كتبوا في السينما

 

 
 
 
 
 

ملفات خاصة

 
 
 

ثلاث جواهر سينمائية مصوّرة بالأبعاد الثلاثة في الأيام الأولى من مهرجان برلين

هيرتزوغ يقول لنا إن السينما ولدت قبل 32 ألف عام!

برلين ـــ من هوفيك حبشيان

مهرجان برلين السينمائي الدولي

الدورة الحادية والستون

   
 
 
 
 
 
 

أوسلو يُدخل الصغير والكبير إلى عالمه الاكزوتيكي وفاندرز يجنّن

في الأيام الأولى للدورة الحادية والستين لمهرجان برلين السينمائي (10 - 20 الجاري) جرى الاحتفاء بسينما أوروبية تختبر الأبعاد الثلاثة، وسيلةً للانشراح والترويج والذهاب نحو آفاق جديدة. التجارب الثلاث خرجت بنتائج متفاوتة، على رغم رقي هذه الأعمال الثلاثة التي يمكن تصنيفها في خانة الجواهر السينمائية التي تحلو مشاهدتها. هنا قراءة نقدية في انتظار المزيد مما سيُعرض في التظاهرة الألمانية التي تستمر الى الأحد المقبل.

"كهف أحلامنا المنسية": كاميرا تلمس وجه التاريخ

فرنر هيرتزوغ. هذا الاسم يعني الكثير لجيل السبعينات. الرجل اسطورة حية. عاصفة من الصور تجتاح المخيلة عندما تراه أمامك: نوسفيراتو، اغويره، الرجل الذي التهمه الدببة. أي كل هذا الخوف الذي هيمن على سينما ما بعد انفتاح الستينات على أفكار جديدة. انه آخر الناجين من زمنٍ، كان الفيلم الألماني فيه لا يزال يؤمن بالمستحيل. كيف لنا أن ننسى المخرج الذي جعل سفينة تتسلق الجبال؟ هيرتزوغ ابن تلك المرحلة وابوها ايضاً. بعد سقوط الجدار، استيقظت السينما الألمانية من نومها العميق. اكتشفت تدريجاً ان من غير الممكن تغيير العالم. بدلاً من ابتكار الحدث، بدا التعليق على الحدث أكثر انسجاماً مع المرحلة الجديدة. ظلّ هيرتزوع، كناسك خارج مصالح الزمن ومصالحاته، يسكن احلام تلك السينما، وبدا غير قابل للتخلص من هواجسه الأزلية. لذلك، ظلّ خلاّقاً لا تقوى عليه التغييرات والمستجدات العابرة. أدارت المانيا له ظهرها، فرحل الى الولايات المتحدة حيث خلق نفسه من جديد.

وحده مَن يتابع التفاصيل الدقيقة التي يقحمنا فيها فيلمه الجديد، يدرك عما نتكلم. "كهف أحلامنا المنسية" (خارج المسابقة) مخلص للخط الذي رسمه هيرتزوغ لنفسه منذ بداية السبعينات، مع قفز متوقع الى مرحلة جديدة (تقنية الأبعاد الثلاثة) وجد المخرج أنها تخدم فكرة الفيلم. من اللقاء الحميمي بين الـ3D وكهف وُجدت فيه رسوم تعود الى 32 ألف عام، تولد الشاعرية السحرية التي ترافق الفيلم طوال تسعين دقيقة.

بعبقريته المعهودة في الذهاب الى اعماق التجربة الآدمية، حمل هيرتزوغ كاميراه ونزل الى جبّ الارض. هذا الكهف الذي اكتُشف في منطقة ارديش الفرنسية عام 1994، وجد فيه هيرتزوغ ضالّته، كونه يحتوي على رسوم تعتبر اول التعابير الفنية في تاريخ البشرية، أي في حقبة كانت البقعة الجغرافية التي تسمّى اليوم أوروبا تعجّ بالحيوانات المفترسة كالدببة والأسود وغيرها. هذه الرسوم أسقطت بعض المعتقدات القديمة الراسخة في ما يتعلق بتطور الفنّ في مرحلة ما قبل التاريخ. يأخذ هيرتزوغ ما يمنحه إياه علماء الآثار ورجال العلم من معلومات ليبني حولها خطاباً روحياً فلسفياً فيه تعرجات الى موضوعات تشكل أكثر من مدخل لفهم عمل هيرتزوغ وما يشغله منذ بداياته الاولى.

واحد من الأشياء التي يريد هيرتزوغ تأكيدها من خلال تصويره تلك الرسوم، ان السينما كانت لها ولادات متتالية، أولاها ربما في ذلك الكهف. فإذا نظرنا بدقة الى الرسوم الأربعمئة الموزعة على الجدران الصخرية للكهف، واذا ما اتيح لنا المجال لتعقب آثار التقنية المعقدة التي وُضعت لتشكيل تلك الرسوم (تفكيك كيفية تحرك الفرس مثلاً)، فسنصل عاجلاً أم آجلاً الى نظرية مفادها ان ثمة تشابهاً بين ما رسمه مجهولون في ذلك الكهف وما يولّده هيرتزوغ بكاميراه من صور، مع الفرق ان ثمة 32 ألف عام تفصل الحدثين. أن يتجرأ هيرتزوغ على اقناعنا بهذه الفكرة، وإن تلميحاً، فهذا يموضعه في عداد السينمائيين الذين لا يختارون النظرة التعسفية والحلول السهلة في كيفية النظر الى الشرط الانساني. "هذه الرسوم في الكهف وكاميراتك، سيان"، يقول له احد العلماء في نهاية الفيلم. فجأةً، تتماسك حجة هيرتزوغ، وترتعش آلة التصوير، فنفهم ما الذي جاء به الى هنا.

•••

يقول هيرتزوغ انه اكتشف رسوماً مماثلة تعود الى مرحلة ما قبل التاريخ، عندما كان في الثانية عشرة من العمر. "وعيي الفكري والروحي ارتبط برسوم العصر الحجري. كنت في احدى المكتبات عندما رأيت واحداً من تلك الرسوم على غلاف كتاب. كانت صورة لرسم من كهف لاسكو. اجتاحتني حماسة لا توصف: كنت اريد الكتاب، كان عليَّ أن امتلكه. لكن كوني لم أكن اجني الا دولاراً واحداً في الشهر كمصروف جيب، رحتُ أعمل في ملاعب كرة المضرب واستدنت المال من إخوتي. وكنت أذهب لأتأكد، ويدي على قلبي، ما اذا كان الكتاب لا يزال في المكتبة. أعتقد ان هذه النسخة كانت الوحيدة الموجودة هناك. شراء الكتاب تطلّب ستة أشهر، وعندما فتحته للمرة الاولى، شعرت برعشة الاعجاب، الاحساس الذي لم يفارقني قطّ".

