معنى القلق الوجودي وتحويل الأحساس أو الهاجس الى صورة
"أبقيت على قنوات مفتوحة مع طفولتي. أحياناً في الليل عندما أكون على
الحافة بين اليقظة والنوم، أدخل من باب إلى طفولتي وهناك أجد كل شيء تماماً
كما تركته: الاضواء والاصوات والناس..أذكر الشوارع الساكنة حيث كانت تسكن
جدتي، والعدائية المفاجئة لعالم الكبار والخوف من المجهول والرعب من التوتر
المستمر بين امي وابي."..... انغمار بيرغمن
في السينما كما في الفنون الأخرى وكما في الأدب والشعر، تختصر
أسماء قليلة المسيرة والتاريخ. يُقال عنها انها أسماء "علّمت" أي تركت أثراً
ويتنوع أصحابها بين مؤسسين ورواد وفارضي تحولات. يجتمعون في سلة واحدة من دون
ان يجمعهم بالضرورة شيء سوى أنهم برزوا في هذا المجال او ذاك. أسماء يسهل
استحضارها في معرض الحديث عن الكبار وفقاً لخارطة ذهنية تراعي شروط الجغرافيا
والزمن والتنوع. وهناك دائماً كلمة "وآخرين" التي تجنبنا الوقوع في فخ النسيان
او التجاهل. ولكن كما ان التاريخ بتفاصيله وليس بعناوينه، كذلك هي السينما.
بعيداً من أن ذلك الاختصار، اي اختصار مسيرة السينما بحفنة أسماء، هي عملية
بعيدة من الدقة تماماً، هناك أيضاً ما يمكن ان يُسمى بإزالة الفوارق او
تجاهلها. فبين تلك الاسماء التي تحضر سلة واحدة، ثمة فوارق وخصوصيات. من أسهم
بشكل اكثر فعالية مثلاً في تاريخ السينما: فيلليني أم بريسون؟ حتماً ستتفاوت
الاجابات بحسب الثقافة والمعرفة السينمائيتين والذائقة الشخصية وغيرها.. ولكن
المهم هنا هو الذهاب أبعد من الاجابة الجاهزة وأبعد من التصنيف وأعمق من
التعميم. في المحصلة، ما يصح اليوم عن سينمائي قد لا يصح بعد مرور عشرين سنة
حيث ان السينما هي أكثر الفنون اتصالاً بالزمن في وصف الأخير الحاكم والحكم. في
هذه العملية التي تحاول الغوص على ما هو أبعد من الاحكام، يتبدى السينمائي
انغمار بيرغمن الذي رحل قبل أيام مثالاً وأساساً. اذا قلنا سينما، يحضر اسمه مع
آخرين ممن أثّروا في وأثروا السينما. كأنها لازمة لا فكاك منها ان نقول فيلليني
اذا قلنا بيرغمن وان نضيف غودار من الاحياء وانتونيوني الذي بات في عداد
الراحلين (غاب عن الحياة في نفس يوم وفاة بيرغمن) وبونويل وغيرهم ـ والأخيرة هي
من ضمن اللازمة ايضاً. ولكن ما الفرق بين هذا وذاك؟ هل يتساوون في ارثهم
وتأثيرهم؟ هل يمكن المقارنة؟ هل نستطيع ان نصل إلى استنتاج دقيق في ما يخص
اسهاماتهم ومدى تأثيرها؟ في حالة بيرغمن، يبدو الأمر أسهل لأن ثمة جهداً يوفره
ذلك الاحساس الراسخ لدى كثيرين من النقاد والمؤرخين وحتى هواة السينما بأن
للرجل مكانة مختلفة عن كل الآخرين. ثمة "سطوة" مغايرة لبيرغمن يُعتقد انها
المثال الاكثر تجسداً في افلامه مقارنة مع عمالقة السينما الآخرين. او لنقل ان
بيرغمن استطاع أكثر من الآخرين ان يحول افلامه تجسيداً لمواصفات العظمة التي
يتحلى بها الآخرون. فإذا كانت الاستقلالية والذاتية والابتكار والابداع
والتحديث هي من المواصفات الاساسية لعظماء السينما، فإن بيرغمن جعل أفلامه
مرادفاً لكل ذلك والاهم انه فعل ذلك بشكل تصاعدي. ربما من هنا يكتسب وصف "البرغمانية"
