بعد سنوات على انهيار الجدار العازل بين شعبي وطن واحد، لا يزال السفر
من لوس أنجليس إلى برلين يمر عبر مطار في بلد ثالث. تستطيع أن تختار أي
شركة طيران. تستطيع أن تختار أيضا أي مدينة أوروبية لكي تكون محطتك
الأوروبية الأولى قبل أن تستقل طائرة أخرى إلى مطار تاغل البرليني الدولي.
لماذا؟ لا أملك الجواب لكنه سؤال مهم. الأهم هو الواقع: حضرت برلين
مرارا وتكرارا وذلك من قبل توحيد المدينة والدولة وما بعدها، والانتقال
دوما كان: مباشرة من عاصمة أوروبية وغير مباشر إذا كان الانطلاق من
الولايات المتحدة.
إذ وصلت إلى مطار زيوريخ قبل 40 دقيقة من الموعد المفترض للوصول (أمر
نادر) وجدت الوقت للتفكير في كل تلك السنوات الـ34 التي داومت فيها
(باستثناء 3 أعوام متفرقة) على المجيء إلى هذا المهرجان من أيام ما كان
المهرجان يدعو الصحافيين إلى هذه الأيام حيث الميزانية ما عادت تكفي لكل
هذا الكرم. ومن أيام ما كان المرء يمشي من فندقه إلى دار العرض وسط البلد،
إلى حين تم بناء القصر الجديد الذي ترفرف عليه أعلام الدول المشاركة تتبلل
بالمطر سنة وبالثلج سنة أخرى. وجدت أنني لا بد أنني شاهدت مئات الأفلام في
برلين (ومئات أخرى في «كان» و«فينيسيا») وحاولت أن أحسب لكني توقفت سريعا.
ربما الموضوع بحاجة إلى كتاب. أما الآن فعيد سينمائي آخر ينطلق وعلي اللحاق
بالخطوط السويسرية لكي تنقلني إلى هناك على الوقت أو قبله بـ40 دقيقة.
* اللقطة الأولى
* فرحة العيد
* لا يمكن بالطبع إقامة مهرجان كبير كهذا المهرجان في بلد يزخر
بالصناعة السينمائية تاريخا وحاضرا، ويعيش وضعا اقتصاديا مزدهرا يجعله
الأول أوروبيا، حسب تصنيف «الإيكونوميست» مؤخرا، من دون أن يقدم تظاهرة
خاصة بالسينما الوطنية. لكنها تظاهرة حديثة نسبيا، فالدورة الـ61 الحالية،
تشهد المناسبة العاشرة فقط لتظاهرة «السينما الألمانية» ما يعني ذلك أن
السنوات السابقة للعام 2000 اكتفت بتقديم الأفلام الألمانية وسط المسابقة
أو في عروض التظاهرات غير المتخصصة الأخرى (فورام، بانوراما إلخ...).
لكن منذ أن أخذ المهرجان بتخصيص عرض خاص يتضمن أفضل ما تم إنتاجه
محليا من أفلام والمتابع صار قادرا على رصد حركة الفيلم الألماني كما لم
يستطع من قبل.
هذا العام هناك مساحة كبيرة من المواضيع التي ينهل منها السينمائيون
الألمان مواضيعهم: بعضهم لا يزال يفكر في الوضع الذي كان ماثلا حين كانت
البلاد منقسمة. آخرون يتحدثون عن شؤون اليوم وحدها، لكن سواء أكان الفيلم
ينتمي إلى الأمس أم إلى اليوم، فإن السينما الألمانية تتمتع حاليا بنسبة
إقبال كبيرة تنعكس على الدورة الحالية، ليس في إطار هذه التظاهرة فحسب بل
أيضا في إطار المسابقة الرسمية أيضا.
ياسمين سامدريللي، مخرجة تركية تعيش في ألمانيا وتفكر في تركيا، وحققت
فيلما مستوحى من الحالتين عنوانه «ألمانيا» يعرض في نطاق العروض الرئيسية
متناولا حكاية رجل تركي اسمه حسين يلماز، هاجر إلى ألمانيا مع عائلته في
منتصف الستينات (حين كانت الهجرة مسألة حاسمة في حياة المهاجر والبيئة
المحيطة به معا). بعد أن عاش طويلا ينتقل به الفيلم إلى اليوم حيث يعبر عن
رغبته في العودة إلى الأناضول ليعيش باقي حياته هناك. هذا سيخلق وضعا تحيط
به المخرجة من كافة جوانبه الاجتماعية بأسلوب فكه.