على رغم ان الفيلم يحفل بمعلومات كثيرة، فقد وجد هيرتزوغ سبيلاً لجعلها ملكه وإضفاء لمسته الفلسفية الخاصة عليها كي تصبح مناسبة لبعض التأملات الروحية عن أصل الانسان ومستقبله وكذلك عن ضرورة توثيق الكنوز البشرية. فعل التصوير لا بدّ أن يقترن دائماً عند هرتزوغ بجنون ما. هذه الرحلة الى اقاصي التاريخ يرافقها نوع شبيه بالجنون الذي ضرب أغويريه عندما قاد رجاله في الأدغال. هذه ليست المناسبة الاولى ندرك فيها مدى التشابه بين هيرتزوغ والشخصيات التي صوّرها، لكن ما يقوده هنا الى اقتفاء آثار مَن "اخترع" السينما بآلاف السنوات قبل اختراعها الفعلي على يد الأخوين لوميير، هو استماعه الى صوت العظمة في داخله الذي يجعله دائماً ينكب على مشروع متناه في الكبر.

هذه ليست المرة الاولى يصوَّر فيها فيلم وثائقي بالأبعاد الثلاثة. نتذكر اختبارات جيمس كاميرون في هذا المجال. استخدام هذه التقنية أجدى نفعاً وخصوصاً ان محور الحديث هنا هو البعد التشكيلي للرسوم، ولولا الـ3D، لكان ظلّ تأثير الرحلة في احساس المُشاهد محدوداً. احتمالات التقنية المستخدمة هائلة، حتى لنكاد نلمس ما نراه. نلمس وجه هذا التاريخ الذي لطالما أبهر هيرتزوغ وجعله يبحر على أمواجه. واذا كانت الـ3D تظهر فاعلية اكيدة في نقل أهمية الرسوم الملهمة، فما إن تخرج الكاميرا الى الضوء والسماء حتى تفقد هذه التقنية سبب وجودها، لتصبح ثقيلة على اسلوب ريبورتاجي (كاميرا محمولة، تعليق صوتي بلكنة ألمانية محببة...) يفضله المخرج على سواه من الأساليب. لكن بفضل تعليقاته الفلسفية العميقة، والتي مهما استندت الى معطيات علمية تبقى تعليقات رجل فنّ وصورة وخيال، يتجنب الوقوع في اجتهادات تقنية كانت ستأخذ الفيلم الى امكنة يخون فيها العمل نفسه.

في لحظة لا شكّ انها الاقوى في الفيلم، يطلب هيرتزوغ من العلماء ومعاونيه التقنيين الذين انضمّوا اليه في هذه المغامرة، ان يلتزموا الصمت لعل الكاميرا تلتقط (عبر الميكرو) دقّات القلب. لحظة مثل هذه، وفي مكان كهذا، تقول الكثير عن الكيفية التي ينظر فيها هيرتزوغ الى انجازات البشر. هناك لحظة ثانية لا تقل انسجاماً مع الفكرة التي تستقيم عليها سينماه، هي ما يأتي في الخاتمة، حين يأخذنا هيرتزوغ الى حوض التماسيح في منطقة رون في الالب الفرنسية. على هذا التمساح، وهو الحيوان الذي ليس غريباً على هيرتزوغ، يبني المخرج قراءة فكرية، فيها الكثير من الطرافة والقليل من الجدية. طبعاً، لا وجود لهذه التماسيح في مثل هذه البقعة الجغرافية، لكن تحايل هيرتزوغ الذي لطالما فضّل ان يطلق العنان لمخيلته على أن يطارد الواقع بحرفيته، جعله يأتي بالتماسيح من لويزيانا خدمةً لرؤياه السينمائية.

أخيراً، تكمن أهمية هيرتزوغ في انه سينمائي لا يعلم الكثير. أو لا يعلم ما يكفي لينصبه معلماً على انسانية يعتبرها منجماً عميقاً للتجارب. عدم المعرفة هذا، هو الذي يقوده الى نصب كاميراه حيث لم يسبقه اليه أحد. هذا الجهل، أو لنقل قلة المعرفة، أو العطش الى معرفة المزيد، تدفعه للركون الى الظلمة لعلها تقوده الى النور. هذه المقاصد كلها تندرج في الفيلم بمرتبة عالية من الوضوح، لأنها تترجَم بلغة سينمائية على قدر معين من الشفافية. فما تشابك الضوء والعتمة ولقاؤهما المتكرر أمام كاميرا هيرتزوغ سوى انعكاس آخر لهذه الثنائية التي لطالما نقل صراعها، مواصلاً مع "كهف أحلامنا المنسية" معاينة جذورها البعيدة. الجمال دائماً على الموعد، حتى في عتمة كهف رطب يعاند من أجل البقاء مستقلاً عن الأزمنة التي تجتازه من دون أن تغيّره. النور في العتمة، أليس هو التعريف الأجمل للفن؟

"حكايات الليل": 3D بلا مسوّغات جمالية

أكثر حكمة وهدوءاً من هيرتزوغ، وأقل جنوناً منه، هو ميشال أوسلو الذي جاءنا بعمل جديد كان يستحق أن ننتظرة طوال السنوات الست الماضية. بعد "كيريكو" و"أزور وأسمر"، دخل هذا الحكواتي نادي الكبار الذين صنعوا سينما التحريك. تقنيته غاية في البساطة: خطوط بدائية وأطياف، مستوحاة من مسرح الظلال على طريقة لوتيه راينيغر التي وجّه اليها المخرج تحية فضفاضة أحدثت بلبلة صغيرة على ما يبدو. لكن هذه البساطة لشدتها تحولت مصنعاً معقداً يعمل ضمنه أوسلو لسنوات فيتمخض كل بضعة أعوام عن فيلم يستحق أن يشاهَد. الجديد هنا استعانته بتقنية الأبعاد الثلاثة، وهي جاءت لا شك لأسباب محض ترويجية، لأنه، خلافاً للفيلمين الآخرين المعروضين بهذه التقنية، لم تكن هناك مسوّغات جمالية لها، علماً ان هذا لا يقلل البتة من شأن الفيلم.

يستعمل أوسلو تقنيات أساسية (بازيك)، ويقول عن هذا الاستعمال ممازحاً إنه يأتي من كونه تربّى في بيئة فقيرة. "أحب الاقتصاد، وأعتبر ان فيه نوعاً من الأناقة". ففي"أزور وأسمر"، مثلاً، روى أن هناك أموراً امتنع عن انجازها لأنه لم يشأ أن يخرج عن الموازنة، ومن جهة أخرى، لأنه يحب ذلك الانزعاج الذي يتحول وحياً، كأنه يحوّل الرصاص ذهباً.

