* العثرة الإيرانية
* كما هي عادة أصحاب القرار في النظام الإيراني، تم ارتكاب خطأ فاحش
عندما صدر قرار بمنع المخرج اللامع جعفر بناهي من العمل لعشرين سنة وبسجنه
لست سنوات ومنعه، بطبيعة الحال، من السفر إلى أي مكان، وهو الذي كان تم
اختياره عضوا في لجنة تحكيم الدورة الحادية والستين من المهرجان الألماني
الكبير. هذا كله لأنه كان على أهبة إخراج فيلم، فما البال لو أنه أخرجه
فعلا؟ طبعا الخلفية هي مواقفه المعادية للنظام الجائر القائم هناك وتعبيره
عن مواقفه هذه من خلال أفلامه السابقة.
حين تم إلقاء القبض على بناهي للتحقيق معه، رفض مبدأ الخضوع للتحقيق
أساسا. في الوقت ذاته، أي قبل نحو أربعة أشهر، تم القبض أيضا على مخرج آخر،
أقل شهرة، اسمه محمد رسولوف، الذي كان يستعد لإخراج فيلم جديد. وكان
البوليس الأمني ورجال المدعي العام الذي أمر باحتجاز بناهي، يعتقد أن
المخرجين يعملان معا على مشروع رسولوف. لكن رسولوف أكد للمحققين أن المشروع
مشروعه الخاص وليس لبناهي علاقة به. التحقيق رأى أن رسولوف تجاوب مع
المحققين فقرر إطلاقه والسماح له بتصوير فيلمه (وهو ما سيقدم عليه المخرج
خلال الأسابيع القليلة المقبلة)، أما جعفر بناهي، فإنها لم تستطع أن تعامله
بالمثل نظرا لأنه رفض التجاوب معها والإجابة عن أسئلتها، مقررا أنه مخرج
يحاكم من دون وجهة نظر وأن لا أحد يستطيع منعه من ممارسة عمله.
الحقيقة هي أنه لو لم تكن أفلامه السابقة، ومنها «الدائرة» و«ذهب
قرمزي» و«تسلل»، معمولة بذكاء وإيحاء لكي تكشف ازدواجية نظام قائم على
تشجيع القمع وحجر الحريات، ولو لم تشهد تلك الأفلام النجاح الذي استحقته في
عروضها العالمية لما كانت التهمة جاهزة والعقاب فادحا.
صحيح أنه لا يزال طليقا والقرار لم يتم تنفيذه بعد، ولو أن الجولة
الثانية قادمة لا محالة، إلا أن المسألة ما عادت جعفر بناهي ومحمد رسولوف،
بقدر ما هي كل تلك العثرات التي تضعها الدولة ضد نفسها فتبدو، كما الحال في
برلين الآن، مدانة بأفعالها حيال مخرجيها ومثقفيها ومبدعيها.
والمثير للإعجاب في شخص هذا المخرج، وللعجب في شخوص محاكميه، أنه كان
تلقى عرضا بترك البلاد أسوة بالمخرجين عباس كياروستامي ومحمد مخملباف
(وكلاهما أقل منه إجادة ولو أن ذلك موضوع آخر) اللذين يعيشان حاليا في
المنفى الفرنسي، لكن المخرج أصر على أنه لا يريد ترك وطنه وأنه يريد أن
يستمر في تحقيق أفلامه فيها.
في مهرجان برلين الحالي، جعفر بناهي حاضر رغم غيابه ليس لأن المهرجان
قرر عرض «تسلل» وبضعة أفلام أخرى من أعماله فقط، بل لأن العالم كله بات
يتحدث عن هذا الثمن الباهظ الذي يصر النظام على فرضه على المثقفين إذا
فكروا والمبدعين إذا ما ترجموا أفكارهم إلى نتاجات فنية هي في مصاف ما لا
يمكن المس به في العالم المتحضر. هذا على الرغم من أن بناهي حذر في استفزاز
الحكومة الإيرانية ولم يشأ الاتصال بالصحافيين الأجانب أو استثمار الاهتمام
الإعلامي الكبير حوله حتى لا يزيد الوضع المفروض عليه سوءا.
* السياسة والسينما
* بينما تنطلق الدورة الواحدة والستون من مهرجان برلين السينمائي
الدولي في العاشر من هذا الشهر (وحتى العشرين منه) فإن مطرا من الملاحظات
والتوقعات يهطل على أولئك الذين يأخذون من الحياة عطلة يقضونها في عتمة
الصالات.