معناه لأنه في جوهره يعني تطابق الصفة والموصوف. فكما ان الله في عرف المؤمنين
هو العدالة اي انه تجسيد للقيمة نفسها، كذلك هو بيرغمن تجسيد لقيمة سينمائية
اكتسبت أهميتها المطلقة من أفلامه. بهذا المعنى، غدت سينماه مرادفاً لموضوعاتها
والعكس صحيح. العزلة والعلاقات الانسانية والعصرانية ومعنى الايمان والعلاقة مع
الله والعصرانية... هي ما رواه بيرغمن في افلامه او الأحرى جسده. فالقول انه
حكى عن ذلك او رواه قد يعني أحياناً تحول الشيء حجة او وسيلة. مع بيرغمن الأمر
مختلف لأنه ألغى الوسيط بين السينما وهواجسه. هذا الوسيط الذي قد يكون حكاية او
سرداً او وهماً سينمائياً او استثماراً لمفهوم او تقليداً ثابتاً او تواطؤاً مع
المشاهد... كل ذلك رماه بيرغمن خارج عالمه السينمائي لتتحول السينما الوسيط
وليس الوسيلة. العلاقة بين افلام بيرغمن وهواجسه وموضوعاته عضوية لا افتعال
فيها. انها كعلاقة العين بالوجه. لعل التفكير بصوت عالٍ هو الذي يقود إلى تفكيك
لغز بيرغمن. ومن ذلك ان نتساءل: أليس هناك غير بيرغمن من تناول العلاقات
الانسانية والعصرانية والعزلة والايمان؟ بالطبع هناك الملايين ولكن هذا تحديداً
ما يميز بيرغمن: بين الملايين هو الذي اختزل بسينماه معنى القلق الوجودي.
لا يكفي ذلك لايضاح الفكرة. لا بد من اضافة اساسية تتمثل في ان
هذا الاختزال لا يتم على مستوى الموضوع فقط. السينما صورة فكيف يمكن الصورة ان
تجسد القلق الوجودي؟ هنا تكمن عبقرية بيرغمن: تحويل الاحساس والهاجس صورة.
بهذا المعنى، ربما يكون المدخل الاوحد إلى افلامه الصورة.
فالأساس أن سينماه امتلكت من النضج ما مكنها من اثارة المشاهدوفي معظم الاحيان
استفزازه وتوريطه بشكل حميم بمجموعة أحاسيس معظمها مقلق، تبثها الشاشة
وتتشاركها الشخصيات معه. يحدث هذا التفاعل وجهاً لوجه بالمعنى الحرفي للكلمة
ليتبدى بيرغمن سينمائياً شديد التعقيد. ففي وجه الرمزية التي وسمت عدداً كبيراً
من أفلامه، يبسط العلاقة بين المشاهد والسينما. التركيب والتعقيد سمتان
لمواضيعه ومعالجتها اما الاسلوب فهو مباشر اذ يفتح الشاشة امام تفاعل مباشر بين
الشخصيات والمشاهد وربما بشكل أدق بين الممثلين والمشاهد. وفي هذا ينشق بيرغمن
عن معظم السينمائيين الكبار لأن لعبته لم تكن السينما نفسها بقدر ما كانت تلك
الثمرة الجديدة التي ولدت من مزجه الاثنين: السينما والموضوع. وليس مبالغاً
القول ان سينماه كانت سينما الموضوع والاحاسيس بالدرجة الاولى من دون ان ينتقص
ذلك من قدراته السينمائية. فالصراع السائد بين الشكل والمضمون والذي كان السمة
الابرز لـ"سينما المؤلف" لا نعثر عليه في افلام بيرغمن لأنه ببساطة تعامل مع
السينما كوسيط لنقل هواجس الانسان وأزمته الوجودية بما يفوق قدرة الكلام والنثر
على فعل ذلك. الأساس لدى بيرغمن كانت إزمة الانسان وكيفية تجسيدها فكان ان اوجد
لذلك مفردات خاصة في قلب الفن السينمائي ذاهباً به إلى حدود غير مطروقة. حتى
ذلك لم يكن بمثابة الفتح لأن الأخير يعني تحول اسلوبه واكتشافاته مشاعاً لمن
سيأتي بعده. ولكن الواقع ان أحداً لا يستطيع نسخ بيرغمن لأن منهجه ليس
سينمائياً بحتاً بل انساني ذاتي شديد الخصوصية.
