أوسلو يُدخل الصغير والكبير إلى عالمه الاكزوتيكي وفاندرز
يجنّن
في الأيام الأولى للدورة الحادية والستين لمهرجان برلين
السينمائي (10 - 20
الجاري) جرى الاحتفاء بسينما أوروبية تختبر الأبعاد
الثلاثة، وسيلةً للانشراح
والترويج والذهاب نحو آفاق جديدة. التجارب الثلاث خرجت
بنتائج متفاوتة، على رغم رقي
هذه الأعمال الثلاثة التي يمكن تصنيفها في خانة الجواهر
السينمائية التي تحلو
مشاهدتها. هنا قراءة نقدية في انتظار المزيد مما سيُعرض في
التظاهرة الألمانية التي
تستمر الى الأحد المقبل.
"كهف
أحلامنا المنسية": كاميرا تلمس وجه
التاريخ
فرنر هيرتزوغ. هذا الاسم يعني الكثير لجيل السبعينات. الرجل
اسطورة حية.
عاصفة من الصور تجتاح المخيلة عندما تراه أمامك: نوسفيراتو،
اغويره، الرجل الذي
التهمه الدببة. أي كل هذا الخوف الذي هيمن على سينما ما بعد
انفتاح الستينات على
أفكار جديدة. انه آخر الناجين من زمنٍ، كان الفيلم الألماني
فيه لا يزال يؤمن
بالمستحيل. كيف لنا أن ننسى المخرج الذي جعل سفينة تتسلق
الجبال؟ هيرتزوغ ابن تلك
المرحلة وابوها ايضاً. بعد سقوط الجدار، استيقظت السينما
الألمانية من نومها
العميق. اكتشفت تدريجاً ان من غير الممكن تغيير العالم.
بدلاً من ابتكار الحدث، بدا
التعليق على الحدث أكثر انسجاماً مع المرحلة الجديدة. ظلّ
هيرتزوع، كناسك خارج
مصالح الزمن ومصالحاته، يسكن احلام تلك السينما، وبدا غير
قابل للتخلص من هواجسه
الأزلية. لذلك، ظلّ خلاّقاً لا تقوى عليه التغييرات
والمستجدات العابرة. أدارت
المانيا له ظهرها، فرحل الى الولايات المتحدة حيث خلق نفسه
من جديد.
وحده مَن
يتابع التفاصيل الدقيقة التي يقحمنا فيها فيلمه الجديد،
يدرك عما نتكلم. "كهف
أحلامنا المنسية" (خارج المسابقة) مخلص للخط الذي رسمه
هيرتزوغ لنفسه منذ بداية
السبعينات، مع قفز متوقع الى مرحلة جديدة (تقنية الأبعاد
الثلاثة) وجد المخرج أنها
تخدم فكرة الفيلم. من اللقاء الحميمي بين الـ3D
وكهف وُجدت فيه رسوم تعود الى 32
ألف عام، تولد الشاعرية السحرية التي ترافق الفيلم طوال
تسعين دقيقة.
بعبقريته
المعهودة في الذهاب الى اعماق التجربة الآدمية، حمل هيرتزوغ
كاميراه ونزل الى جبّ
الارض. هذا الكهف الذي اكتُشف في منطقة ارديش الفرنسية عام
1994، وجد فيه هيرتزوغ
ضالّته، كونه يحتوي على رسوم تعتبر اول التعابير الفنية في
تاريخ البشرية، أي في
حقبة كانت البقعة الجغرافية التي تسمّى اليوم أوروبا تعجّ
بالحيوانات المفترسة
كالدببة والأسود وغيرها. هذه الرسوم أسقطت بعض المعتقدات
القديمة الراسخة في ما
يتعلق بتطور الفنّ في مرحلة ما قبل التاريخ. يأخذ هيرتزوغ
ما يمنحه إياه علماء
الآثار ورجال العلم من معلومات ليبني حولها خطاباً روحياً
فلسفياً فيه تعرجات الى
موضوعات تشكل أكثر من مدخل لفهم عمل هيرتزوغ وما يشغله منذ
بداياته الاولى.