فيلم ألماني مشترك مع فرنسا عنوانه «عدوي المفضل» للمخرج وولفغانغ
مورنبيرغر حول أحداث تقع تبدأ سنة 1943 حينما سقطت طائرة عسكرية تضم ضابطا
ألمانيا وابن صناعي يهودي. كلاهما نجا من الموت لكن الأيام باعدت بينهما
إلى أن تم اعتقال اليهودي وإرساله إلى المعسكر. يتدخل الضابط لإخراجه من
هناك لكن الحكاية ستمتد لتشمل تبادل مواقع قوى خلال السنوات اللاحقة.
في المسابقة فيلم أولريخ كولر «مرض النوم» عن وقع الانفصال الحاصل بين
عائلة ألمانية تعيش وتعمل في الكاميرون (الزوج مسؤول عن مشروع محاربة «مرض
النوم») وابنتها تعيش في ألمانيا. الرجل مشغول دائم بعمله والزوجة تعيش
عزلتها هناك وتتوق للعودة إلى ألمانيا حتى ولو أدى ذلك إلى انفصالها عن
زوجها.
هذه النماذج الثلاثة تأتي مختلفة الأساليب والاهتمامات، كذلك فيلم فيم
فندرز الجديد «بينا» (أو «بينا بينا بينا» كما عنوانه الألماني). المعروض
في المسابقة بالأبعاد الثلاثة.
إنه عن مصممة ومدربة رقص باليه ومسرحي الألمانية بينا بوش وحسب تصريح
للمخرج المعروف فإنهما كانا قررا منذ سنوات بعيدة تحقيق فيلم عن مهنتها.
حينما ماتت بينا في صيف عام 2009 قرر إحياء المشروع وجلب له راقصين مسرحيين
معروفين لكي يقدموا عروضا كانت بينا صممتها. هذا وحده يبدو إنجازا فنيا
مهما، لكن الجديد الذي يقوم به المخرج هو أنه يعمد إلى تقنية الأبعاد
الثلاثة ليقدم من خلالها فيلما فنيا صرفا، أي على عكس السائد حيث الفيلم
المجسد بات مطلبا للأفلام التجارية وحدها (تم عرض 22 فيلما بالأبعاد
الثلاثة في العام الماضي وحده).
كما الأفلام المذكورة سيتم العودة إلى هذا الفيلم خلال الأيام
المقبلة، كذلك لبعض الأفلام الألمانية الأخرى المتكومة في عروض تظاهرتها
الخاصة. واحد من هذه الأفلام يبدو من بين الأفلام الـ11 الأكثر استحقاقا
للاهتمام من تلك المعروضة في التظاهرة. إنه «الجائزة» لإلكي هوك التي كانت
عاشت سنوات شبابها فيما كان يسمى بألمانيا الشرقية، وهي هنا تتذكر كيف كان
الحال أيامها.
فيلم «التعليم» ينطلق بعيدا جدا متحدثا عن عالم صناعي مغلق على نفسه
يعيش بين الحسابات والالتزامات ما يؤثر على وضع بطله (جوزيف باندشو)
العائلي.
وعلى نحو اجتماعي أيضا يحيط فيلم «زهور مثلجة» لسوزان غوردانشيكان
بوضع شاب من بوسنيا يعيش في ألمانيا كمهاجر غير شرعي وبالتالي فإن عمله غير
قانوني. لكن المأزق الذي يجد المسؤولون أنفسهم طرفا فيه هو أنه بعمله هذا
تمكن من مساعدة امرأة ألمانية عجوز لم يشأ أولادها العناية بها.
* فيلم «الوحدة النخبة» (بانوراما) - إخراج: جوزي باديلا - تمثيل:
ووغنر مورا، إراندير سارتوس، أندره راميرو - برازيل - 2010.
