السبب الوحيد وراء الغياب الذي
يزداد وضعه فداحة، حينما نلاحظ الاهتمام الكبير الذي يبديه المجتمع
السينمائي بالسينما الإيرانية والتجاهل الكامل للسينما العربية.
هذا على الرغم مما نعرفه جميعا من العداوة المتبادلة بين
إيران والغرب، مما يوعز إلى فكرة أن الغرب ربما يحب من يعاديه. وبالتالي،
إذا ما كان هذا صحيحا، فإن السينما العربية التي ليس لديها منهج معاد ولا
تنطلق من وضع آيديولوجي متزمت تخسر أشواطا حتى قبل أن يصل الفيلم إلى شاشات
المهرجانات الدولية.
هذا الكلام يأتي على ضوء الاستقبال الجيد الذي أحاط بفيلم
أصغر فرهادي الجديد «نادر وسيمين: انفصال»، الذي تم تقديمه في المسابقة
الاثنين الماضي، وهو الفيلم المقدم رسميا باسم إيران، أي أن الدولة التي
جلبت على نفسها انتقادات المحافل الدولية لحكمها الجائر على المخرج جعفر
بناهي، هي ذاتها التي استقبل فيلمها بترحيب شديد، بل وباعتقاد شامل بأن هذا
الفيلم جدير بالجائزة الكبرى إذا ما قررت لجنة التحكيم ذلك.
المحير في الموضوع أن الفيلم فيه نقد لجوانب سلبية في
المجتمع الإيراني، لكنه ليس في الأسلوب العاكس لسينما ذاتية الطرح، كتلك
التي في أعمال بناهي. فهل يعني ذلك أن المسؤولين هناك لا يمانعون النقد إذا
ما ورد ضمن خانة الحكاية الاجتماعية المعهودة، ويعارضونها إذا ما كانت ضمن
أسلوب سرد يرصد الحالة على نحو من يسلط الضوء عليها؟ وما الفرق حينها إذا
ما كان العملان ناقدين؟ أم أن المسألة هي أن بناهي مقصود لذاته؟ في حين أن
فرهادي لا يزال معتبرا من أبناء النظام الذي سيتاح لهم تناول ما يريد ما
دام أنه في النهاية يصور المسألة على أساس أنها قصة لا أكثر من ذلك أو أقل؟
* فيلم اليوم
* شكسبير لا يزال بيننا (Coriolanus)
كوريولانوس إخراج: راف فاينس تمثيل: راف فاينس، غيرارد بتلر، برايان كوكس
بريطانيا / المسابقة – 2011
* «ولماذا هو غاضب لهذا الحد؟» سأل ناقد إسباني مخضرم
الجالس لجانبه أول ما انتهى الفيلم البالغ 122 دقيقة. وهو ليس سؤالا عاديا
يطلب جوابا بقدر ما هو ملاحظة تمتد لتشمل كل الفيلم، الذي هو الإخراج الأول
للممثل المعروف الذي سبق له أن قدم العمل ذاته على خشبة المسرح طويلا.
«كوريولانوس» كما تقدم سابقا، مسرحية لوليام شكسبير من بين
أقل مسرحياته انتقالا إلى الشاشة، لكنه كباقي أعمال شكسبير، فإن
«كوريولانوس» في الوقت ذاته عمل تراجيدي يمضي بعيدا في تشريح النفس الواحدة
وعواطفها المتشرذمة بين العقل والعاطفة وبين المنطق وغيابه وبين القتل
لمبدأ والقتل كانتقام. فيلم فاينس يحتوي على هذه العناصر بوضوح ويثير، كما
المسرحية، البحث في التاريخ. كل ما في الأمر من اختلاف، أن بحث شكسبير في
هذا النطاق تعامل والزمن الغابر له، فهو كتب عن تراجيديا بطلها جايوس
ماركوس كوريولانوس الذي عاش في القرن الخامس الميلادي (كتب شكسبير هذه
المسرحية ما بين عامي 1606 و1608) في حين نقل المخرج هذه الأحداث إلى عالم
اليوم غير عابئ بغياب المبررات.