واحد من الأشياء التي يريد هيرتزوغ تأكيدها من خلال تصويره
تلك الرسوم، ان
السينما كانت لها ولادات متتالية، أولاها ربما في ذلك
الكهف. فإذا نظرنا بدقة الى
الرسوم الأربعمئة الموزعة على الجدران الصخرية للكهف، واذا
ما اتيح لنا المجال
لتعقب آثار التقنية المعقدة التي وُضعت لتشكيل تلك الرسوم
(تفكيك كيفية تحرك الفرس
مثلاً)، فسنصل عاجلاً أم آجلاً الى نظرية مفادها ان ثمة
تشابهاً بين ما رسمه
مجهولون في ذلك الكهف وما يولّده هيرتزوغ بكاميراه من صور،
مع الفرق ان ثمة 32 ألف
عام تفصل الحدثين. أن يتجرأ هيرتزوغ على اقناعنا بهذه
الفكرة، وإن تلميحاً، فهذا
يموضعه في عداد السينمائيين الذين لا يختارون النظرة
التعسفية والحلول السهلة في
كيفية النظر الى الشرط الانساني. "هذه الرسوم في الكهف
وكاميراتك، سيان"، يقول له
احد العلماء في نهاية الفيلم. فجأةً، تتماسك حجة هيرتزوغ،
وترتعش آلة التصوير،
فنفهم ما الذي جاء به الى هنا.
•••
يقول هيرتزوغ انه اكتشف رسوماً مماثلة تعود الى مرحلة ما
قبل التاريخ، عندما
كان في الثانية عشرة من العمر. "وعيي الفكري والروحي ارتبط
برسوم العصر الحجري. كنت
في احدى المكتبات عندما رأيت واحداً من تلك الرسوم على غلاف
كتاب. كانت صورة لرسم
من كهف لاسكو. اجتاحتني حماسة لا توصف: كنت اريد الكتاب،
كان عليَّ أن امتلكه. لكن
كوني لم أكن اجني الا دولاراً واحداً في الشهر كمصروف جيب،
رحتُ أعمل في ملاعب كرة
المضرب واستدنت المال من إخوتي. وكنت أذهب لأتأكد، ويدي على
قلبي، ما اذا كان
الكتاب لا يزال في المكتبة. أعتقد ان هذه النسخة كانت
الوحيدة الموجودة هناك. شراء
الكتاب تطلّب ستة أشهر، وعندما فتحته للمرة الاولى، شعرت
برعشة الاعجاب، الاحساس
الذي لم يفارقني قطّ".
على رغم ان الفيلم يحفل بمعلومات كثيرة، فقد وجد هيرتزوغ
سبيلاً لجعلها ملكه وإضفاء لمسته الفلسفية الخاصة عليها كي
تصبح مناسبة لبعض
التأملات الروحية عن أصل الانسان ومستقبله وكذلك عن ضرورة
توثيق الكنوز البشرية.
فعل التصوير لا بدّ أن يقترن دائماً عند هرتزوغ بجنون ما.
هذه الرحلة الى اقاصي
التاريخ يرافقها نوع شبيه بالجنون الذي ضرب أغويريه عندما
قاد رجاله في الأدغال.
هذه ليست المناسبة الاولى ندرك فيها مدى التشابه بين
هيرتزوغ والشخصيات التي
صوّرها، لكن ما يقوده هنا الى اقتفاء آثار مَن "اخترع"
السينما بآلاف السنوات قبل
اختراعها الفعلي على يد الأخوين لوميير، هو استماعه الى صوت
العظمة في داخله الذي
يجعله دائماً ينكب على مشروع متناه في الكبر.
هذه ليست المرة الاولى يصوَّر
فيها فيلم وثائقي بالأبعاد الثلاثة. نتذكر اختبارات جيمس
كاميرون في هذا المجال.