هذا الفيلم المعروض في قسم البانوراما هنا، والذي شوهد خلال أيام
مهرجان «سندانس» هذا العام، هو رحلة مزدوجة واحدة يقوم بها المخرج إلى
موضوع فيلمه السابق الذي قطف نجاحات جماهيرية كبيرة، والثانية يقوم بها
المشاهد الذي ربما قد يتطلع إلى الراحة بعيدا عن أفلام الهموم الجادة ذات
الأساليب الفنية الشائكة.
الجزء الثاني هذا لم يتأخر عن تلبية احتياجات المخرج لنجاح جديد حيث
فاقت مبيعاته من التذاكر ما حققه الفيلم الأول. هذا على الرغم أنه يبدو، في
كثير من نواحيه، ترجمة لأي فيلم هوليوودي يدور حول قسم شرطة يحقق في جرائم
غامضة. منوال الفيلم هو أن مبعث هذه الجرائم فساد الأجهزة البوليسية في
البرازيل، لكن هذا الجانب كثر من خاض فيه من سينمائيي هوليوود وكون علامة
فارقة في سينما كلينت إيستوود الأولى حين لعب بطولة «الفارض» في السبعينات:
حكاية التحري هاري (المعروف بهاري القذر - نظرا لأساليبه غير الأكاديمية في
مواجهة المجرمين) الذي يكتشف خلية بوليسية تقوم بتنفيذ عمليات الانتقام من
المجرمين الذين تطلقهم المحكمة نظرا لعدم وجود أدلة.
هناك نقطة لقاء آخر بين «المجبر» (The
Enforcer) لجيمس فارغو وبين «وحدة النخبة 2» هو أن كليهما جاءا ليبرهن عن
براءتهما من تهم نسبت إليهما بعد فيلم سابق. فكلينت إيستوود كان قدم شخصية
التحري هاري في «هاري القذر» سنة 1971 أي قبل 5 سنوات من «المجبر». الأول،
من إخراج دون سيغل حمل عبر موضوعه نوعا من مباركة الحلول الفردية وتنصيب
التحري كقاض وجلاد في نفس الوقت. كذلك الحال بالنسبة للجزء الأول من «وحدة
النخبة» حيث كان الموضوع عن بطولة رجال البوليس في مواجهة الأشرار بكل
وسيلة متاحة بما في ذلك التصرف الفردي بعيدا عن البروتوكول القضائي.
الفيلم الجديد إذا تراجع عن هذا المنحى يقوم به المخرج نفسه حتى لا
يوصم بأي تبعية سياسية. هذه المرة فإن بطله المنتمي إلى وحدة عسكرية تقوم
بمهام رجال البوليس حين تدعو الضرورة والعمليات المعقدة يكتشف، وقد تم نقله
إلى وظيفة إدارية. إن الفساد مستشر في الجهاز الأمني لمدينة ريو دي جنيرو
نفسه. الاكتشاف يؤدي به إلى مجابهات متوقعة، لكنها تبقى مثيرة، بينه وبين
أكثر من شخص متضرر، بينهم سياسيون في الحكومة ورجال بوليس على حد سواء.
هناك حنكة في إدارة الأحداث وسرعة في الإيقاع وتشخيص عارف بالأمور.
يستفيد الفيلم طبعا من حقيقة أن الأحداث منسوجة من وقائع ليست بعيدة عما
نراه. طبعا لم يحلها شخص مثل بطل الفيلم مورا، لكن مثل هذه الأفلام تحتاج
إلى بطل وهذا الفيلم ليس استثناء. مورا يقدم على العمل بإيمان جلي وهو نقطة
وحيدة في العمل حين يأتي الأمر إلى تشخيص وجود إنساني ما، أما الباقون
فينتشرون في الزوايا أقرب إلى الزينة منهم إلى الفعل الحقيقي المنتظر.
