فرحت للصديق المرحوم الاديب المغربي محمد شكري، وللادب والسينما
العربية ، بعد ان شاهدت فيلم " الخبز الحافي" للمخرج الجزائري المتميز
رشيد بن حاج، في مهرجان مونبلييه للسينما المتوسطية حديثا، وكلن فاز
بجائزة " الجمهور " في مسابقة المهرجان الرسمية،وجائزة الشباب.وفرحت
لأن مهرجان القاهرة السينمائي سيعرضه علي الناس، ضمن مجموعة من
الافلام العربية المتميزة ، التي سوف تعرض في الدورة الحالية
" 29 "
، في الفترة من 29 نوفمبر الي 9 ديسمبر..
كنت اخاف علي الرواية الجميلة، التي منعتها الرقابة في بعض الدول
العربية ، وترجمت الي اكثر من عشرين لغة في العالم، وكانت نموذجا لادب
السيرة الذاتية المتحررة، وشهادة علي المجتمع المغربي في فترة تاريخية
محددة.كنت اخاف ان تتحول الي مسخ وعمل مشوه علي الشاشة، كما تحولت بعض
اعمال نجيب محفوظ الروائية مثل " السمان والخريف " ،علي يد ضابط سابق
وسيناريست مصري معروف، تحولت الي عمل سينمائي تافه, بعد ان بدل في
احداث الرواية، ونهايتها ، وحولها الي دعاية للنظام القائم آنذاك،
ووظفها لمصلحته..
من حق محمد شكري ، مجنون الورد ، الذي رشح لجائزة نوبل في الادب مرتين
ان يفرح، لأن " الخبز الحافي " كانت خرساء في الرواية، ونطقت علي
الشاشة.كانت امية ، من دون الصورة، ثم تعلمت بفضل الصورة،اذا الشعب
يوما اراد الحياة, ينجلي الليل والقيد ينكسر، وصارت تقرأ علي الناس, بل
وتريد ان تعلمهم ايضا..
بعد ان نجح رشيد بن حاج في ان يصنع من رواية محمد شكري عملا سينمائيا
بديعا، يشمخ بالرواية, ويمسك بروحها، ونعتبره من انضج ان لم يكن انضح
اعماله علي الاطلاق.من اول " وردة الرمال "89 و" توشيا "93 وحتي "
ميركا" 99..
وظف رشيد بن حاج" من مواليد 1949" المخرج الجزائري المغترب في ايطاليا،
وظف كل حصاد رحلته السينمائية الطويلة بين الجزائر وفرنسا وايطاليا
والمانيا وسويسراالتي امتدت الي اكثر من ربع قرن، وطبخ الرواية علي
نارسينما هادئة لماحة ذكية، وبعيدة عن المباشرة والتقريرية، وصاغ سيرة
محمد شكري في عمل سينمائي جميل وناجح ، ليكون " اسطورة " بيداجوجية
تعليمية ملهمة، لكل الاطفال المشردين الضائعين، الخارجين من حواري
البؤس والامية والفقر، فتزرع فيهم الامل. ودرسا في قيمة العلم
والمعرفة, للخروج من ظلمات التخلف والجهل والضياع ، الي النور.ويتألق
في دور محمد شكري الممثل الفرنسي من اصل مغربي سعيد طغماوي..
ذاكرة الجوع
اذ يصدمنا رشيد بن حاج في اول مشهد من الفيلم بذلك الطفل الذي راح في
مغرب الثلاثينيات يتسول من امرأة فرنسية عابرة، ويمثل محمد شكري" من
مواليد 1935" في الفيلم، الذي كبر في بلد تستعمره فرنسا واسبانيا, وكان
يعيش مع امه وابيه واخيه الصغير، في عشة بائسة ، من الكرتون والصفيح
علي الرصيف. ولايجد الطفل محمد شكري لاطعام اخيه الصغير الذي يصرخ من
الجوع,الا كسرات الخبز الحافي والدجاج الميت الذي يعثر عليه في صناديق
القمامة، خارج اسوار قصور الاسر الفرنسية الكولونيالية الثرية، التي
تسكن الفيلات الفاخرة..