استخدام هذه التقنية أجدى نفعاً وخصوصاً ان محور الحديث هنا
هو البعد التشكيلي
للرسوم، ولولا الـ3D،
لكان ظلّ تأثير الرحلة في احساس المُشاهد محدوداً. احتمالات
التقنية المستخدمة هائلة، حتى لنكاد نلمس ما نراه. نلمس وجه
هذا التاريخ الذي
لطالما أبهر هيرتزوغ وجعله يبحر على أمواجه. واذا كانت الـ3D
تظهر فاعلية اكيدة في
نقل أهمية الرسوم الملهمة، فما إن تخرج الكاميرا الى الضوء
والسماء حتى تفقد هذه
التقنية سبب وجودها، لتصبح ثقيلة على اسلوب ريبورتاجي
(كاميرا محمولة، تعليق صوتي
بلكنة ألمانية محببة...) يفضله المخرج على سواه من
الأساليب. لكن بفضل تعليقاته
الفلسفية العميقة، والتي مهما استندت الى معطيات علمية تبقى
تعليقات رجل فنّ وصورة
وخيال، يتجنب الوقوع في اجتهادات تقنية كانت ستأخذ الفيلم
الى امكنة يخون فيها
العمل نفسه.
في لحظة لا شكّ انها الاقوى في الفيلم، يطلب هيرتزوغ من
العلماء
ومعاونيه التقنيين الذين انضمّوا اليه في هذه المغامرة، ان
يلتزموا الصمت لعل
الكاميرا تلتقط (عبر الميكرو) دقّات القلب. لحظة مثل هذه،
وفي مكان كهذا، تقول
الكثير عن الكيفية التي ينظر فيها هيرتزوغ الى انجازات
البشر. هناك لحظة ثانية لا
تقل انسجاماً مع الفكرة التي تستقيم عليها سينماه، هي ما
يأتي في الخاتمة، حين
يأخذنا هيرتزوغ الى حوض التماسيح في منطقة رون في الالب
الفرنسية. على هذا التمساح،
وهو الحيوان الذي ليس غريباً على هيرتزوغ، يبني المخرج
قراءة فكرية، فيها الكثير من
الطرافة والقليل من الجدية. طبعاً، لا وجود لهذه التماسيح
في مثل هذه البقعة
الجغرافية، لكن تحايل هيرتزوغ الذي لطالما فضّل ان يطلق
العنان لمخيلته على أن
يطارد الواقع بحرفيته، جعله يأتي بالتماسيح من لويزيانا
خدمةً لرؤياه السينمائية.
أخيراً، تكمن أهمية هيرتزوغ في انه سينمائي لا يعلم الكثير.
أو لا يعلم ما يكفي
لينصبه معلماً
على انسانية يعتبرها منجماً عميقاً للتجارب. عدم المعرفة
هذا، هو
الذي يقوده الى نصب كاميراه حيث لم يسبقه اليه أحد. هذا
الجهل، أو لنقل قلة
المعرفة، أو العطش الى معرفة المزيد، تدفعه للركون الى
الظلمة لعلها تقوده الى
النور. هذه المقاصد كلها تندرج في الفيلم بمرتبة عالية من
الوضوح، لأنها تترجَم
بلغة سينمائية على قدر معين من الشفافية. فما تشابك الضوء
والعتمة ولقاؤهما المتكرر
أمام كاميرا هيرتزوغ سوى انعكاس آخر لهذه الثنائية التي
لطالما نقل صراعها، مواصلاً
مع "كهف أحلامنا المنسية" معاينة جذورها البعيدة. الجمال
دائماً على الموعد، حتى في
عتمة كهف رطب يعاند من أجل البقاء مستقلاً عن الأزمنة التي
تجتازه من دون أن
تغيّره. النور في العتمة، أليس هو التعريف الأجمل للفن؟
"حكايات
الليل": 3D
بلا مسوّغات
جمالية
أكثر حكمة وهدوءاً من هيرتزوغ، وأقل جنوناً منه، هو ميشال
أوسلو الذي جاءنا
بعمل جديد كان يستحق أن ننتظرة طوال السنوات الست الماضية.