فاينس يصنع فيلما يريد طرح ذات المسائل السياسية
والاجتماعية التي شكلها شكسبير، كأرضية صراع في مسرحيته تلك، وهو (فاينس)
ينجح في الإتيان بالمسببات، فالفيلم لا يزال يتحدث عن جوانب لصراع دام،
وأحد هذه الجوانب اقتصادي بين من يملك ومن لا يملك، لكن الجانب الذي يطغى،
وعن صواب، هو متى يعترض القائد الذي يحاول دخول السياسة طريقه بنفسه، لأنه
يشعر بأن ثأره لعدوه يأتي في المرتبة الأولى فيفقد صوابه، ومن ثم حياته، في
سبيل اندفاع جله عاطفي؟
فاينس نقل الأحداث كما وردت في المسرحية، لكنه بنقله لها
زمنيا أمد الفيلم ببعد جديد. الفيلم ليس تراجيديا شكسبيرية الملامح بقدر ما
هو فيلم معارك وحروب يمضي بعيدا في عنف المواقع.
* ما يحفظ للفيلم عنفوانه هو أن المخرج لا يغفل متابعة
شخصيته الرئيسية، كوريولانوس التي يقوم بتشخيصها بنفسه، ومحاولاته التي
تنطلق أولا من فصل نفسه عن السياسة، بعد انتصاره ضد عدوه تالوس (غيرارد
بتلر)، ثم قبوله بمنصب سياسي قبل أن يمضي في محاولة الانتقام من عدوه ذاك،
ثم تلبد تلك الرغبة حين يجد لزاما الانضمام إليه في حربه ضد المصالح
السياسية قبل أن ينتهي وإياه في منازلة أخيرة.
يخرج فاينس مشاهده بمطرقة هاوية على الأبصار والآذان
والأدمغة. ليس لديه وقت للتفنن، لكن عمله في الوقت ذاته ليس رديئا، وإن كان
يبحث لنفسه عن ناصية أسلوبية بصرية أفضل لا يستطيع تأمينها. هناك قوة بصرية
مركبة من الشخصيات والتصرفات والأماكن طوال الفيلم. كذلك فإن الإبقاء على
النص الشكسبيري من دون تغيير (بنفس مفرداته وتعابيره غير المستخدمة اليوم)
يمنح العمل تميزا آخر من ناحية، وباعثا على قدر من الانفصام في المرامي،
كما لو أن فاينس يريد أن ينجز التاريخ والحاضر في الوقت ذاته.
* بلا محور
* الإجابات تحتاج إلى بحث، لكن ما هو مؤكد أن هذا الفيلم
تحديدا من بين بضعة أفلام رفعت درجة الحرارة في المهرجان خلال الأيام
القليلة الأخيرة. فمن بعد بداية واعدة بفيلم واحد، هو الأميركي «نداء
جانبي»، الذي لا يبدو أنه سينجز أي نجاح على صعيد الجوائز، طغت جملة من
الأفلام التي تبدو كما لو ضلت طريقها إلى شاشة هذا المهرجان، من بينها
الفيلم التركي - الألماني «ألمانيا» لياسمين سيمديرللي، و«كهف الأحلام»
لفرنر هرتزوغ (ألمانيا) و«السبت البريء» لإلكسندر مينداز (روسيا)، وعلى
الأخص «الجائزة» لباولا ماركوفيتش (المكسيك) و«مرض النوم» لأولريخ كولر
(ألمانيا). وحتى الفيلم الكرتوني «حكايات الليل» للفرنسي ميشيل أوسيلو لم
ينجز جمالا للتنويع الذي افترض أنه سيحدثه.