قبل دخولنا الى "حكايات الليل" (مسابقة)، كان السؤال حول ضرورة مشاركة الفيلم في مسابقة الـ"برليناليه"، مشروعاً. أما بعد معاينة تفاصيله، فبات السؤال يُطرح على هذا النحو: ماذا لو خطف هذا الشريط الحافل بالتهكم والسخرية الخبيثة قلب رئيسة لجنة التحكيم ايزابيلا روسيلليني ورفاقها، ليشق طريقه الى الدبّ الذهبي؟ هل تُقرأ هذه الالتفاتة باعتبارها تنتصر لسينما تمجد "البساطة الصعبة" مقابل سينما أدخلت كل أصناف التعبير البدائي في مرحلة الغيبوبة؟

أياً يكن، فليس هذا ما يشغلنا هنا. فالسعادة التي تغمر المرء عند خروجه من فيلم أوسلو لا تقدَّر بثمن. هي سعادة طفولية طبعاً، لكنها صادقة ومتحررة من قيود كثيرة. لكن، يجب ألاّ يكون هذا عائقاً أمام قراءة متأنية للفيلم بعيداً من مظاهر الفرح التي رافقت العرض المخصص للجمهور الألماني.

ثلاث شخصيات، شاب وفتاة ورجل، يلتقون يومياً في قاعة سينما فارغة ويفكرون بصوت عال عن امكان اختلاق حكايات مستوحاة من ثقافات مختلفة. نقاشاتهم ستستقر على ست حكايات، وستُسند الأدوار الى الشاب والفتاة. طبعاً، الأخلاق الحميدة هي سيدة الموقف، لكن أوسلو يتجنب جعلها غليظة، مفروضة فرضاً، لأن الكتابة السينمائية التي ينتهجها توفّق بين لهفة الطفل الى عالم من الشخصيات المذهلة من جهة، ودهشة الكبير أمام ابداعات غرافية ذاخرة بالألوان والحياة من جهة آخرى. انه، باختصار، يخاطب الصغير داخل الكبير، والكبير داخل الصغير. هذا هو سرّ سينمائي يعتمد على السحر لإدخال المشاهد الى عالمه الاكزوتيكي.

تقتحم حكايات أوسلو أمكنة وأزمنة مختلفة: قصر ملك يريد تزويج بناته؛ في احدى الجزر حيث تجري دعوة وحش لإطعامه فتاة، استجابة لاسطورة محلية. هذا كله في صحبة زمرة أميرات وملوك وبصارات. ينتقل بنا أوسلو الى القرون الوسطى، والى أزمنة غابرة، على وقع أنغام إكزوتيكية تطرب الآذان، فيما العين تصبح أسيرة كولاج من الاضاءات والألوان والرسوم الباهرة. طبعاً، يُضاف الى هذا كله، لجوء اوسلو الى الكلمة الحنونة والذكية المثيرة للرغبة، مخرِّباً مفهوم الحكايات والأساطير التي حفلت بها طفولتنا. فالعبرة التي نستنتجها من كل واحدة من الحكايات الست ليست تقليدية ومتكاملة، بل محاكاة عبرة، كالحكاية التي تظهر مثلاً ان الانثى أكثر ميلاً الى الرجل الشرير منها الى الصالح.

•••

عندما كان صغيراً، كانت أفلام التحريك الوحيدة التي يشاهدها أوسلو من صنع "ديزني"، وهي لا تزال تعجبه الى اليوم. يقول: "بعد "الجميلة النائمة"، لم تعد أفلام "ديزني" تهمّني. "بيتر بان"، "ساندريللا"، "الجميلة النائمة"، "دامبو"، كلها تعجبني. لكن الأفلام التي تلت ينقصها السحر". في العشرين أدرك أوسلو ان الرسم سيكون مهنته. قبل ذلك العمر، كان ينجز أموراً صغيرة، بكاميرا والده. ثم سارت الأمور وحدها لأنه في تلك المرحلة لم يكن هناك مدرسة تعلّم التحريك، فابتكر كل شيء بجهد شخصي معتمداً على عصاميته. لم يمر عبر ستوديوات متخصصة بالتحريك، لذا لم يتعلّم كيف تُنجز هذه الأمور هناك. "أنا جاهل"، يقول أوسلو، "بنيت دائماً وحدي هيكليات صغيرة وحاولت أن أحزر كيف تُنجز هذه الأمور، وكنت أجد أحياناً حلولاً لم ينجح آخرون في إيجادها".

درس الفنون الجميلة في أنجيه (فرنسا)، وفنّ الديكور في باريس. وأمضى عاماً في الولايات المتحدة. في تلك المدارس تعلّم الرسم والنحت والنقش ولكن ليس إنجاز السينما. ارتكز على الرسم، واعتبره أكثر إثارة للاهتمام. كان يمنحه قدراً أكبر من الحرية والقدرة على التعبير: "ما أريده ارسمه، لا يكلّفني إنجاز قصر الساحرة أكثر من صنع رجل يمشي في الشارع".

في فنّ أكثر صعوبة من غيره، يشكو أوسلو من عنصر الزمن الذي يمنعه من تقديم عدد أكبر من الأعمال: "زملائي ينجزون فيلماً بستة أشهر، أما أنا فتلزمني ست سنوات. وهناك من ينجز الفيلم بشهر واحد".

لأفريقيا مكان خاص في قلب أوسلو. هذه المكانة انتقلت من القلب الى الشاشة. "قصدتُ المدرسة الابتدائية هناك، في غينيا، كانت بداية جيدة جداً قبل الانتقال الى آسيا، لأنني رأيت العالم أمامي فوراً، وأدركت على عكس الآخرين، أن المكان الذي أقطنه ليس الوحيد في العالم. كان هناك حضارتان في متناولي، الحضارة الأفريقية السوداء، والحضارة الفرنسية، لأننا كنا نعود الى الريفييرا الفرنسية في العطل الطويلة. وفي غينيا، كان هناك طوائف متعددة: بروتستانت وكاثوليك ومسلمون. وكان الأمر طبيعياً. البيض والسود كانوا كلهم متساوين في نظري، وكنت أظن أن الكل فرنسيون. كانت بداية ممتازة، مع أشخاص متوازنين، وسلام مطلق، بلا عنف. كان في امكاننا التنزه في كل مكان، ونذهب حيث نشاء، نستقل القطار صغاراً، من دون أن يصطحبنا الكبار. كان والداي يعرفان أن الناس هناك سيحموننا ولن يلحقوا بنا الأذى. ثم ذهب والداي المعلّمين، اللذين كانا يحبان السفر كثيراً، الى فرنسا، الى منطقة لا يعرفانها مطلقاً، أنجيه، في شمال غرب البلاد، وهناك عانيت قليلاً، لأنني لم اعتد الا على الشمس، وكان الطقس غائماً والأرض مبللة، وكان الناس يتبعون قوانين أجهلها، علماً أنني فرنسي الأصل. كنت أدعهم يعاقبونني في المدرسة ولا أعرف لماذا، وكنت أكره البلد. ثم أدركت، عندما انتقدت مهاجرين أغبياء الى فرنسا كانوا يهاجمون البلد بدلاً من أن يحاولوا ايجاد السعادة فيه، أنني مهاجر غبي وابتكرت منه شخصية "كرابو"، التي تمثلني عندما كنت في الـ15 من العمر، وتجسد أيضاً الكثير من الناس الذين ألتقيهم في فرنسا وأمكنة أخرى، لا يعرفون العيش في أماكن أخرى، وعلى رغم ذلك "يبصقون" على المكان الذي هم فيه".