* رسالة جعفر بناهي إلى برلين: سأنتظر تجسيد أحلامي في أفلامكم
* وجه المخرج الإيراني جعفر بناهي يوم أمس رسالة مؤثرة إلى مهرجان
برلين، وفناني السينما حول العالم تحدث فيها عن وضعه كسينمائي يرفض التراجع
عن مبادئه كصاحب رؤية تود التعبير عن نفسها من خلال أفلامها. وفيما يلي
مقتطفات:
«عالم السينمائي مميز بقدرته على التداخل بين الواقع والأحلام. صانع
الفيلم يستخدم الحقيقة كإيحاء ويلونها بألوان مخيلته ويخلق بذلك فيلما هو
عرض لأحلامه وآماله».
«الحقيقة هي أنني منعت من إخراج الأفلام خلال السنوات الخمس الماضية
والآن رسميا ممنوع من حقي في العمل لعشرين سنة أخرى. لكني أعلم أنني سأواصل
تحويل أحلامي إلى أفلام في داخل خيالي. أعترف أنني، كمخرج واع اجتماعيا، لن
أستطيع تصوير المشكلات اليومية التي تهم شعبي».
«في الواقع، لقد ضنوا على حقي في التفكير والكتابة لعشرين سنة، لكنهم
لن يستطيعوا منعي من الحلم إنه بعد عشرين سنة سيتغير الظلم والقهر إلى
الحرية والتفكير المشاع». «لقد حكموا علي بعشرين سنة من الصمت. لكني في
أفلام أصرخ لأجل الوقت الذي نستطيع فيه أن نتحمل بعضنا البعض، ونحترم كل
وجهة نظر الآخر، ونعيش من أجله».
«حقيقة الحكم علي أنني سأقضي 6 سنوات في السجن. سأعيش للسنوات الست
المقبلة على أمل أن آمالي سوف تتحول إلى حقيقة. أتمنى من رفاقي المخرجين في
كل مكان من العالم أن ينجزوا أفلاما عظيمة لكي أستوحي، حين خروجي من السجن،
الرغبة في الاستمرار والمشاركة في عالم من الأحلام التي تحدثوا عنها».
«سأستسلم لحقيقة وضعي وللسجانين، لكني سأنتظر تجسيد أحلامي في أفلامكم
آملا أن أجد فيكم ما حرمت منه».
* أرشيف برلين: 1977
* كانت المرة الأولى والمرة الأخيرة التي يقام فيها المهرجان في
الربيع. أتذكر فرق الجاز عند المقاهي والسهولة الفائقة والتنظيم الدقيق معا
الموضوعين في خدمة الجميع. لم تكن الأمور معقدة بالنسبة لناقد شاب جاء يحبو
حبا في تلقف السينما ومتابعة دراسته لها وللحياة من خلالها. رئيس المهرجان
حينها كان المبتسم دوما وولف دونر الذي كان زار موسكو الغارقة في التقاليد
المقيدة وطلب بضعة أفلام لجلبها إلى المهرجان، من بين تلك الأفلام شريط
المخرجة الراحلة لاريسا شبتكو. قالوا له مستحيل. قال لهم: المستحيل هو أن
أتراجع عن هذا الطلب. حتى المخرجة (التي ماتت بعد سنتين تقريبا في حادثة
سيارة) لم تصدق أنه فعل ذلك. الفيلم كان «الصعود»: دراما عن الناس بعد
الحرب يتضمن نقدا للفترة الستالينية لا يمكن أن تفوت أحدا. ليس هذا فقط، بل
ربح الفيلم جائزة مهرجان برلين الأولى وسط فرح الجميع تحية لمخرجة موهوبة
عرفت كيف تقول لا بفن.
من الأفلام الأخرى التي عرضت واستقبلت جيدا: - «ربما الشيطان» لروبير
بريسون (فرنسا) - «حفلة دون» لبيرس بيرسفورد (أستراليا) - «أقنعة غريبة»
لبال ساندور (المجر) - «الرجل الذي أحب النساء» لفرنسوا تروفو (فرنسا) - «نيكولوديون»
لبيتر بوغدانوفيتش (الولايات المتحدة) - «العرض المتأخر» لروبرت بنتون
(الولايات المتحدة) - «دوائر» لكريستو كريستوف (بلغاريا) - «بين الأسطر»
لجوان ميكلن سيلفر (الولايات المتحدة) - «البناة» لجورج فونز (المكسيك)
|