بالعودة إلى التفاعل وجهاً لوجه بين المشاهد والعمل، يحضر
شريطه
Persona
أو "قناع" مثالاً اساسياً. الجدير ذكره ان العنوان الاصلي للفيلم كان
Cinematography
وهو عنوان كالحالي يلائم طبيعة العمل الذي يجعل السينما في قلب الموضوع والعكس.
اللقطة المقربة للوجه سمة اساسية في سينما بيرغمن وهي ما وصفها المؤرخ والمحلل
السينمائي جيل دولوز بأنها اي تلك اللقطة "التحام بين الوجه الانساني والفراغ".
خلال تلك اللقطات القريبة للوجوه التي تطول وتطول إلى حد ازعاج المتفرج، يتسنى
للأخير ان يفكر ويشعر ويرى هذا الوجود الانساني الذي يستحيل على الشاشة لحماً
وعظاماً وشعراً وعيوناً وفماً... هكذا يفترق المعنيان: الوجه كوسيلة تعبير
وتواصل والوجه كجسد محسوس ومادي. وفي ثنائية المادية والروحانية تتشكل سينما
بيرغمن وتثمر. ولكن لهذه اللقطة أبعاد أخرى. فنحن نرى في
persona
الكاميرا تقترب من الوجه وتتحرك كأنها تبحث عن مدخل للنفاذ إلى داخل الوجه وإلى
ما بعده إلى أن يملأ الوجه الشاشة وتستنفد عدسة الكاميرا قدراتها القصوى في
التقاطه وتصويره والنفاذ اليه. يؤسر الوجه بين أربع حدود فلا يجد من افق ينظر
اليه الا عدسة الكاميرا التي تصله بالعالم الخارجي. تتلاقى عيون الشخصية وعيون
المتفرج في تلك اللحظة. يصبح كلاهما شريكاً في تلك الصورة كأن كلاً منهما من
جهته يشعر باختلاط الامر عليه بين الواقع والسينما. كل منهما ينفذ إلى الآخر:
المتفرج والشخصية، العالم الواقعي والعالم السينمائي. من هناك تنطلق تجربة
سينمائية فريدة تختلط فيها أحاسيس الاثارة بالحميمية بالانكشاف.
لعل السمة الابرز لسينما بيرغمن هي تجلي سلطة المؤلف عليها. لم
يتسنَ ربما في تاريخ السينما لمخرج ان يمارس تلك الحرية القصوى التي تمتع بها
بيرغمن حتى غدت لأعماله بصمة لا يمكن أن تخطئها العين وتحولت بفضلها أفلاماً
ذاتية محورها "أنا" المخرج وأزماته. وهذا ما يدفع ببعضهم إلى القول ان تلك
السلطة "الشيطانية" كانت السبب في الثمانينات والتسعينات إلى استبعاد بيرغمن من
دائرة السينمائيين المؤثرين بسبب استرساله في أناه وبسبب من عصرانية سباقة تحلى
بها. لعله في عرف هؤلاء وقع ضحية للخطر الذي تحدث عنه اوسكار وايلد: "ليس أخطر
من ان تكون شديد العصرية لأنك سرعان ما ستصبح قديم الطراز." ولكن هناك من يعتبر
ايضاً ان عودة بيرغمن إلى مكانته في تاريخ السينما تحققت بفضل ثورة الـ"دي.في.دي"
التي أتاحت لأعماله تواصلاً حميماً مع المشاهد يتلاءم وذاتيته الطاغية. ولكن
الأهم هي فرصة اعادة اكتشاف هذا السينمائي بعد مرور كل ذلك الوقت. كانت
المفاجأة ان بيرغمن لم يشخ ولم يصبح بعد نصف قرن قديم الطراز. بل ان الهواجس
والاسئلة التي طرحها حول العصرانية مازالت من دون اجابات وأكثر الحاحاً من ذي
قبل لاسيما في الافلام التي صنعها في عقد الستينات. ولكن لم تكن الأخيرة هي
بداية اسطورة برغمن بل ان جدلية هذا السينمائي ترافقت مع بداياته الاولى.
