برحيل المخرج السينمائي السويدي أو بالأحرى، فنان السينما
الكبير إنجمار برجمان عن عالمنا يُغلق كتاب كامل في تاريخ الفن السينمائي،
بل وفي تاريخ الثقافة والفكر والإبداع.
عاش برجمان لهدف واحد فقط، هو أن يعبر عن أفكاره ومشاعره
وتأملاته الذاتية من خلال الصورة وحركة الكاميرا والدراما والموسيقى
والضوء، في المسرح والسينما والأوبرا.
وقد ترك برجمان تأثيره الكبير، من خلال أفلامه، على عصره كما
لم يفعل فنان سينمائي آخر في عالمنا، فقد أصبحت أفلامه مادة أساسية للتدريس
في معاهد السينما في العالم، واحتفت بها المهرجانات والتظاهرات السينمائية
العالمية ونوادي السينما ودور عرض أفلام الفن، كما صدرت عنها عشرات الكتب
والدراسات والأبحاث والمقالات النقدية.
وقد امتدت تأثيرات برجمان السينمائية إلى عدد من أهم فناني
السينما الكبار في العالم مثل تاركوفسكي الروسي، وجودار الفرنسي،
وأنطونيوني الإيطالي، وأنجلوبولوس اليوناني، وبونويل الأسباني، وتبدت في
الكثير من أعمالهم.
سينما
الفكر
سينما برجمان هي سينما الفكر والخيال والفلسفة الإنسانية عندما
تتعامل مع وسيط يختلف عن الكلمة المكتوبة، وليس غريبا أن يقال إن برجمان
فنان "الكتابة بالضوء".
تناول برجمان في أفلامه تعقيدات الحياة الإنسانية، مغزى الحياة
ومعنى الموت وهل يمكن هزيمته، وجود الله، ورسالة الإنسان، وما يدور تحت
الجلد الخارجي للإنسان من تناقضات وتمزقات وتساؤلات عميقة، قسوة البشر،
والمرأة ككائن أكثر حساسية في علاقتها المعقدة بالرجل، والفجوة بين اتساع
وسائل الاتصال والعجز عن التواصل .
ولاشك أن لنشأة برجمان في بلدة نائية (فارو) في السويد، حيث
الوحدة والعزلة والوحشة وقسوة العلاقات، مع تمزق العلاقة مبكرا بين والده
ووالدته، قد ترك تأثيرا كبيرا على فلسفته ورؤيته وأفكاره كما تبدت في
أفلامه.
ولكن لاشك أيضا أن برجمان، ابن المسرح السويدي وأحد أقطابه
الكبار، جاء إلى السينما مسلحا بالهموم والهواجس الفكرية عن عالمنا، كمفكر
سينمائي يبحث عن إجابات لعشرات الأسئلة الحائرة في داخله.
أخرج برجمان نحو 50 فيلما روائيا طويلا للسينما ربما يمكن
اعتبار أكثرها أهمية: "الختم السابع" (1957) و"الفراولة البرية" (1957، و
ثلاثيته الشهيرة "من خلال زجاج معتم" (1961) و"ضوء الشتاء" (1962) و"الصمت"
(1963)، ثم "برسونا" أو "القناع"(1966)، ثم فيلمه الملون الأول "صرخات
وهمسات"(1972).
الختم
السابع
في "الختم السابع" يتعامل برجمان مع هم وجودي، من خلال ذلك
الفارس المحارب الذي يعود من الحروب الصليبية في القرن السابع عشر إلى
بلدته، فيجد وباء الطاعون يفتك بأهلها، ويصبح هو الآخر مطاردا من الموت
الذي يتجسد له في هيئة شخص يرتدي الملابس وقلنسوة الرأس السوداء.
ويقرر الفارس أن يتحدى الموت، ويستدرجه لكي يلعب معه الشطرنج
على أن يعفيه من الموت إذا ما تفوق عليه في اللعب. ورغم معرفته بنتيجة تلك
المراهنة مسبقا، إلا أنه كان يسعى لكسب الوقت، للهو بفكرة الموت بل وبالموت
نفسه كأفضل وسيلة لكسب الحياة: أليست الحياة عبارة عن هروب مؤقت من الموت!
تزوج
برجمان بعدد من الممثلات
يصطحب الفارس تابعه في رحلة يشاهدان خلالها كيف يتهم القساوسة
امرأة بالتهمة الشهيرة أي السحر، ويحملونها مسؤولية انتشار الطاعون، ثم
يحكمون عليها بالموت بمباركة رجال الدين، ويرون كيف تحول القساوسة إلى تجار
يسعون للاستفادة من الخوف والذعر، واستثمار الطاعون للحصول على منافع
دينوية.