كذلك فإن أفلاما تم تقديمها خارج المسابقة وإنما ضمن
البرنامج الرسمي، كأعمال رئيسية لم تأت بمستوى فني كبير، كما الحال مع
«مدخل الخدم» للفرنسي فيليب لو غواي، وبقي لفيلمي «مجهول» لخوام كوليت سيرا
و«وحدة النخبة 2» إيجابية أنهما من النوع التشويقي الذي حد من استغراق
المشاهدين في النوم خلال عروض الأفلام المذكورة.
لكن مع دخول المهرجان نصفه الثاني سخن الجو فجأة. وصارت لدى
المرء أعمال يتحدث عنها الحضور بإعجاب أو على الأقل، باختلاف بين استحقاقها
للجائزة أو عدمه، أو حتى ما إذا كان فيلما جيدا أو مجرد محاكاة للجودة.
ما يتكشف عنه هذا الوضع هو أن ما يضعف المهرجان ربما
التنويع الشديد، ليس في الأساليب فقط، بل في الطروحات. على عكس السنة
الماضية حين تصدر موضوع الإسلام والمسلمين المهاجرين طروحات ثلاثة أفلام
عرضت في المسابقة الرسمية، لجانب الفيلم التركي «عسل»، الذي نقل شريحة حياة
ثقافية من الأناضول إلى الشاشة الكبيرة بذكاء مفرط، فإن أفلام هذه السنة
ليس لها محور جامع، بل حكايات تذهب في كل اتجاه، حسب ما أثار رغبة
السينمائي الواقف خلف عمله.
* 14 فيلما لبيرغمان في برلين
* تلقي الدورة الحادية والستين من مهرجان برلين السينمائي
الدولي نظرة تقدير لمخرج كان قد رحل قبل ثلاث سنوات بعد أن جال طويلا في
السينما وأنجز لها بعض أهم أعمالها.. إنغمار بيرغمان.
التحية التي يلقيها المهرجان على ذلك المخرج السويدي اللامع
تضم أربعة عشر فيلما من أعماله، من بينها أفلام من مرحلته الأولى، مثل
«أمطرت على حبنا» (1948)، و«الساحر» (1958)، وأفلام وضعته للمرة الأولى في
مواجهة مع نفسه وعالمه مثل «الختم السابع» (1957)، و«عاطفة» (1968) وأخرى
أقدم عليها بعدما أصبح ذا شهرة ذائعة، كما الحال في «فاني وألكسندر»
(1981).
والحقيقة أن تقدير بيرغمان ومراجعة أعماله من زاوية البحث
المفعم بالرغبة في الوقوف على أسرار صنعة سينمائية لا يزال ذا أسلوب عمل
فريد، أمر لم يتوقف عن الحدوث منذ أن رحل في الثلاثين من شهر يوليو (تموز)
سنة 2007. بل هو لم يتوقف مطلقا منذ اكتشاف الأوروبيين أولا ثم العالم،
البيرغمانية كأسلوب فني يختصره المخرج بنفسه ويضم وجهة نظره في الحياة وفي
الموت واهتمامه الكبير بمسائل الدين والنفس البشرية والتأنيب المعذب للضمير
وسوى ذلك من الحروب داخل النفس البشرية. ففي الوقت الذي كانت فيه السينما
قد اعتادت اتخاذ الفرد مكانا للانطلاق صوب المحيط الأوسع للحديث من خلاله
عن العالم، عمد هو إلى الفرد واتخذه مناسبة للمضي في عمقه.
بيرغمان، من بين كل مخرجي السينما ومبدعيها، مثل الجنوح
للأقصى في عملية البحث عن القضايا النفسية الغارقة عميقا في شخوص أبطاله.