بعد "كيريكو" و"أزور
وأسمر"، دخل هذا الحكواتي نادي الكبار الذين صنعوا سينما
التحريك. تقنيته غاية في
البساطة: خطوط بدائية وأطياف، مستوحاة من مسرح الظلال على
طريقة لوتيه راينيغر التي
وجّه اليها المخرج تحية فضفاضة أحدثت بلبلة صغيرة على ما
يبدو. لكن هذه البساطة
لشدتها تحولت مصنعاً معقداً يعمل ضمنه أوسلو لسنوات فيتمخض
كل بضعة أعوام عن فيلم
يستحق أن يشاهَد. الجديد هنا استعانته بتقنية الأبعاد
الثلاثة، وهي جاءت لا شك
لأسباب محض ترويجية، لأنه، خلافاً للفيلمين الآخرين
المعروضين بهذه التقنية، لم تكن
هناك مسوّغات جمالية لها، علماً ان هذا لا يقلل البتة من
شأن الفيلم.
يستعمل
أوسلو تقنيات أساسية (بازيك)، ويقول عن هذا الاستعمال
ممازحاً إنه يأتي من كونه
تربّى في بيئة فقيرة. "أحب الاقتصاد، وأعتبر ان فيه نوعاً
من الأناقة". ففي"أزور
وأسمر"، مثلاً، روى أن هناك أموراً امتنع عن انجازها لأنه
لم يشأ أن يخرج عن
الموازنة، ومن جهة أخرى، لأنه يحب ذلك الانزعاج الذي يتحول
وحياً، كأنه يحوّل
الرصاص ذهباً.
قبل دخولنا الى "حكايات الليل" (مسابقة)، كان السؤال حول
ضرورة
مشاركة الفيلم في مسابقة الـ"برليناليه"، مشروعاً. أما بعد
معاينة تفاصيله، فبات
السؤال يُطرح على هذا النحو: ماذا لو خطف هذا الشريط الحافل
بالتهكم والسخرية
الخبيثة قلب رئيسة لجنة التحكيم ايزابيلا روسيلليني
ورفاقها، ليشق طريقه الى الدبّ
الذهبي؟ هل تُقرأ هذه الالتفاتة باعتبارها تنتصر لسينما
تمجد "البساطة الصعبة"
مقابل سينما أدخلت كل أصناف التعبير البدائي في مرحلة
الغيبوبة؟
أياً يكن، فليس
هذا ما يشغلنا هنا. فالسعادة التي تغمر المرء عند خروجه من
فيلم أوسلو لا تقدَّر
بثمن. هي سعادة طفولية طبعاً، لكنها صادقة ومتحررة من قيود
كثيرة. لكن، يجب ألاّ
يكون هذا عائقاً أمام قراءة متأنية للفيلم بعيداً من مظاهر
الفرح التي رافقت العرض
المخصص للجمهور الألماني.
ثلاث شخصيات، شاب وفتاة ورجل، يلتقون يومياً في قاعة
سينما فارغة ويفكرون بصوت عال عن امكان اختلاق حكايات
مستوحاة من ثقافات مختلفة.
نقاشاتهم ستستقر على ست حكايات، وستُسند الأدوار الى الشاب
والفتاة. طبعاً، الأخلاق
الحميدة هي سيدة الموقف، لكن أوسلو يتجنب جعلها غليظة،
مفروضة فرضاً، لأن الكتابة
السينمائية التي ينتهجها توفّق بين لهفة الطفل الى عالم من
الشخصيات المذهلة من
جهة، ودهشة الكبير أمام ابداعات غرافية ذاخرة بالألوان
والحياة من جهة آخرى. انه،
باختصار، يخاطب الصغير داخل الكبير، والكبير داخل الصغير.