ثم يشاهد الاب يخنق اخيه الصغير، لكي يمنعه من الصراخ من فرط الجوع
والحرمان، حتي يموت بين يديه، ويصير جثة هامدة. عندئذ يصرخ الطفل محمد
شكري ملتاعا من الالم، وهو يلعن البؤس والفقر في كل مكان ،ويكون موت
الاخ مأساة حياته كلها،وجرحا لايندمل.وتتطور احداث الفيلم بعد ذلك، حين
يهرب الطفل محمد شكري من قسوة الاب وجبروته، وينتقل كمراهق من العمل في
مقهي بمدينة فاس، الي بيع الجرائد الفرنسية مع صديقه في مدينة طنجة،
حيث يتعرف علي المومسات هناك، ويكبر وينضج وسطهن. ويسهر علي خدمتهن ,
وينغمس اكثر في الملذات والمتع الحسية، ثم يصادق احد المجرمين، ويلتقي
بصاحبته التي يحبسها في البيت, ويحبها وتحبه، ويفكرا ان يهربا معا,
وتتألق هنا الممثلة الايطالية التي تلعب الدور امام سعيد طغماوي،
وتسحرنا بادائها المتميز..في بؤسها ويأسها..وتجعلنا نصفق لها ولسعيد..
التسجيلي يخدم الروائي
ولكي يمنح الفيلم مصداقيته, ويجعله شهادة تاريخية علي المجاعة، وتلك
الفترة الاستعمارية القاسية التي عاشها المغرب، وتربي محمد شكري في
كنفها، ويؤكد علي ان محمد شكري كان ابنا لتلك الظروف التي صنعته، يطعم
رشيد بن حاج فيلمه " الخبز الحافي " بالعديد من المشاهد التسجيلية
الواقعية التي التقطت للمغرب في تلك الفترة المظلمة من تاريخه قبل
الاستقلال,وتكشف كيف كان الاستعمار في الخلفية احد اسباب تخلف المغرب
وفقره ، و لكي يمهد رشيد بن حاج لظهور حركة المقاومة المغربية،
ومظاهرات المطالبة بالاستقلال في مابعد . تلك المظاهرات التي شارك فيها
محمد شكري اللص الامي ، وبسببها دخل السجن، وتعلم في سن العشرين
القراءةوالكتابة علي جدرانه، علي يد احد المعتقلين من المناضلين
السياسيين المغاربة.لكي يذهب بعد خروجه من السجن، ويعلم الاطفال
المحرومين من المدارس والتعليم في الريف المغربي، ويكون ناقلا لشعلة
العلم والمعرفة الي الاجيال الجديدة ، ويرفض ان ينساق في طريق الجريمة
والفساد والضياع من جديد..
التابع ينهض
يحكي رشيد بن حاج عن طفولة انسان، وتربية محمد شكري في فيلمه، فيحكي عن
تابع ينهض, وبؤس مادي مرعب وروحاني، وامية وجهل يكبلان حركة الانسان في
مجتمعاتنا، ويذكرنا في نهاية " الخبز الحافي " المفتوحة علي الحاضر،
بآخر لقطة في الفيلم داخل مقبرة، بأن المعركة ضد الفقر مستمرة ، حتي
نأخذ من درس محمد شكري عبرة وعظة، ولا نتكاسل عن النضال. وهاهي السينما
ايضا في فيلم رشيد، الذي انصف محمد شكري، تتحول بالفعل الي سلاح ضد
الامية من اجل الانطلاق والتحرر، وتدعو التابع الي النهوض..وهتك حجب
الظلام..والخروج الي نور العلم والمعرفة..
فيلم " الخبز الحافي " الذي يضع رشيد بن حاج علي سكة السينما الواقعية،
التي تمزج بين الروائي والتسجيلي، لصنع صورة تشبهنا، يرشحه لأن يكون
صلاح أبوسيف الجزائر, بلا مبالغة، لو اتيحت له الفرصة، وتوافرت
الامكانيات، والتمويل اللازم، لصنع افلام تنهل من تراثنا وادبنا
وثقافتنا، ولا تأنف من " تعرية " واقعنا ، لكي نتعرف علي ذواتنا ،
ونتصالح مع انفسنا ومجتمعاتنا..
تحية الي رشيد علي فيلمه الجميل الشجاع, وشكرا لايطاليا التي انتجت
الفيلم، بعد ان رفض اصحابه، من أثرياء " العرب " تمويله, وطابت لهم
حفلاتهم وسهراتهم الصاخبة التي لا يبخلون عليها بالملايين. والجدير
بالذكر ان " الخبز الحافي " سيخرج للعرض في باريس في الاسبوع الاول من
يناير2006 فترقبوه لأنه يستحق المشاهدة عن جدارة...
كلام
الصور
·
لقطات من فيلم " الخبز الحافي "
·
المخرج الجزائري رشيد بن حاج