عدمية وتنويع وكوميديا
أنجز بيرغمن خمسة عشر فيلماً بين 1945 و1954 حازت بمعظمها ردود
فعل متناقضة ومتفاوتة في السويد. عن فيلمه الاول "أزمة"
Crisis
كتب أحد النقاد السويديين: "...ثمة ما هو متفلت وخارج عن السيطرة بشكل غير مريح
في مخيلة بيرغمن. يبدو غير قادر على الحفاظ على سوية ذهنية. ما تحتاج السينما
السويدية اليه بالدرجة الاولى ليس مجربين وانما أشخاص عقلانيون وأذكياء..."
يكشف هذا الكلام عن بعض المشكلة الذي سيكمل بين السينمائي
والنقاد السويديين على مدى مسيرته السينمائية. فقد شكل بيرغمن بالنسبة إلى
هؤلاء حجر عثرة في طريق ثقافة كانت تعتبر نفسها تنويرية وصوتاً ينادي بالمكبوت
وسط حركة عصرية عقلانية. هكذا خرجت أفلامه في الاربعينات متشائمة تدور حول
شخصيات تحيا على هامش الحياة الاجتماعية والاقتصادية المعاصرة في ستوكهولم ضحية
صراع مع القوانين والاعراف السائدة. مع موضوعة الشباب واليأس الوجودي التي
رافقت أفلام تلك المرحلة
A،
Music in
darkness،
Port Call،Thirst،Prison
) (Crisis،
It Rains
on Our Love،
Ship
Bound for India بحث السينمائي عن أساليب مختلفة تناسب هواجسه، يظهر من
بينها تأثره بروسيلليني وهيتشكوك. على أن الفيلم الاول الذي حمل ملامح سينمائية
ستتحول في ما بعد علامة بيرغمانية كان
Summer
Interlude
عام 1951. فبالإضافة إلى موضوع اليأس والشباب، أضاف أبعاداً أخرى لشخصية المرأة
الشابة التي تستعيد خياراتها الحياتية وتدفع في النهاية إلى اعترافات عميقة حول
معنى الحرية والمسؤولية. لقد حمل الفيلم فكرة محورية سترافق افلام الخمسينات
وهي: كيفية العيش من دون ايمان حقيقي بالانسان والمجتمع والله وحتى بالنفس.
في كتابات ماريت كوسكينين المتخصص ببيرغمن وأعماله نعثر على
جذور ذلك عندما يقول ان أعمال بيرغمن كانت انعكاساً لأزمة المجتمع السويدي
بتحوله إلى الشكل العلماني الذي لم يتمكن تماماً من استبدال العادات والتقاليد
القديمة مما ولد قلقاً روحياً.
بخلاف المفكرين الاسكندينافيين والثقافة الانغلوفونية الذين
ابدوا الاهتام الكبير بأفكار بيرغمن وموضوعاته، انجذب النقاد الفرنسيون إلى
اسلوب بيرغمن السينمائي مسهمين في لفت الانظار العالمية اليه منذ الخمسينات.
فقد حاز فيلمه
Summer with
Monika (1953) اعجاباً كبيراً لدى عرضه في باريس من ضمن برنامج
استعادي عام 1958 ضم مجموعة افلام أخرى لبيرغمن. وكان جانلوك غودار او ل من
تحدث عن مشهد ثوري في الفيلم وذلك عندما تواجه مونيكا وهي في عز شرودها وقلقها
بعيد فشل علاقتها بحبيبها الذي تحمل طفله الكاميرا بدون تحفظ وتنظر إلى المشاهد
مباشرة في ما اعتبر وقتها خروجاً على تقاليد السينما السردية. في العام نفسه،
عُرض فيلمه
Sawdust and
Tinsel
الذي استخدم فيه مهرجين ولاعبي سيرك للتدليل على الحياة اليومية حيث تنحصر مهمة
الاجساد في خدمة الآخرين سواء أفي العمل او في العلاقات وحيث تتراوح النتيجة
بين العنف العاطفي والاذلال.