وفي مقدمة الملاحظات ما يتعلق بحقيقة كونه يقام في مدينة كاملة وليس
منتجعا أو بلدة صغيرة. بين ثلاثة آلاف مهرجان سينمائي ونيف، تقام بلا توقف
طوال العام، هناك عشرة يمكن اعتبارها بالغة الضرورة. لا حياة للسينما من
دونها. ومن بين العشرة هناك ثلاثة هي أكبر وأهم هذه المهرجانات العشرة
وأكبرها عمرا أيضا هي برلين في مطلع العام، كان في مطلع الصيف، وفينيسيا في
مطلع الخريف.
وفي حين أن مهرجاني «كان» و«فينيسيا» يؤكدان، مع مجموعة أخرى من
المهرجانات المعروفة، مثل سان سابستيان ولوكارنو وكارلوفي فاري وسندانس، أن
المهرجانات الناجحة هي تلك التي تقام خارج العواصم الرئيسية حول العالم،
فإن برلين من بين اثنين أو ثلاثة (يمكن التفكير بتورنتو ودبي) التي تؤكد
العكس. فبرلين هي عاصمة أوروبية كبيرة وكونها تضم واحدا من أكبر مهرجانات
العالم وبنجاح متواصل منذ ستين سنة، يكسر تلك القاعدة ويحولها إلى مجرد
نظرية.
نجاح برلين عاما بعد عام، ليس بدوره صدفة. أيام ما كانت المدينة
منقسمة إلى نصفين، واحد بارد ومنتعش في الجزء الغربي، والآخر بارد ومنقبض
في الجزء الشرقي، بلور المهرجان أهمية خاصة على أساس أنه ملتقى سينما الشرق
والغرب معا. تلك الأفلام التي عرضت في رحابه، على تلك الشاشة الكبيرة وسط
المدينة (وليس بعيدا عن جدارها) جاءت من مختلف البلدان الأوروبية (كما من
أرجاء العالم المختلفة). أوروبيا، حفلت بأفلام من المجر وبولندا وألمانيا
الشرقية والاتحاد السوفياتي بجانب تلك الألمانية الغربية والفرنسية
والإيطالية وباقي البقاع المنتجة في أوروبا المتحررة.
أهمية هذا اللقاء كمنت في الفرصة المتاحة أمام النقاد والجمهور على حد
سواء لمشاهدة كيف يفكر السينمائيون في الشرق الأوروبي وكيف يعبرون عن
أفكارهم وإذا ما كانوا استطاعوا بث مضامينهم الخاصة والمختلفة عن السائد في
بلادهم أم لا. والكثير من تلك الأفلام اختلفت وتميزت وتجرأت بل وخرجت
بجوائز، يحضرني منها الآن فيلم الروسية لاريسا شوبتكو «الصعود» وفيلم
الألماني (الشرقي) الراحل أيضا كونراد وولف «صولو صني»
Solo Sunny.
حين انهار الجدار العازل (1961-1989) بين جزء متحرر وآخر أشبه
بالمحتل، تساءل كثيرون عن مستقبل المهرجان وقد بدا أنه فقد دوره ذاك. لكن
المهرجان الألماني برهن عاما بعد عام خلال السنوات اللاحقة على أنه كان بنى
من المكانة ما لا يمكن معه إلغاء قيمته وأهميته.
أكثر من ذلك، أنه في حين بدا أن العالم مقبل على عصر جديد ستتضاءل فيه
السياسة بعدم وجود دواع لمجابهات بين الشرق والغرب بعد ذلك الحين، وجدنا
مهرجان برلين خير دليل على أن السياسة، بكل أبعادها واتجاهاتها، ما زالت
حيا يرزق (للأسف) وأنها ما زالت المحور الذي يدور العالم من حوله.
في كل مرة عمد مخرج إلى إنجاز فيلم جيد يتعرض لقضية من تلك المعاشة من
حولنا، فإن برلين (أكثر من سواه بين المهرجانات التي تحفل بالعروض العالمية
الأولى) هو الوجهة الرئيسية التي تفوز بعرض هذا الفيلم. حتى إذا ما كان
الأمر يعتمد على صدفة الروزنامات الإنتاجية وموعدها من العام، فإن المرء لا
يستطيع إلا أن يرى بوضوح أن نصيب مهرجان برلين من الأفلام التي تناقش
الأوضاع السياسية هو أكثر من نصيب المهرجانات الرئيسية الأخرى.