هذا هو سرّ سينمائي يعتمد
على السحر لإدخال المشاهد الى عالمه الاكزوتيكي.
تقتحم حكايات أوسلو أمكنة
وأزمنة مختلفة: قصر ملك يريد تزويج بناته؛ في احدى الجزر
حيث تجري دعوة وحش لإطعامه
فتاة، استجابة لاسطورة محلية. هذا كله في صحبة زمرة أميرات
وملوك وبصارات. ينتقل
بنا أوسلو الى القرون الوسطى، والى أزمنة غابرة، على وقع
أنغام إكزوتيكية تطرب
الآذان، فيما العين تصبح أسيرة كولاج من الاضاءات والألوان
والرسوم الباهرة. طبعاً،
يُضاف الى هذا كله، لجوء اوسلو الى الكلمة الحنونة والذكية
المثيرة للرغبة،
مخرِّباً مفهوم الحكايات والأساطير التي حفلت بها طفولتنا.
فالعبرة التي نستنتجها
من كل واحدة من الحكايات الست ليست تقليدية ومتكاملة، بل
محاكاة عبرة، كالحكاية
التي تظهر مثلاً ان الانثى أكثر ميلاً الى الرجل الشرير
منها الى الصالح.
•••
عندما كان صغيراً، كانت أفلام التحريك الوحيدة التي يشاهدها
أوسلو من صنع
"ديزني"،
وهي لا تزال تعجبه الى اليوم. يقول: "بعد "الجميلة النائمة"، لم تعد أفلام
"ديزني"
تهمّني. "بيتر بان"، "ساندريللا"، "الجميلة النائمة"، "دامبو"، كلها
تعجبني. لكن الأفلام التي تلت ينقصها السحر". في العشرين
أدرك أوسلو ان الرسم سيكون
مهنته. قبل ذلك العمر، كان ينجز أموراً صغيرة، بكاميرا
والده. ثم سارت الأمور وحدها
لأنه في تلك المرحلة لم يكن هناك مدرسة تعلّم التحريك،
فابتكر كل شيء بجهد شخصي
معتمداً على عصاميته. لم يمر عبر ستوديوات متخصصة بالتحريك،
لذا لم يتعلّم كيف
تُنجز هذه الأمور هناك. "أنا جاهل"، يقول أوسلو، "بنيت
دائماً وحدي هيكليات صغيرة
وحاولت أن أحزر كيف تُنجز هذه الأمور، وكنت أجد أحياناً
حلولاً لم ينجح آخرون في
إيجادها".
درس الفنون الجميلة في أنجيه (فرنسا)، وفنّ الديكور في
باريس. وأمضى
عاماً في الولايات المتحدة. في تلك المدارس تعلّم الرسم
والنحت والنقش ولكن ليس
إنجاز السينما. ارتكز على الرسم، واعتبره أكثر إثارة
للاهتمام. كان يمنحه قدراً
أكبر من الحرية والقدرة على التعبير: "ما أريده ارسمه، لا
يكلّفني إنجاز قصر
الساحرة أكثر من صنع رجل يمشي في الشارع".
في فنّ أكثر صعوبة من غيره، يشكو
أوسلو من عنصر الزمن الذي يمنعه من تقديم عدد أكبر من
الأعمال: "زملائي ينجزون
فيلماً بستة أشهر، أما أنا فتلزمني ست سنوات. وهناك من ينجز
الفيلم بشهر واحد".
لأفريقيا مكان خاص في قلب أوسلو. هذه المكانة انتقلت من
القلب الى الشاشة.