التابع يتعامل مع الموت كمزحة، وهو رغم الحاده، يعطف على
المحتاج ويتعاطف مع الضحية، أما الفارس فهو مؤمن بإمكانية إنزال الهزيمة
بالموت عن طريق الجمع بين فروسيته وشجاعته البدنية، واليقين الروحي عند رجل
الدين (القس). وعندما يروي للقس كيف يتحدى الموت ويلعب معه الشطرنج يكتشف
أن القس هو نفسه الموت!
يكشف هذا الفيلم، رغم ما يتردد فيه من "تشكك"، عن رغبة برجمان
في الوصول إلى اليقين الروحي، وهو ما سيتضح أكثر فأكثر في أفلامه التالية:
قصة بحثه الشاق عن الإيمان، وعن جوهر فكرة الله.
رحلة
الحياة
في فيلم "الفراولة البرية" نرى عالما في الطب يجمع مذكراته،
ويستعد لحضور حفل لتكريمه بعد 50 عاما من العطاء، إلا أنه يقرر أن يتجه إلى
موطنه الأصلي.
وخلال الرحلة يراجع البروفيسور العجوز حياته في سلسلة من
المشاهد، من الجمال إلى الشر، ومن الرقة إلى العنف، من الطفولة إلى الشباب
إلى الشيوخة، وفي نهاية الرحلة التي تمتلئ بالهواجس والكوابيس والرؤى
الغريبة، يصبح الرجل أكثر تصالحا مع نفسه وأكثر قبولا لفكرة توديع رحلة
الحياة.
تأمل الحياة ومغزاها ومغزى وجودنا فيها تستغرق برجمان في كثير
من أعماله التالية، ففي فيلم "ضوء الشتاء" مثلا يعبر عن تشككه في جدوى
الحياة عندما يجعل قس يقول لرجل يوشك على الانتحار "إننا يجب أن نعيش" فيرد
عليه الرجل متسائلا: ولماذا يجب أن نعيش؟ فلا يجد القس سوى أن يطرق برأسه
ويصمت.
والفيلم بأسره رحلة في البحث عن الله إذا جاز التعبير، فهو
يطرح الكثير من التساؤلات التي تتعلق بفكرة الله، كما يتصورها القس انطلاقا
من مخاوفه الداخلية، ومن آماله وتطلعاته الشخصية. وهنا يتساءل برجمان: هل
الله هو ما نعكسه من ذواتنا، من خوفنا، من داخلنا، أم أنه أشمل من هذا
وأكبر؟
أغوار
النفس
هذه الأفكار المعذبة في البحث عن الله، تمتد للبحث في أغوار
النفس في فيلم "برسونا" الذي نرى فيه كيف تتوقف ممثلة وهي على خشبة المسرح
فجأة عن الأداء تماما، ثم تتوقف عن الحركة وعن مواصلة حياتها وعن الحديث مع
الآخرين وترفض الاستجابة لإعادتها للحياةـ وتكتفي بالتأمل واجترارالماضي.
إنها تتساءل في دخيلة نفسها، عن مغزى هذه الحياة، ألا تتوقف
الحياة بأسرها في لحظة ما، وما الذي نفعله بأنفسنا، ما كل هذه الأدوار التي
نلعبها: الممثلة، الإبنة، الأم، الزوجة، المرأة.. إلخ ماذا لو قرر الإنسان
أن يتخلص من ذلك "القناع" او تلك الأقنعة التي يغيرها بين لحظة وأخرى؟
الأسلوب
السينمائي
أفلام برجمان لا تشبه غيرها من الأفلام، ليس فقط فيما تعالجه
وتطرحه من تأملات فلسفية، بل أساسا في الأسلوب السينمائي المتميز الذي
اعتبر بمثابة سباحة كاملة ضد التيار، ضد تيار الفيلم الأمريكي، الفيلم الذي
يبرر ويمنطق ويشرح العالم ويحل كل المشاكل دفعة واحدة من خلال تلك "النهاية
السعيدة" التي نعرفها جميعا ونسعد بها.
كان
برجمان يقول "السينما عشيقتي والمسرح زوجتي المخلصة"
إن أفلام برجمان - والذين ساروا على دربه- تتعامل مع الصورة،
ليس على المستوى الخارجي من خلال تلك "الشفرة" البسيطة المباشرة التي تقوم
على السببية، وحيث تنساب الصور وتتراكم لتخلق إيقاعا مثيرا إلى أن تنفرج
العقدة، بل هي أفلام ينبع إيقاعها الداخلي الخاص من علاقات أخرى بين الصور
واللقطات وما تولده من أفكار وما تنيره وتكشف عنه من تأملات.