وكما نقلنا في العام الماضي تلك الأفلام التي تعاملت مع مواضيع سياسية
واجتماعية متعددة، فإن المنتظر هذا العام هو مزيد من تلك الأفلام الباحثة
في هذه المضامين الشائكة، مثل «عفو» لبوجار أليماني (ألبانيا) و«غائب»
لماركو برغر (الأرجنتين) و«صنع في بولندا» لبرمجلوف ووجيزيك (بولندا)
و«كوريولانوس» لرالف فاينس (بريطانيا)، وهو تطوير لمسرحية وليام شكسبير قام
الممثل المعروف (في فيلمه الأول خلف الكاميرا) بنقلها إلى العصر الحالي.
وهذا فقط من بين مجموعة المسابقة التي يبلغ عددها ستة عشر فيلما.
في مجمله، سيعرض المهرجان أكثر من 400 فيلم، تم اختيارها من بين ألوف
الأفلام التي تقدمت للاشتراك فيه. والرقم المتوقع لعدد الذين سيدخلون
الصالات لمشاهدة هذه الأفلام هو 450 ألف مشاهد، أكثر من نصفهم من الجمهور
«العادي» الذي يشتري تذاكره. هذا الرقم مبني على مبيعات العام الماضي من
التذاكر التي وصلت إلى 274 ألف تذكرة.
* فيلم الافتتاح: «عزم حقيقي»: ذات مرة في عالم فسيح ووحشي
* اختيار مهرجان برلين للفيلم الجديد للأخوين جوول وإيثن كوون، «عزم
حقيقي» يحتوي على قدر من التقدير الخاص لسينمائيين استطاعا الاستحواذ على
إعجاب النقاد والمثقفين بسلسلة من الأعمال المصنوع غالبها بذكاء وعين على
المكان والسلوك الشخصي لأبطالها. ومع إعلان مهرجان «كان» السينمائي عن أن
فيلم وودي آلن المقبل «منتصف الليل في باريس» سيفتتح دورته المقبلة، وقيام
مهرجان فينيسيا الأخير بافتتاح دورته في سبتمبر (أيلول) بفيلم «البجعة
السوداء» لدارون أرونوفسكي، تكون ظاهرة الافتتاح الأميركي للمهرجانات
الرائدة الثلاثة قد اكتملت.
«عزم حقيقي» هو فيلم وسترن سبق للمخرج المتمرس هنري هاذاواي أن أخرجه
سنة 1969 من بطولة جون واين في دور روبرت روستر كوغبيرن المارشال الذي «لا
يدخل الخوف عقله» على حد وصف أحدهم له والذي تطلب منه الفتاة ماتي روس (كيم
داربي) القبض على قاتل أبيها توم تشايني (جيف كوري) الذي التحق بعصابة
يرأسها ند ببر (روبرت دوول). روستر كوغبيرن يوافق على مضض على أن يقوم
بالمهمة وحده، لكن ماتي تصر على أن تصحبه. معهما في المغامرة الشاب لابيف
(غلن كامبل) الذي يريد القبض على توم لأسباب أخرى. الفيلم تألف من رحلة
الثلاثة في براري الغرب.
في الترجمة السينمائية الجديدة، يقدم الأخوان كوون على النهل من
الرواية وليس من الفيلم، لكن كون الأصل أيضا اعتمد الرواية من دون كثير
تعديل، فإن النتيجة شبه واحدة سواء استلهم الأخوان الكتاب أو الفيلم
(يؤكدان أنهما شاهدا فيلم هاذاواي حين كانا صغيرين فقط).
جف بردجز في شخصية روستر (وبعصبة سوداء أيضا كما حال الشخصية في
الرواية والفيلم السابق) وهايلي ستاينفلد في دور الفتاة بينما يؤدي مات
دايمون دور لابيف. الملخص أعلاه يصلح تماما لإيجاز أحداث نسخة كوون لأن
المتغيرات قليلة. لكن النبرة مختلفة تماما. فيلم هاذاواي كان احتفائيا
بالممثل واين وبالوسترن كنوع أدمن واين عليه حتى أصبح هو تعبيرا عنه. فيلم
الأخوين كوون بلا احتفاء على الإطلاق. حتى التغني بالغرب الأميركي كنوع
سينمائي أمر غير وارد. عالم الأخوين كوون هنا مؤلف من سرد ملتزم بالحكاية
من دون نوستالجيا أو تعبير من أي نوع سوى تلك البرودة الساخرة التي تتسرب
مثل جدار يشح بالماء، وهذا سيئ لمتلق كان الوسترن بالنسبة له نوعا من
المعايشة وجدانيا مع عصر ولّى ولا يزال مثيرا للاهتمام كتاريخ وكبيئة زمنية
واجتماعية.