أوسلو شغوف بالشرق. حكاياته تعبق برائحة البخور.عبر لقاءات حصلت مصادفة، اطّلع على الحضارة الاسلامية العليا التي يعتبرها حضارة لامعة ومنفتحة. ولم يخشَ في أفلامه أظهار الجامع والكنيسة والكنيس. لكن عندما يقول له أحدهم إن ثمة تسامحاً في أفلامه، يجيب أن ذلك غير صحيح: "لا تسامح في أفلامي، شخصياتي ليست متسامحة لكنها مرتاحة وتستمتع بالحياة. لا نحتاج الى التسامح، وتوقفوا عن إعطاء الدروس، أُظهر بشراً يفهمون أموراً وهم سعداء بالإنوجاد معاً. ولا تقولوا لي إني متسامح لأنني أحب الشوكولا. كلا، الشوكولا لا يأتي من فرنسا، هو من أميركا الجنوبية، ولا أحبه لأنني متسامح. أفلامي ليست كالمخدرات. فعندما يتناول المرء المخدرات، يشعر أنه سعيد، ولكن عندما يستيقظ تكون الأمور أسوأ من قبل. كي تدوم هذه السعادة بعد الفيلم، أقول ما أعرفه عن الحقيقة".

"بينا": ميوزيكال يعبره الحداد

التحية التي يوجهها فيم فاندرز الى مصممة الرقص الراحلة بينا باوش (1940 - 2009) ستبقى خالدة وماثلة في وجدان السينما. بعد مجموعة أعمال باهتة لم تثر الحماسة التي يستحقها مخرج "أجنحة الرغبة"، يأتينا فاندرز بضربة معلّم. فيلم ميوزيكال يذهب بنا من مناخ الى مناخ، عبر مجموعة لوحات راقصة يضع فيها فاندرز لمسة ألمانية قاسية، مستعيناً بالتقنية الثلاثية البُعد التي يدفعها هنا الى ذروتها لتتبيّن انها مفيدة جداً وفاعلة عندما يتعلق الأمر بتصوير هطول المطر وأشياء أخرى. ذلك ان أعين المشاهدين تتيه مع أجساد تتهاوى وتتحرك وسط الساحات وعلى الخشبة وفي ديكورات تتبدل وتتلون. تماهي العين مع ما تراه، يجعل الشريط نشطاً، فتصبح تلك العين مشاركة في الحركة المتواصلة التي لا تتباطأ ولا تضجر، لا بل تتسارع كلما بدأت العين تعتاد على الحركة.

فيلم ميوزيكالي فخم لا مثيل له يقدّمه فاندرز هنا، يأخذ شكل وصية تتخللها شهادات خاطفة من معاوني باوش وراقصيها. عمل مؤثر يخطف الانفاس التُقطت مشاهده بعد أشهر قليلة من رحيل باوش، فتكاتف الفريق بأكمله ليحوّلوا العمل من احتفالية ميوزيكالية الى مناسبة للحداد. الفيلم برمته يعبره هذا الحزن، هذا الحنين. ألم الفقدان وبهجة الموعد الافتراضي مع الكائن الأحب يسكنان شريطاً مأخوذاً بضخامة الفجيعة وفرحة التعويض عن خسارة الانسان بتركته الفنية.

في البداية لم يكن فاندرز متحمساً حيال الـ3D. اليوم هو مصرّ على أن هذه التقنية تشكل مستقبل السينما. "انه عالم آخر، ولغة أخرى. الى الآن استخدمنا الأبعاد الثلاثة في التحريك والمؤثرات الخاصة. لكن قريباً سنكتشف أنها مفيدة لتجسيد الواقع. مشاهدة شيء في منتهى البساطة، حتى لو كان هذا الشيء لقطة قريبة لشخص يحكي، تمنح نوعية عالية من الحضور. بالنسبة اليَّ، بات من الصعب العودة الى الوراء".

يرتكز الفيلم على رهان تقني في المقام الأول. لكن هذا الرهان يربحه فاندرز ليس لأنه يصر على اظهار عضلاته وتأكيد موهبته في التقاط مشاهد دخلت منذ الآن معبد الصور، بل لأنه صادق في ممارسته الاسلوبية ويعرف أن الاساس لا بدّ ان يكمن في كيفية تمجيد الشغل والحرفة والجهود التي يبذلها الراقصون لإنجاح كل عمل من الاعمال التي شاركوا فيها. لذا، كان من البديهي أن يتحول الفيلم، بعد رحيل باوش، من فيلم تشارك في صنعه الى فيلم يخيّم عليه طيفها.

من لوحات راقصة مهيأة قبل كل شيء للمسرح، يستخرج فاندرز ما يجعله يحلّق إخراجاً وإيقاعاً، مقرباً الفنّ على الدوام من الوجود (طيف الحداد) ومقرّباً الخشبة من الهواء الطلق، الى درجة ان الحدود بين الأشياء تتهاوى. هناك لحظات سينمائية كبيرة طبعاً، فيها من الجمال والمناخات المعبرة ما يجعل المُشاهد يجنّ، وفي المقابل ثمة لحظات أضعف في التكرار الذي ينصاع اليه. تصميمات باوش تتيح لفاندرز عدداً لامتناهياً من الحريات المتداخلة: حرية الاخراج، حرية التمثيل، حرية الزاوية التي يُلتقط منها المشهد. هذه التصميمات هي ايضاً مصدر إلهام مكاني. فأينما حلّت كاميرا فاندرز فهي دائماً تبحث عن مكان تخرّبه وتترك فيه بصمات دامغة. سواء في المترو او في حديقة عامة أو على سلالم كهربائية لا نرى آخرها، يصلح المكان ليكون مسرحاً ابدياً لولادة فوضى خلاّقة.

 

النهار اللبنانية في

17.02.2011

 
 
 
 
 

رابع أيام «برلين السينمائي» ثلاثي الأبعاد

عقدة الذنب الألمـــانية ترفض «وادي الـــــذئاب»

زياد عبدالله - برلين

يبدو أن كلمة رقابة لا تحضر في أوروبا إلا عند الحديث عن اسرائيل، وعلى نحو أكبر في برلين مع عقدة الذنب الألمانية، التي يمكن لها أن تمتد إلى ما لا نهاية حتى وإن كانت ضحية الأمس أصبحت القوة الوحيدة التي مازالت تخلف الضحايا يومياً، وقد كدست من القتلى وشردت من البشر ما يجعلها وحش القرن الـ،20 الذي لم يروضه القرن الـ21 بل زاده وحشية وشراسة.