على الرغم من قسوة الفيلم، اعتبر لاحقاً قفزة في مسيرة مخرجه.
مع هذا النوع من الافلام، لم يحظَ بيرغمن بأية جماهيرية فكان ان أنجز سلسلة
افلام كوميدية لضمان استمرار تعاونه مع الاستديو الذي انتج افلامه وقتذاك "سفينسك
فيلم اندستري". أظهرت تلك الافلام (Waiting Women
وLessons
in Love)
عدم ارتياح بيرغمن مع الكوميديا ولكنها ولدت ايضاً تفاعلاً غريباً بين جدية
موضوعاته من جهة ومقومات الكوميديا من جهة ثانية تجلى في آخر افلام السلسلة
Smiles of
a Summer
Night
عام 1955. فهذا فيلم على الرغم من شذوذه عن اعمال بيرغمن الاصيلة هو في جوهره
كوميديا عن عقم الكوميديا في معالجة أزمة الانسان وهواجسه. وهو أبعد من ذلك
يطرح اشكالية السلوك الانساني ازاء تصدع الايمان. إلى موضوعه الذي سيتعمق
بيرغمن أكثر في طرحه في فيلمه التالي "الختم السابع"
The Seventh Seal،
حقق له
Smiles
شهرة عالمية وذلك بعيد عرضه في مهرجان كان عام 1956 وفوزه بإحدى جوائزه
الاساسية.
السينما
الفنية
في حمأة نجاح
Smiles of a Summer Night
ونشوة الاستديو به، مرّر بيرغمن سيناريو
The Seventh Seal
أكثر أعماله ذاتية في ذلك الوقت وربما تطرفاً. هكذا خرج الفيلم الذي يعتبر حجر
اساس في السينما العالمية ونموذج السينما الفنية لسنوات مقبلة بعد انجازه عام
1957. أثر الفيلم في جيل كامل من المخرجين من مونتي بايثن إلى دايفيد لينش
مروراً بوودي آلن. يروي الفيلم حكاية محارب عائد لتوه من الحروب الصليبية
يطارده الموت ويثمر أحد أبرز المشاهد في ذاكرة السينما: لعبة الشطرنج بين
المحارب والموت. قام الفيلم على صورة شديدة التباين لسويد القرون الوسطى وقدم
ماكس فون سيدو في دور المحارب نموذجاً آخر للبطل الوجودي المكروب فلقي صدىً
عميقاً في ذروة الحرب الباردة. لقد طرح الفيلم أسئلته العميقة والاساسية
والمعقدة حول معنى الحياة والمبادىء في عالم يتهدده الموت في كل لحظة ولا يجلب
الايمان فيه سوى الخضوع والكبت والتعامي. ترك الفيلم اثراً عميقاً في العالم
وفتح الابواب امام سينما فنية للجمهور الايركي والبريطاني كان من نتيجته أن
عُرف أمثال فيلليني وانتونيوني ورواد الموجة الجديدة بين الجمهور العريض.
الفيلم التالي،Wild Strawberries
، كان شديد الاختلاف عن سابقه. صحيح ان محوره هو أزمة الايمان ولكنها هنا تتجلى
في أشكال أخرى. بل ان الفيلم ينطلق منها وقد تجذرت ولم تعد موضع بحث او نقاش
كما هي حالها في
The
Seventh
Seal.
أزمة الايمان هنا تتجسد في السعي إلى قبول الذات وانتشال اعتراف الآخرين
والتصالح مع الماضي والآخر. فيكتور سجوستروم أحد أكبر مخرجي السينما الصامتة في
السويد يلعب دور البروفيسور الذي يسافر مع زوجة ابنه جنوباً للحصول على جائزة
تكريمية. ولكن رحلته تلك تستحيل رحلة إلى ماضيه وذكرياته التي تتجسد أمامه
مشاهد أحلام وفلاشباك تتداخل مع الواقع في ما كان فتحاً وقتذاك ترك أثره في
أعمال لاحقة مثل افلام اندريه تاركوفسكي.