يؤم الشقيقان كوون الوسترن بأقل قدر من المرجعية. إذا كان لا بد، فهو
بالتأكيد شبيه بأفلام وسترن السبعينات من حيث التشكيل اللوني للتصوير
والتشكيل السلوكي للشخصيات. وهو رصين وملاحظ لكنه ليس ثقيلا ولا تفصيليا.
وأسلوب العمل هو غير استعراضي وغير مبهر بحد ذاته وفي وقت واحد. الناحية
الأولى جيدة، الثانية عامل آخر مفقود في هذا الفيلم الذي يمر بهدوء نهر
صغير و- أحيانا - بملله.
لكن اعتماد المخرجين على الرواية من دون تدخلات من جانبهما لجذب
الفيلم في أي اتجاه أمر يساعدهما على إتقان تنفيذ الفصول من حيث التأليف
اللغوي لمشاهد كل فصل. خذ مثلا الفصل الذي يستمر لخمس دقائق والذي نتابع
فيه دخول الفتاة الباحثة عن روستر كوغبيرن إلى المحكمة حيث تتم محاكمته
بتهمة قتله عددا من أفراد أسرة واحدة. لاحظ كيف أن المخرجين في البداية
بنيا الفصل عليها في مطلع الأمر. حركتها إلى داخل القاعة وملاحظتها الجميع
وأماكن كل منهم وسماعها ما يدور. إذ تتقدم في القاعة بحثا عن مكان تستطيع
أن تشاهد منه كل شيء، خصوصا روستر، تتحرك الكاميرا تلقائيا لتكشف عما تراه.
بعد ذلك، تنصرف عنها لكي تتابع الحوار بين روستر ومحاميه. لقطات متبادلة
بين الشخصين بعد أن ينتقل التنفيذ من اللقطات البعيدة المتوسطة، إلى لقطات
متوسطة لكل منهما على انفراد. المنوال نفسه بين روستر والمدعي العام مع
اختلاف في زوايا اللقطات من قبل العودة إلى الفتاة قبل انتهاء الجلسة. كل
ذلك بيسر شديد وتوظيف صحيح للمكان ولما يرد في المشهد للتغلب على الحوارات
الطويلة المصاحبة.
لاحقا، في مكان ما وسط الفيلم، ينتهج الأخوان تقسيما لغويا آخر: روستر
وماتي على حصانيهما في منطقة شجرية. الكاميرا تتحرك وراءهما ببطء يماثل بطء
تقدمهما إلى منطقة جديدة، ثم تنتقل إلى أمامهما لتتراجع عنهما بذات البطء.
هنا ينتبه روستر إلى أن هناك شيئا خطأ في المكان يتوجب الحذر منه. بذلك
تكون الكاميرا واكبت الإحساس قبل بدايته حتى تتيح للمشاهد الشعور به. جزء
كبير من نجاح المهمة يعود إلى مدير تصوير الأخوين كوون المفضل (والدائم)
روجر ديكنز.
بمراجعة الكتاب (الذي أعيد طبعه بمناسبة الفيلم) ندرك كم كان الشقيقان
أمينين حيال الحوار الوارد في النص الأصلي خصوصا أن الكاتب بورتيس كان ذكيا
في استخدام حواره. ما يخفقان فيه هو شحن الأزمات الواقعة بين الأطراف
الثلاثة بقدر من الحرارة. بسبب ذلك، فإن الحوار المتبادل بين شخصية جف
بردجز وشخصية مات دامون دائما أقل أهمية مما يبدو عليه الأمر في الوهلة
الأولى. المشاهد ذاتها بينهما لا تبدو طبيعية بين رجلين من ذلك العصر كل
منهما يدعي أنه مقاتل أفضل من الآخر. النتيجة هي أنهما يبدوان أقرب إلى
امرأتين عجوزين تتناوبان الردح كل للأخرى خصوصا في مشهدين ضعيفين للغاية:
المشهد الذي يهزأ روستر كوغبيرن من لابيف، وذاك الذي يتنافسان فيه على
إصابة أهداف طائرة. وهما مشهدان وردا على بعد ثلث ساعة كان الفيلم خلالها
قد غطس في مستنقع راكد لم يخرج منه إلا قبل نحو ثلث ساعة من نهايته.
|