هذه المقدمة على علاقة مع خبر متعلق برفض عرض الفيلم التركي «وادي الذئاب ـ فلسطين» في سوق الفيلم الأوروبي، الفعالية الأهم المرافقة لعروض الدورة 61 من مهرجان برلين السينمائي، التي يتم من خلاله عقد مئات الصفقات لشراء وتوزيع الأفلام، كما أوردت شركة «بانا» المنتجة للفيلم أنه تم تأخير تقييم الفيلم لعرضه في دور السينما الألمانية بسبب «تعزيزه مشاعر مناهضة اسرائيل» وقد وصفت المؤسسة الألمانية المسؤولة عن ذلك بأن الفيلم «يشكك في شؤون سياسية غير موجودة في الواقع».

مضحكة هذه العبارة الأخيرة، وعلى شيء من افتراض أن تلك المؤسسة ولا أحد غيرها يعرف الواقع وحقائقه، أو أن لجنة تقييم الأفلام من حقها محاكمة المحتوى من هذا الباب هي التي يقتصر دورها على تصنيف الفيلم لا أكثر، في أوروبا وأميركا، وعلى شيء يتناقض مع كل القيم الأوروبية التي تنعدم متى تعلق الأمر بإسرائيل، ولتبدو هنا مثلها مثل اي رقابة عربية بالية.

طبعاً فيلم «وادي الذئاب ـ فلسطين» ليس إلا بجرعة «أكشن» جديدة لها أن تضرب على وتر فلسطين و«قافلة الحرية» وما شهدته السفينة التركية، وسيكون كما توحي معالم كثيرة استكمالاً لما كان عليه «وادي الذئاب» الأول الذي علينا أن نضيف عليه العراق، وقد انتج عام 2006 مقدماً لنا رامبو التركي الذي يأتي مخلّصاً للعراقيين «المساكين»، لكن يمسي المرء إلى جانب الفيلم نكاية بالهلوسات الرقابية السابقة الذكر، وليس لقيمة الفيلم الفنية.

مسرحية راقصة

نترك «وادي الذئاب» ونمضي إلى ما كان عليه رابع أيام مهرجان برلين، الذي يصلح توصيفة بيوم ثلاثي الأبعاد، حيث شهد عرض ثلاثة أفلام ثلاثية الأبعاد ولثلاثة أسماء كبيرة في عالم السينما، الأول فيلم فاندرز الذي قدم فيلماً وثائقياً راقصاً بعنوان Pena «بينا» عن الراقصة بينا باوش، التي يمكن توصيفها بالمسرحية الراقصة، بمعنى أنها كانت تؤلف مسرحيات راقصة، وقد توفيت عام ،2009 وفيم فاندرز كان ينوي تصوير فيلمه عن هذه الفنانة الاستثنائية منذ أكثر من 23 سنة، لكنه كان يؤجله بحثاً عن الكيفية التي يقدم بها باوش، إلى أن استقر على الأبعاد الثلاثة لكن حين أصبح التطور الذي طال هذه التقنية منسجماً مع رؤيته لفن بينا باوش.

مشروع فاندرز كان بأن يقوم بجولة في العالم برفقة باوش ويسألها مجموعة من الأسئلة ويجعلها تجيب عنها رقصاً، وهي الآلية التي تتبعها مع تدريبها الراقصَين الذين تعمل معهما، لكن وفاتها حول ذلك إلى قيام فاندرز بذلك مع الراقصين الذين عملوا معها، والنتيجة أولاً فيلم محتشد بالجمال، سواء عبر المادة التي يوثق لها فاندرز ألا وهي الرقص وأي رقص! إنه عبارة عن احتشاد جنوني بالتعبيرية والرمزية وعلى شيء من التنقل من راقص إلى آخر، وفق مستويين يبني عليهما فاندرز فيلمه، الأول: مسرحي وقد كان له أن يكتفي بذلك، إلا أن علينا ألا ننسى أنه فاندرز وبناء عليه يمسي المستوى الثاني سينمائياً وامتداداً جمالياً ينقل الرقص إلى مواقع تصوير مبنية وفق املاءات ما تقوله الرقصات التي صاغتها باوش، وعلى شيء مما له أن يكون مجموعة متوالية ومتسقة من مساحات جمالية مبنية على هدي «الفيديو آرت» برفقة الرقص والموسيقى والأغاني التي من الصعب توصيفها إلا بمشاهدتها.

فيلم فاندرز يدفعك للسؤال عما تقدمه السينما لفنانة مثل بينا باوش، بمعنى أن تلك الراقصة التي صنعت كل تلك المسرحيات الراقصة الاستثنائية ستجد في الفيلم ما ينقل رقصاتها التي اتخذت من خشبة المسرح منصة لتقديمها إلى الشاشة بحيث تكون متاحة أمام ملايين البشر، وفاندرز يقول «إنه يريد لباوش أن يعرفها من يجهلها»، وقد تحقق ذلك أولاً ويا لها من معرفة!

شعوب بدائية

نبقى مع الأبعاد الثلاثة لكن هنا مع فيرنر هيرتزوغ مواطن فاندرز وهو يقدم تجربة وثائقية جديدة لها أن تتحالف وهوس هيرتزوغ بموضوعاته الأثيرة المتعلقة بالطبيعة وعلاقة الانسان بها، وبحثه المتواصل عما يعزز من مملكته السينمائية الأنثربولوجية، والعزلة التي تضع إنساناً على حافة النجاة وتجعله وجهاً لوجه أمام ما يتهدده وهو منزوع من الحضارة، إضافة إلى جوانب أخرى يمضي فيها هرتزوغ خلف الشعوب البدائية ما يشكل ملامح متأصلة في عمله السينمائي لديه هو الذي كان ايضا رئيس لجنة التحكيم في الدورة السابقة من برلين السينمائي.

عنوان فيلم هيرتزوغ Cave Of Forgotten Dreams «كهف للأحلام المنسية» ويوثق فيه هرتزوغ كهفاً تم اكتشافه عام 1994 في شمال فرنسا يحتوي على مجموعة رسوم لها أن تعود إلى ما يتجاوز الـ30 ألف سنة قبل الميلاد، ولتكون هذه الرسوم هي الأقدم على الطلاق، كما أن هذا الكهف مازال غير متاح أمام الجمهور خوفاً من أن يؤثر ذلك في مستويات الرطوبة التي حافظت على هذه الرسوم، الكهف يفتح أمام هرتزوغ ومن غيره يوثقها كما فعل.