"قصدتُ
المدرسة الابتدائية هناك، في غينيا، كانت بداية جيدة جداً قبل الانتقال الى
آسيا، لأنني رأيت العالم أمامي فوراً، وأدركت على عكس
الآخرين، أن المكان الذي
أقطنه ليس الوحيد في العالم. كان هناك حضارتان في متناولي،
الحضارة الأفريقية
السوداء، والحضارة الفرنسية، لأننا كنا نعود الى الريفييرا
الفرنسية في العطل
الطويلة. وفي غينيا، كان هناك طوائف متعددة: بروتستانت
وكاثوليك ومسلمون. وكان
الأمر طبيعياً. البيض والسود كانوا كلهم متساوين في نظري،
وكنت أظن أن الكل
فرنسيون. كانت بداية ممتازة، مع أشخاص متوازنين، وسلام
مطلق، بلا عنف. كان في
امكاننا التنزه في كل مكان، ونذهب حيث نشاء، نستقل القطار
صغاراً، من دون أن
يصطحبنا الكبار. كان والداي يعرفان أن الناس هناك سيحموننا
ولن يلحقوا بنا الأذى.
ثم ذهب والداي المعلّمين، اللذين كانا يحبان السفر كثيراً،
الى فرنسا، الى منطقة لا
يعرفانها مطلقاً، أنجيه، في شمال غرب البلاد، وهناك عانيت
قليلاً، لأنني لم اعتد
الا على الشمس، وكان الطقس غائماً والأرض مبللة، وكان الناس
يتبعون قوانين أجهلها،
علماً أنني فرنسي الأصل. كنت أدعهم يعاقبونني في المدرسة
ولا أعرف لماذا، وكنت أكره
البلد. ثم أدركت، عندما انتقدت مهاجرين أغبياء الى فرنسا
كانوا يهاجمون البلد بدلاً
من أن يحاولوا ايجاد السعادة فيه، أنني مهاجر غبي وابتكرت
منه شخصية "كرابو"، التي
تمثلني عندما كنت في الـ15 من العمر، وتجسد أيضاً الكثير من
الناس الذين ألتقيهم في
فرنسا وأمكنة أخرى، لا يعرفون العيش في أماكن أخرى، وعلى
رغم ذلك "يبصقون" على
المكان الذي هم فيه".
أوسلو شغوف بالشرق. حكاياته تعبق برائحة البخور.عبر
لقاءات حصلت مصادفة، اطّلع على الحضارة الاسلامية العليا
التي يعتبرها حضارة لامعة
ومنفتحة. ولم يخشَ في أفلامه أظهار الجامع والكنيسة
والكنيس. لكن عندما يقول له
أحدهم إن ثمة تسامحاً في أفلامه، يجيب أن ذلك غير صحيح: "لا
تسامح في أفلامي،
شخصياتي ليست متسامحة لكنها مرتاحة وتستمتع بالحياة. لا
نحتاج الى التسامح، وتوقفوا
عن إعطاء الدروس، أُظهر بشراً يفهمون أموراً وهم سعداء
بالإنوجاد معاً. ولا تقولوا
لي إني متسامح لأنني أحب الشوكولا. كلا، الشوكولا لا يأتي
من فرنسا، هو من أميركا
الجنوبية، ولا أحبه لأنني متسامح. أفلامي ليست كالمخدرات.
فعندما يتناول المرء
المخدرات، يشعر أنه سعيد، ولكن عندما يستيقظ تكون الأمور
أسوأ من قبل. كي تدوم هذه
السعادة بعد الفيلم، أقول ما أعرفه عن الحقيقة".
"بينا":
ميوزيكال يعبره الحداد
التحية التي يوجهها فيم فاندرز الى مصممة الرقص الراحلة
بينا باوش (1940
- 2009)
ستبقى خالدة وماثلة في وجدان السينما. بعد مجموعة أعمال
باهتة لم تثر الحماسة
التي يستحقها مخرج "أجنحة الرغبة"، يأتينا فاندرز بضربة
معلّم. فيلم ميوزيكال يذهب
بنا من مناخ الى مناخ، عبر مجموعة لوحات راقصة يضع فيها
فاندرز لمسة ألمانية قاسية،
مستعيناً بالتقنية الثلاثية البُعد التي يدفعها هنا الى
ذروتها لتتبيّن انها مفيدة
جداً وفاعلة عندما يتعلق الأمر بتصوير هطول المطر وأشياء
أخرى. ذلك ان أعين
المشاهدين تتيه مع أجساد تتهاوى وتتحرك وسط الساحات وعلى
الخشبة وفي ديكورات تتبدل
وتتلون. تماهي العين مع ما تراه، يجعل الشريط نشطاً، فتصبح
تلك العين مشاركة في
الحركة المتواصلة التي لا تتباطأ ولا تضجر، لا بل تتسارع
كلما بدأت العين تعتاد على
الحركة.