بين مجموعة الافلام التي تلت قبل حلول 1961 موعد التحول الجذري
في حياته، برز
The Virgin
Spring (1960)
الذي دارت أحداثه في القرون الوسطى ايضاً حول اغتصاب فتاة وقتلها وسعي والدها
إلى الانتقام. قد لا يرقى الفيلم إلى مستوى أعماله السابقة واللاحقة المميزة
ولكنه جلب للمخرج أولى جوائز الاوسكار الثلاث التي نالها في حياته. كما كان
باكورة تعاونه مع المصور السينمائي سفين نيكفيست الذي سيكمل معه المسيرة حتى
النهاية متسلماً الشعلة من غونار فيشر الذي أضاء وصور افلام بيرغمن خلال عقد
الخمسينات.
ثلاثية
الايمان
حملت الستينات التطور الاهم في مسيرة السينمائي ومعها التطرف
الابرز. فقد كتب المؤرخ السينمائي السويدي ميكايل تيم يقول: "كلما نضج بيرغمن
كسينمائي ازداد تركيزه على القوى التدميرية التي تتحرك تحت الثقافات
المتناغمة." هكذا انجز خلال تلك الفترة أكثر أفلامه نقداً للثقافة العصرية. في
كتابه "انغمار بيرغمن: الساحر والنبي" الصادر عام 1999، كتب مارك غيرفايس عن
افلام بيرغمن لا سيما خلال الستينات واصفاً إياها بالصراع بين "قوة الحياة"
وقوة أخرى مجردة وسلبية تتمثل بانعدام الامل والعدمية. لعل أبرز أعمال الستينات
ما عُرف بثلاثية الايمان:
Through a Glass
Darkly
(1961)،
Winter
Light (1963) وThe
Silence (1963).
في الاول يبدو واضحاً تحوله إلى العالم المعاصر من جديد ملتقطاً نبضه بواقعية
مركبة. على جزيرة "فارو" النائية التي ستتحول بيته منذ 1966، نلتقي شخصيات
الفيلم الاربع التي تتنوع بين ضحايا العصرانية الباردة والناجين منها. الشحصية
الاساسية "كارن" (هارييت اندرسن) تعيش أزمة ايمان تنأى بها عن العالم إلى آخر
داخلي مسكون بالهلوسات والانتظار. والدها وزوجها متأقلمان تماماً مع الواقع
بينما شقيقها المراهق يعيش أزمة الهوية. في
Winter Light،
يلعب غونار بيورنستراند دور كاهن، وهن ايمانه فراح يحاول استعادته من خلال اداء
الطقوس. وبظهوره الصامت والعابر في دور رجل يرزح تحت الخوف من حرب شاملة (ظهر
الفيلم في فترة ازمة الصواريخ الكوبية)، شكل ماكس فون سيدو التجسيد المطلق
لانعدام الايمان.
اختتم
The Silence
الثلاثية بشكل غير متوقع. بعيداً من الطرح الفلسفي للجزءين الاول والثاني، تبدى
"الصمت" فيلماً مفتوحاً على قراءات مختلفة، ايروتيكياً وحسياً. ولكن مرة أخرى
يعود إلى الايمان والمؤمن في هذا الفيلم يتجسد في شخصية الاخت على فراش الموت
بينما لا ينعدم الامل بالمستقبل من خلال شخصية الولد.