في المسابقة

مع الفرنسي ميشل أوكلوت سيكون الحديث عن الأنيماشن الثلاثي الأبعاد هذه المرة، وفيلمه Tales Of The Night «حكايا الليل» حيث الباب سيكون مشرعاً أمام الحكايا التي ينسجها فتى وفتاة، وهي متوالية وفق خيالهما، يقترحان مكاناً وخطوطاً عامة للقصة ثم يجريان بحثاً عن حضارات أوروبية أو إفريقية أو آسيوية، ثم يشكلان نفسيهما في آلة عجيبة ليكونا تجسيداً لمخيلتهما ومن ثم يمضيان في الحكاية، وعليه تتوالى الحكايا الجميلة وفي محاكاة لكل القصص الخيالية والموروث الإنساني في هذا الخصوص، ولتكون هنا التقنية الثلاثية الأبعاد استثماراً جميلاً يمنحنا شعوراً بأن أمام ما كان يعرف بصندوق الدنيا من دون أية مبالغات أو مؤثرات فاقعة، لنا أن نجدها في انتاجات «ورونر براذر»، ومن القصة الأولى التي تعود إلى القرن 15 في أوروبا نعقد اتفاقاً مع الفيلم بأن الرهان هو على الرسوم بخصوصيات تكوينها والبعد الثالث يمنح الصورة عمقاً لا يلغي الرهان على تحالف الصورة المتسق مع الحكاية، أو الحكايا التي يقول أوكلوت بأنه كان يكتبها بين الحين والآخر فإذ به يعرضها على المنتج فيقول «لنصنع فيلماً منها».

إنها المرة الأولى التي يكون فيها فيلم «أنيماشن» في المسابقة الرسمية، ولعل الأفلام الثلاثية الأبعاد كذلك، ويمكن في جردة سريعة على أفلام سوق الأفلام الأوروبي لنرى كم تتزايد الأفلام المصورة بهذه التقنية.

 

الإمارات اليوم في

15.02.2011

 
 
 
 
 

شبح «تشرنوبل» على شاشة خـامس أيـام المهرجان

شكسبير في «بـــرلين السينمائي»

زياد عبدالله - برلين

مازال شبح «تشرنوبل» يتجول في أرجاء أووربا، برلين تتفقده وهو يطفو على شاشة مهرجانها السينمائي المترامية، لكن في اتباع للحظة التي بدأ فيها تسرب الاشعاعات النووية، في اللحظة التي روعت وشوهت ودمرت، من دون أن تحضر تلك التوصيفات المهلكة إلا عبر رجل روسي يحاول الهرب منها، وعلى شيء يجعل من السينما معبراً إلى استعادتها لكن وفق آليات جمالية وتوثيقية تأتيها من الجانب الآخر لحيثيات حدوثها، وبرفقة ذلك يمكننا القول إن شكسبير لم يكن بعيداً عن «بلادزمر بلاتز»، حيث عروض الدورة 61 من «برلين السينمائي» فهو قد جاء إلى المسابقة الرسمية برفقة الممثل الانجليزي رالف فينس، وعلى مسعى من فينس في استعادته لكن وفق ما له أن يكون بناء معاصراً، بينما سيمر على السجادة الحمراء من دون أن يكون برفقته ذاك الكاتب المسرحي صاحب التراجيديات الكبرى وفينس يستعيد منها «كوريولانس» وكل ما يصرخ به هذا العمل المسرحي هو «الكبرياء» وقد صار غروراً وجنون عظمة وقدرة متوحشة على محاربة الشعب إن كان غير مستجيب لرغبات هذا القائد، وليكون هنا السؤال كيف قدّم فينس ذلك سينمائياً؟

حامي الحمى

يمنحك فيلم (sunaloiroC) «كوريولانس» شعوراً أولياً بأنك على مقربة مما يشهده العالم العربي هذه الأيام من صدام بين شعب مهمش بأكمله وقائد يسرح في خيالاته بعيداً عنه، وهو غارق بوهم أنه حامي الحمى، ولولاه لا حياة لهذا الشعب، رغم أن حرمان هذا الشعب وخوفه وقلقه آتية من ذاك القائد، ونحن نرى مجموعات شبابية في فيلم رالف فينس تتظاهر ضده أو ضد حكومته التي يشكل فيها دور القائد المترصد لكل أعدائها، القائد الشجاع، الصفة التي لن يتخلى عنها طوال الفيلم أو المسرحية، وفي مشاهدة فيلم فينس أمس المأخوذ عن مسرحية شكسبير ما يدفع للعودة إلى قراءتها مجدداً، وتتبع معالجة فينس لها في فيلم ينقلها إلى عصرنا الحالي لكن دون اسقاطات مباشرة، فالقائد الفارس في الفيلم ليس بخيّال يحمل سيفاً بتّاراً، بل هو في كامل عتاده الحربي الحديث، والحروب التي يخوضها هي حروب حديثة، لكن الحوار بلغة شكسبيرية، وعلى شيء يجعل من المصير المأساوي الذي سيمضي به كوريولانس على ما هو عليه لكن أدوات الموت مختلفة أو الأدوات عموماً، والمدن حديثة طبعاً، لكن مدينة كوريولانس اسمها روما التي ترمز كما اصطلح تاريخيا ومعرفيا بوصفها مجازاً عن الامبراطورية التوسعية المنفلتة من عقالها، وفي مواجهتها ستكون مدينة لها أن تتبدى بأنها «بربرية»، التوصيف الذي نستخدمه وفق المسار الذي مازال متسرباً إلى الأدبيات السياسية، فما هو معاد لروما فإنه بالضرورة «بربري» لكن ذلك لن يرد في الفيلم، لكننا سنقع على أوفيديوس (جيرارد بتلر) في مدينة تتعرض لهجمات روما ويقتل من يقتل من أبريائها.

في هذا الفيلم الذي أخرجه فينس ولعب البطولة فيه، سنترك ما تقدم للمشاهد حتى يشكل حسب رؤيته الاسقاطات الخاصة به، لكن من دون أن ننسى أن المسرحيات الشكسبيرية صالحة أصلاً لإيجاد ما يعادلها في المفاصل التاريخية الحديثة منها أو القديمة، والفيلم لا يريد أن يكون وقوعاً في فخ إسقاطه على شأن محدد، كما أن الفيلم له أيضاً أن يكون مجرد نزوة شكسبيرية، وغواية درامية لرالف فينس الذي جسد شخصيات شكسبيرية كثيرة على خشبة المسرح ووضع التراجيديا في سياق حديث وإيجاد حلول وفق املاءات حديثة.

سبت طويل

ننتقل من فيلم فينس إلى ما قدمه المخرج الروسي الكسندر مندادز في فيلمه المعنون (Innocent Saturday) «سبت بريء» والذي سيعود بنا إلى ثمانينات القرن الماضي وتحديداً عام 1986 أي السنة التي حدثت فيها كارثة «تشرنوبل»، وليقدم لنا فيلماً مأخوذا في اليوم الذي حدث فيه ذلك وعبر شخصية فاليري «انطون شاغين» الذي سنقع عليه من اللقطة الأولى وهو يركض بلا توقف تحمله إلينا كاميرا محمولة، وعلى شيء يجعل من هذا الركض ثيمة الفيلم الرئيسة ليقدم لنا ما يتلاحق ولا يتوقف مما على فاليري أن يعيشه في هذا السبت الطويل، والذي ستأتي براءته ما له أن يشكل استعادة فاليري لنفسه في غضون ذلك الوقت، فنحن نبدأ معه وهو يكتشف ما حل في المفاعل النووي هو المسؤول الشاب في الحزب الشيوعي، ونراه يتنصت على ما يدور بين المسؤولين الأكبر منه، وعجزهم عن الإقدام على أية خطوة بما فيها إخلاء المدينة ما لم تأت الموافقة من موسكو.