ولم يكن ذلك بعمليات تصويرية معقدة. لم تكن لديه رغبة في تحويل الكاميرا
إلى شكل قائم بذاته يعيق حركة الشخصيات ويقطع دابر التواصل بين المشاهد
وبين ما يقع على الشاشة. على ذلك أسأل أي متابع من تلك الفترة عن المخرج
«الأصعب» فهما، فإن الجواب شبه الدائم هو إنغمار بيرغمان. وحسب مذكراته
الشخصية المنشورة سنة 1988 تحت عنوان معبر هو «المصباح السحري»، وقع إنغمار
بيرغمان في حب الفن منذ أن دخل المسرح لأول مرة حين كان في الخامسة من
عمره. كتب: «من حينها، عشت عالما خياليا من صنعي لازمني ولم أحد عنه أو
أفكر في صده».
ولد في 1918 في مدينة أوسالا، في السويد. والده كان راعي
أبرشية لوثرنية قبل أن يصبح قسيسا للعائلة الملكية. الصبي بيرغمان نشأ في
بيت محافظ ومتشدد في ما يتعلق بالمناهج والتعاليم الدينية. هذا التشدد نتج
عنه ابتعاد المخرج عن التعاليم الكلاسيكية للدين المسيحي ومروره بفترة
زمنية طويلة من الأسئلة التي كانت تقلقه حول الوجود والحياة والموت، فقد
انعكست على أفلامه، مثيرة الكثير من النقاش والجدال حول ما تطرحه. وأحد من
تلك الأسئلة التي تتابعت من فيلم إلى آخر يكن في محاولة عدم الإجابة عن
سؤال حول أين الصواب وأين الخطأ في السلوك الإنساني؟ بل طرحه بكل ثقله أمام
الكاميرا لإظهار النزاعات الصغيرة، والكبيرة في دواخل شخصياته. طرحت أفلام
المخرج قضايا شائكة تتعلق بدواخل النفس البشرية وما يدور فيها وبالسير على
حافة ضيقة بين الحياة والموت لجانب معالجتها قضايا وحدة الفرد في أعماقه
هربا من المواجهة أو خوفا من كشف مستور نجحت في إخفائه لحين، لكنها لم تنجح
في نسيانه.
تخرج بيرغمان من الجامعة في استوكهولم سنة 1940، وبعد عام
واحد عمل كمخرج مساعد في مسارح المدينة، ثم أخذ يعمل مستشارا للسيناريوهات.
في عام 1944 كتب فيلما بعنوان «عذاب»، قام ألف سيوبيرغ، وكان أحد مشاهير
السينما السويدية إلى الستينات، بإخراجه. بعد عامين كتب فيها عدة
سيناريوهات أخرى، انتقل بيرغمان إلى الإخراج بنفسه في فيلم سماه «أزمة» سرد
فيه قصة فتاة شابة تعيش مع والدها أستاذ الموسيقى بعدما هجرتها أمها وهي
طفلة. ظهور الأم فجأة ينقلب هناء مؤقتا، خصوصا حين تنقلها من الريف إلى
المدينة.
كان ذلك الفيلم تمهيدا لعدة أفلام تحدث فيها عن أزمات النفس
البشرية كتابة أحيانا وإخراجا وكتابة أحيانا أخرى، لكن لا شيء كان مميزا أو
دالا على أن هذا المخرج سيصبح يوما ما من كبار مخرجي السينما حول العالم.
لقد عرف عن بيرغمان أنه كان يمضي وقتا طويلا وهو يفكر في
عمله المقبل (أسابيع وشهورا أو حتى سنوات) وهو اتبع بعد ذلك الطريق الذي
يتبعه كل من يريد التأكد من أن ما في باله هو الذي سيصل إلى الشاشة بطريقته
هو. وأول خطوة في هذا الصدد هو أن يكتب السيناريو بنفسه. وهو كان في
البداية شديد الحرص على إيصال رؤيته إلى حد أن كل التفاصيل التي في باله
عليها أن تنفذ كما يريد بما في ذلك الطريقة التي على الممثل أو الممثلة نطق
الكلمة وتحريك اليد أو نوع النظرة. لكن لاحقا، في الثمانينات وما بعد، أخذ
يمنح ممثليه حرية أكبر. |