فيلم ميوزيكالي فخم لا مثيل
له يقدّمه فاندرز هنا، يأخذ شكل وصية
تتخللها شهادات خاطفة من معاوني باوش وراقصيها. عمل مؤثر
يخطف الانفاس التُقطت
مشاهده بعد أشهر قليلة من رحيل باوش، فتكاتف الفريق بأكمله
ليحوّلوا العمل من
احتفالية ميوزيكالية الى مناسبة للحداد. الفيلم برمته يعبره
هذا الحزن، هذا الحنين.
ألم الفقدان وبهجة الموعد الافتراضي مع الكائن الأحب يسكنان
شريطاً مأخوذاً بضخامة
الفجيعة وفرحة التعويض عن خسارة الانسان بتركته الفنية.
في البداية لم يكن
فاندرز متحمساً حيال الـ3D.
اليوم هو مصرّ على أن هذه التقنية تشكل مستقبل السينما.
"انه
عالم آخر، ولغة أخرى. الى الآن استخدمنا الأبعاد الثلاثة في التحريك
والمؤثرات
الخاصة. لكن قريباً سنكتشف أنها مفيدة لتجسيد الواقع.
مشاهدة شيء في منتهى البساطة،
حتى لو كان هذا الشيء لقطة قريبة لشخص يحكي، تمنح نوعية
عالية من الحضور. بالنسبة
اليَّ، بات من الصعب العودة الى الوراء".
يرتكز الفيلم على رهان تقني في المقام
الأول. لكن هذا الرهان يربحه فاندرز ليس لأنه يصر على اظهار
عضلاته وتأكيد موهبته
في التقاط مشاهد دخلت منذ الآن معبد الصور، بل لأنه صادق في
ممارسته الاسلوبية
ويعرف أن الاساس لا بدّ ان يكمن في كيفية تمجيد الشغل
والحرفة والجهود التي يبذلها
الراقصون لإنجاح كل عمل من الاعمال التي شاركوا فيها. لذا،
كان من البديهي أن يتحول
الفيلم، بعد رحيل باوش، من فيلم تشارك في صنعه الى فيلم
يخيّم عليه طيفها.
من
لوحات راقصة مهيأة قبل كل شيء للمسرح، يستخرج فاندرز ما
يجعله يحلّق إخراجاً
وإيقاعاً، مقرباً الفنّ على الدوام من الوجود (طيف الحداد)
ومقرّباً الخشبة من
الهواء الطلق، الى درجة ان الحدود بين الأشياء تتهاوى. هناك
لحظات سينمائية كبيرة
طبعاً، فيها من الجمال والمناخات المعبرة ما يجعل المُشاهد
يجنّ، وفي المقابل ثمة
لحظات أضعف في التكرار الذي ينصاع اليه. تصميمات باوش تتيح
لفاندرز عدداً
لامتناهياً من الحريات المتداخلة: حرية الاخراج، حرية
التمثيل، حرية الزاوية التي
يُلتقط منها المشهد. هذه التصميمات هي ايضاً مصدر إلهام
مكاني. فأينما حلّت كاميرا
فاندرز فهي دائماً تبحث عن مكان تخرّبه وتترك فيه بصمات
دامغة. سواء في المترو او
في حديقة عامة أو على سلالم كهربائية لا نرى آخرها، يصلح
المكان ليكون مسرحاً
ابدياً لولادة فوضى خلاّقة.
|