في ما تقدم سيشكل الخلفية التي ستمضي في ظلها الأحداث التي سنقع عليها، والتي لن تكون إلا نبشاً بشخصية فاليري، وفي اتباع دائم في الفيلم للقطات القريبة جداً، فقرار فاليري بالهرب على أقرب قطار سرعان ما سيصيبه الفشل، وكل ما يفكر به أن ينجو وصديقته من الكارثة التي طلب منه ألا يخبر أحداً بها.

لكن سرعان ما يمضي الفيلم إلى تقديم ما كان عليه الاتحاد السوفييتي، والعلاقات الاجتماعية في تلك الفترة ونحنا نرى فاليري ينسى موضوع الهرب ويدخل في نفق طويل من الأصدقاء، وذلك من خلال حضوره حفلة زواج صديق له، بينما الفرقة التي تعزف في حفل الزفاف هي الفرقة التي كان يعزف فيها فاليري نفسه قبل أن يمسي مسؤولاً في الحزب، وهنا تتكشف شخصية فاليري الذي كان اسمه في الفرقة جون، تيمناً بجون لينون، وطبعا وكما هو معروف فإن فرق الروك والبوب وغيرها من موسيقى أميركية لم تكن أمراً مرحباً به في الفترة السوفييتية، ولعل الفيلم في إيقاعه السريع والمتواتر وازدحامه بالشخصيات سيرينا كيف استقبل أهالي تشرنوبل نبأ الكارثة، إذ إن الجميع سيكونون على معرفة بالكارثة، والانفجارت والحرائق ستكون مرئية للجميع، وكل ما يجابهونها به هو المزيد من الفرح والرقص والشرب، كما لو أن شيئاً لن يحدث، بل إن فاليري ومن وطأة السكر الشديد سيستيقظ في اليوم التالي وهو على متن قارب صغير برفقة أصدقائه من الفرقة الموسيقية، يفتح عينيه فإذا بمفاعل تشرنوبل أمام ناظريه وهو محترق.

فيلم «سبت بريء» يقدم لنا نموذجاً خاصاً في مقاربة نقطة فاصلة من تاريخ بلد ومعه العالم من حوله عبر اتخاذ تلك النقطة معبراً نحو كل ما يحيط بها من حياة، نعم إن فيلم الكسندر مندادز عن «تشرنوبل»، لكنه بالمعنى الأشمل عن البشر وحيواتهم في الاتحاد السوفييتي السابق، عن البشر وحياتهم أيضاً وهم على أعتاب كارثة.

 

####

 

فيلم ألماني - تركي يسخر من العلاقات المتعدّدة الثقافات

برلين ــ د.ب.أ

سلط فيلم «مرحباً بكم في ألمانيا» لشقيقتين ألمانيتين من أصول تركية الضوء على العلاقات المشحونة غالباً بين الألمان، وثلاثة ملايين تركي يعيشون في ألمانيا. وتدور أحداث الفيلم، الذي كتبته وأخرجته الشقيقتان ياسمين ونسرين سمادريلي وعرض أول من أمس في مهرجان برلين السينمائي، في إطار كوميدي يحكي قصة حسين يلماز الذي يعمل في ألمانيا ويفاجئ أسرته بشراء منزل بمسقط رأسه في قرية بالأناضول.

وتتناول الأختان في هذا الفيلم الكوميدي الصدمة الثقافية التي تعرضت لها أسرة حسين بعد وصولها إلى ألمانيا في ستينات القرن الماضي، وعن تجاربها في الاندماج في هذا البلد. وقالت نسرين سمادريلي في مؤتمر صحافي بمناسبة عرض الفيلم في برلين: «غالباً ما تكون المناوشات بين الألمان والأتراك هزلية تماما، وهذا ما أردنا تصويره». وكتبت نسرين قصة الفيلم وأخرجته شقيقتها ياسمين. وليست هذه المرة الأولى التي يحاول فيها الأتراك بشكل خاص السخرية من العلاقات التي لا تتسم أحيانا بالسلاسة بين الألمان من أصول تركية، ومضيفيهم من أصحاب الأرض.

 

الإمارات اليوم في

16.02.2011

 
 
 
 
 

"جعفر باناهي" يخاطب مهرجان برلين السينمائي

رسالة من مخرج إيراني معتقل: منعوني من الكتابة.. ولكن لن يمنعوني الحلم

برلين - محمد نبيل

وجّه المخرج الإيراني "جعفر باناهي" المعتقل في إيران، رسالة إلى مهرجان برلين السينمائي في دورته الحادية والستين، تحدث فيها عن اعتقاله داخل زنزانة، وحرمانه من حقه في إخراج أفلام سينمائية.

وجاء قرار المحكمة الإيرانية بعد اتهام المخرج "باناهي" بأنه يعمل ضد مصلحة الحكومة الإيرانية، وتسبب في حملات دعائية عالمية ضدها خلال الأشهر الماضية. أما المخرج الإيراني المعروف "عباس كيراستمي" فقد صرح للصحافيين في فرنسا على هامش حضوره مهرجان كان العام الماضي،"بأن "المخرج تم اعتقاله بسبب فيلم جديد كان ينوي إخراجه".

ويشار إلى أن "باناهي" قد تم احتجازه في أوائل شهر مارس/ آذار الماضي، بسجن"ايفن" بطهران، وذلك بعد إعلانه عن دعمه لحسين موسوي المرشح المنافس للرئيس الإيراني الحالي محمود أحمدي نجاد، وذلك خلال فترة الانتخابات الرئاسية الأخيرة، وأعقب ذلك إفراج السلطات الإيرانية عنه في شهر مايو/ أيار الماضي، بعد إضرابه عن الطعام، وذلك نظير كفالة قدرها 200 ألف دولار.

كرسي فارغ

ووضع منظمو مهرجان برلين السينمائي الدولي كرسي "باناهي" فارغا، ويحمل اسمه في حفل افتتاح المهرجان، حيث كان من المنتظر أن يكون ضمن أعضاء لجنة التحكيم، التي تترأس مهرجان برلين السينمائي في دورته الحالية، والتي تترأسها المخرجة والممثلة الإيطالية "ايزابيلا روسوليني".

وكان من المقرر أن يكون المخرج "جعفر باناهي" ضمن أفراد لجنة التحكيم بمهرجان كان 2010، لكن اعتقاله حال دون حضوره إلى مدينة كان الفرنسية.