لا توجد هنا "عقدة" أو "حبكة" بالمعنى التقليدي، بل يصح القول
إننا نصطدم بالعقدة من أول لحظة. وهناك أيضا علاقة أخرى مع الصورة: اللقطات
القريبة لليدين والعينين والوجه، والزوايا التي تجعل الممثل داخل المشهد
معزولا يتم التلصص عليه من زاوية ما، أو وكأنه يواجه مصيره في وحدة تامة،
والإضاءة الخافتة التي تخفي أكثر مما تكشف، ومساحات الظلال الواضحة،
والتجسيد الواضح بين الأبيض والأسود (وجه ملاك الموت أبيض شمعي بينما
ملابسه داكنة شديدة السواد)، واستخدام اللون الأحمر (بعد تحول برجمان إلى
الإخراج بالألوان) كمعادل للروح من الداخل، والأزق للموت.
الاهتمام
بالممثلين
ولعل الملمح الأهم في سينما برجمان مساحات الصمت الطويلة في
أفلامه، والحركة البطيئة والمحدودة للكاميرا، واهتمامه الكبير بالممثلين
الذين كان يعتبرهم شركاء معه في العمل وليسوا مجرد أدوات (على العكس من
نظرة فيلليني للممثل كأداة).
ويلاحظ أن برجمان حافظ لسنوات طويلة، من مسيرته السينمائية في
العمل مع مجموعة ثابتة من الممثلين على رأسهم بالطبع الممثل الكبير ماكس
فون سيدو الذي أصبح يجسد برجمان نفسه، ثم خرج إلى العالم وأصبح من مشاهير
السينما الأمريكية أيضا.
وكان برجمان يولي اهتماما خاصا لعمل الممثل، ويترك له حرية
التفسير والتجسيد، يتعايش معه ويتبادل معه الأفكار، ويعرف أدق شؤون حياته
وما فيها من معاناة ومصاعب. وقد ارتبط بعدد من الممثلات، وتزوج منهن أيضا،
بيبي أندرسون وهارييت أندرسون وإنجريد ثولين وليف أولمان (التي تحولت إلى
مخرجة فيما بعد) .
واستعان برجمان في فيلم "الصمت" بأربعة منهن في الأدوار
الأساسية. هنا نحن أمام امرأة تشرف على الموت بعد أن تمكن السرطان من
جسدها، ترعاها شقيقتاها: الأولى شخصية مسيطرة وقمعية، والثانية ضعيفة
وحسية، وهي لا تثق سوى في الخادمة.
وتسعى المرأة للتصالح مع شقيقتيها، لكن كل تناقضات الماضي
تنبثق، وتندفع الأحقاد القديمة والصراعات الصغيرة والعقد المترسبة، ويحلق
الموت على المكان، وتجد المرأة نفسها عاجزة عن تحقيق التصالح بين شقيقتيها،
وعن رأب الصدع القديم بينها وبينهن، وتسكت الكلمات التي كان ينبغي أن تقال
منذ زمن مضى، وتنبثق صور وخيالات تكرس العزلة أكثر وتجسدها.
هجوم على
برجمان
ورغم الاحتفاء الكبير بالفيلم وبأفلام برجمان من الخمسينيات
حتى الثمانينيات (أخر أفلامه للسينما هو "فاني وألكسندر" (1982)، فقد ظهر
من أخذ يطعنه ويسدد له السهام ويهاجم أفلامه بضراوة.
السينمائي والناقد الفرنسي جان ميتري مثلا اتهم فيلم "الصمت"
بأنه "فيلم مضاد للسينما، أدبي، يحتوي على كل ما ينبغي تفاديه في الأفلام".
والمخرج السويدي بوفيدربرج دعا في بيان أصدره عام 1962 اتهم
فيه برجمان بالترويج لأنماط ثابتة في أفلامه للشخصية السويدية، إلى سينما
سويدية جديدة تتعامل مع القضايا الاجتماعية.
لكن برجمان ظل "أيقونة"، ليس فقط في السينما بل وفي المسرح
أيضا. وكان يقول إنه إذا كان يعتبر السينما عشيقته، فهو يعتبر المسرح زوجته
المخلصة.
وقد أخرج برجمان 50 فيلما روائيا، و أكثر من 100 مسرحية، و15
عملا دراميا للتليفزيون، وعددا من الأوبرات، كما كتب سيناريوهات عديدة
نفذها مخرجون آخرون. وأصدر مذكراته وسيرته الذاتية في كتابين "الفانوس
السحري" (1987) و"أحاديث خاصة" (1996).
إنجمار برجمان كان وجوده كعلامة مضيئة دائما في التكوين الشخصي
لكاتب هذه السطور وعدد كبير من أنباء جيله من المهتمين والدارسين الذين
تحولوا فيما بعد إلى السينما. وهو لا يزال يثير خيال الكثير من شباب
الباحثين عن جوهر هذا الفن وليس الانزلاق على سطحه اللامع من الخارج!