"بيرسونا" وما
بعده
على أثر مزاولته للعلاج النفسي عام 1965، بدأ كتابة سيناريو
Persona
مستوحياً من العلاقة الواقعية بين نجمتي الفيلم ليف ألمن وبيبي اندرسن. أكمل
الفيلم من حيث انتهى سابقه بتلك الحرب النفسية بين امرأتين انما وصل فيه إلى
ذروة ابداعه السينمائي. تدور الاحداث حول ممثلة تقرر التوقف عن الكلام وممرضة
مكلفة العناية بها بما يتحول علاقة مسكونة بالرغبات والشبق. في منتصف الفيلم،
يحترق السليلويد امام احتمالين: اما ان الطبيعة البلاستيكية للخام تحمي نفسها
بسحق الاحاسيس واما ان عمق الاخيرة وحرارتها عصية على الوسيط السينمائي. ويصل
الفيلم إلى قمة اكتماله وتركيبه عندما يمتزج وجها الامرأتين وتبقى لكل منهما
عين وتحدقان معاً في المشاهد. من مسافة أربعين سنة اليوم، يقف
Persona
واحداً من اعظم انجازات بيرغمن والسينما على حد سواء.
في
Hour of the Wolf
عام 1968 يغوص المشاهد داخل تلك النظرة وكأنه يدخل عالم الشخصية من خلال الكاتب
الذي تتراءى له شياطينه الداخلية في هيئات بشرية تسكن عوالمه وافكاره. الفيلم
من طراز الرعب الرفيع في جانب منه ويحتوي على أكثر مشاهد بيرغمن تشوشاً وقلقاً
متمثلة في صراع بين الكاتب وولد على هيئة شيطان.
ماكس فون سيدو وليف ألمن هما ايضاً بطلا
The Shame
الذي اعتبر رد فعل على حرب فييتنام بينما أكملت الستينات بأفلام
The Ritual
وA
Passion .
كان عقد السبعينات فترة الاجماع النقدي والجماهيري على اعمال
بيرغمن بعد الستينات المتطرفة وانما المبدعة. على الرغم من بدايتها غير المشجعة
مع the
Touch
فيلمه الاول والاخير باللغة الانكليزية، أكمل العقد بنجاح كبير جلبه له
Cries and
Whispers
(1972) عن امرأة على فراش الموت تحيطها اختها الانانية
وخادمتها/عشيقتها. كان الفيلم اول عمل لبيرغمن يحوز الاعجاب الواسع منذ
The Seventh Seal
مقدماً فيه تحولاً طفيفاً في الاسلوب والديكور المتقشف.
ولكنه
Scene from a Marriage (1973)
هو الذي أكمل فيه بحثه في موضوع العصرانية والايمان. لقد جاء الفيلم في سياق
اعمال بيرغمن الرافضة لاية سلطة مطلقة أكانت الله او الانسان او حتى الزواج كما
هي الحال هنا. بفعل هذا الفيلم، تحول الثنائي "يوهان" و"ماريان" رمز الزوجين
المعاصرين وجسدا استحالة نجاح هذه المؤسسة على طول الخط من دون الخضوع او
الخيانة.
حملت
السبعينات اعمالاً أخرى بارزة مثل
The Magic Flute
وface to
Face
ولكنه Fanny
and Alexander
عام 1982 هو الذي سيعيد للمخرج ذروة الشهرة والتألق حيث سيقرر ايضاً الاعتزال.
في ميلودراما تلفزيونية، قدم بيرغمن ما يعتبره البعض سيرته الكاملة في
fanny and
Alexander
مع العلم ان افلامه كلها كانت اقتباساً لطفولته ومشاهد من حياته.
في العام 2002 قرر بيرغمن العودة إلى السينما بعدما تفرغ خلال
الثمانينات والتسعينات للكتابة والمسرح عشقه الثاني الذي يستحق دراسة منفصلة.
عاد إلى "يوهان" و"ماريان" بعد ثلاثين عاماً في
saraband
ليحكي مجدداً العلاقات الانسانية واستحالة الاندماج والعزلة الحتمية المكتوبة
على الانسان.
لعل بيرغمن بإرثه السينمائي الذي يفوق الخمسين فيلماً خلال
ثلاثين سنة يشكل معجزة الفن السينمائي من نواحٍ لا حصر لها وليس ذلك من قبيل
تأليهه بل انه اول من نفى عن نفسه صفة الالوهة عندما شارك في دراسة نقدية
نشرتها عنه احدى المجلات المتخصصة منتقداً نفسه واعماله تحت اسم مستعار مردداً
غير مرة انه لا يستطيع مشاهدة افلامه لأنها تبعث فيه القلق واليأس.
|