وقال "باناهي" في رسالته المطولة إنه "ممنوع من الإخراج لمدة عشرين عاما"، وإنه لن يتوقف عن الحلم، وتوقع أن "كل المشاكل في إيران ستزول بعد عشرين عاما"، وأنه سيقوم "بإخراج أفلام حول السلم والرخاء في بلاده"، عندما تتاح له الفرصة للقيام بذلك".

وذكر "باناهي" "أن المخرج السينمائي يستلهم من الواقع أعماله، ويقوم بتلوين هذا الإلهام بألوان من مخيلته، ويخلق فيلما عبارة عن إسقاط لآلامه وأمنياته".

وأضاف المخرج الإيراني المعتقل إنه "ممنوع من الكتابة والتفكير لمدة عشرين عاما"، لكنهم "لن يمنعوه من الحلم" خلال هذه المدة، و بعدها، "سيكون حرا في تفكيره".

ممنوع من الكتابة والتفكير

وأضاف "باناهي" في رسالته التي قرأتها رئيسة لجنة التحكيم في المهرجان، المخرجة والممثلة الإيطالية ايزابيلا روسوليني: "لقد منعوني من النظر إلى العالم لمدة عشرين عاما، وأتمنى عندما أكون حرا أن أقدر على السفر في كل أرجاء العالم بلا حدود جغرافية، أو عرقية أو إيديولوجية، حيث توجد شعوب تعيش مجتمعة بحرية وسلام، بغض النظر إلى اعتقاداتها و قناعاتها، لقد حكموا علي بعشرين عاما من الصمت، لكن حاليا أصرخ في أحلامي، وأقول متى سنسامح بعضنا البعض، ونحترم آراء كل واحد منا، و نعيش الواحد للآخر".

ويُعد "باناهي" "49 عاما" من مخرجي "الموجة الجديدة" الإيرانية، وقد حصل على جائزة الأسد الذهبي في مهرجان البندقية عام 2000 عن فيلمه "الدائرة"، وجائزة الدب الفضي في مهرجان برلين في العام 2006 عن فيلمه "خارج اللعبة". وحصل مرتين على جوائز في مهرجان كان عن فيلمه "الطابة البيضاء".

 

####

 

من أفلام مهرجان برلين السينمائي في دورته الـ 61

الفيلم الإيراني "انفصال نادر عن سيمين" يُجسّد هموم المجتمع

برلين - محمد نبيل

"انفصال نادر عن سيمين" Nader and Semin, A Separation هو الفيلم الجديد الذي يمثّل إيران في المسابقة الرسمية لمهرجان برلين السينمائي في دورته الحادية والستين، وهو للمخرج الإيراني "أصغر فرهادي". ومن يشاهد أفلام هذا المخرج، سيلاحظ بوضوح طغيان اهتمامه بالمشاكل المجتمعية، حين يختار موضوعاته من الصراعات بين أفراد العائلة الإيرانية للتعبير عن هموم المجتمع و قضاياه الحية. والفيلم هو وثيقة تاريخية تؤرخ لمرحلة من التاريخ الإيراني المعاصر، الموسوم بالصراع والتأزم على مستويات العلاقات العائلية.

وأكد "أصغر فرهادي"، في ندوة صحفية، عقدت على هامش عرض فيلمه الجديد، أنه "ينظر إلى موضوعات أفلامه من زاوية اجتماعية، ووصف مجددا الفيلم بأنه يجمع في مضمونه الأفلام الثلاثة السابقة التي أخرجها، مؤكدا على حرصه في تجسيد هموم المجتمع الإيراني، لحلّ هذه المشاكل من خلال إظهارها في السينما".

تمزُّق العائلة الإيرانية

ويحكي "أصغر فرهادي" في فيلمه الجديد عن "سيمين" التي تلعب دورها الممثلة ليلة حاتمي، الراغبة في مغادرة إيران رفقة زوجها "بيمان معادي" الذي يلعب دور نادر، لكن رفض الزوج لهذه السفر، بدعوى أبيه المصاب بمرض "الزهايمر" الذي لا يريد تركه وحيدا، سبّب في انفصال "نادر وسيمين".

وهجرت "سيمين" بيتها ، وذهبت عند عائلتها، لكن متاعب بقاء الزوج مع أبيه العجوز، رفقة بنته التي رفض تسليمها إلى "سيمين"، تسبب في إحداث مؤلمة تركت بصماتها على علاقة "نادر وسيمين"، فالخادمة التي أتت للعمل في البيت، لم تقم بواجبها لظروفها العائلية والصحية، وهو الأمر الذي بسببه وصل صراعها مع "نادر" إلى المحكمة، بعد طردها من البيت، متهمة إياه بقتل جنينها.

نهاية مفتوحة و إدانة اعتقال "جعفر باناهي"

ويتناول الفيلم حقائق اجتماعية مؤلمة ومريرة، يصورها المخرج في قالب درامي، و من خلال سيناريو محبوك بعناية، شد الجمهور، و أشاد به أغلب الصحافيين الذين حضروا العرض الأول للفيلم. وكان اختيار المخرج لنهاية مفتوحة مقصودا، فبعد وقوف البنت أمام القاضي لإعلان قرارها باختيار العيش مع أمها أو أبيها، رفضت التحدث أمام أبويها، وهو الأمر الذي أدى بالقاضي إلى أن يطلب منهما مغادرة القاعة، والانتظار خارجها.

وفي هذا الانتظار كانت النهاية المفتوحة، التي تسمح بطرح السؤال: هل قررت البنت العيش مع أبيها أم مع أمها أم مع الاثنين؟ ماذا يريد المخرج أن يقول من هذه النهاية؟ أجاب "اصغر فرهادي" في الندوة الصحفية، "إنه لا يريد فرض نهاية على الجمهور، بل يسمح بطرح السؤال". و اغتنم المخرج الفرصة في رده على تساؤلات الصحافيين، لإدانة اعتقال زميله المخرج السينمائي "جعفر باناهي" القابع خلف القضبان.

صراع بين الفقراء والأغنياء

وفيلم "انفصال نادر عن سيمين"، هو تعبير سينمائي جميل، ويعبر بطريقة فنية، عن التمزق الاجتماعي الإيراني، و الذي لخصه المخرج "في صراع بين الفقراء الذين لهم ثقافة محافظة و الأغنياء المنفتحين، في ظل ارتفاع نسبة الطلاق في إيران"، أي صراع طبقي واضح، وهو الأمر الذي تنكشف خيوطه داخل الفيلم.

ولا يخلو الفيلم من بصمات، وأثر ثقافي وديني إيراني، و الأمر يتعلق بمشاهد الصراع بين الخادمة وزوجها، الذي اكتشف أنها كذبت في أقوالها أمام القاضي إبان صراعها مع "نادر"، الشيء الذي دفع الزوج إلى ضرب رأسه مرات عدة تعبيرا عن ندمه وحسرته على الوضع الذي آل إليه أمام الناس.

 

العربية نت في

16.02.2011

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004