قبل إعلان جوائز الدورة الرابعة لـ "مسابقة أفلام من الإمارات" في العاشرة
من مساء يوم الاثنين الموافق 7 مارس 2005 , كان علي أن أتوجه إلي "المجمع
الثقافي" في الثانية عشرة ظهرا في نفس اليوم, وذلك قبل إعلان الجوائز , لكي
القي محاضرة في القاعة رقم (1) بالمجمع, أقدم فيها قراءة نقدية لأفلام
المسابقة , وهو تقليد جيد وهام, حرص مسعود أمر الله مؤسس ومدير" مسابقة
أفلام من الإمارات " تحت رعاية " المجمع الثقافي " في أبو ظبي, وأمينه
العام الشاعر الإماراتي محمد أحمد السويدي, حرص علي إتباعه والعمل به في كل
دورة, حتى يضمن أوسع احتكاك ممكن بين شباب السينما في الإمارات , والنقاد
السينمائيين العرب المخضرمين, المطلعين علي حركات السينما الجديدة في
العالم, والعارفين باتجاهاتها وتياراتها, وذلك كي ينهل الشباب الإماراتي من
علمهم, ويستفيد من أرائهم وخبراتهم وتجاربهم.حرص مسعود أمر الله علي هذا
التقليد ومنذ تأسيس هذا المهرجان الذي يسميه تواضعا بالمسابقة, وهو يتجاوز
في الحقيقة حدودها, لكي يقدم وفي كل دورة , بل وبخاصة في هذه الدورة
الرابعة التي احتشدت بالأفلام , العديد من التظاهرات الجانبية المصاحبة,
مثل " السينما الشعرية" و بانو راما عربية, و أفلام من "تعاونية عمان
لصناعة الأفلام", وأفلام من مهرجان" كليرمون فيران " الذي يعتبر بمثابة "
كان " السينما القصيرة في العالم , وأفلام بريطانية قصيرة بالتعاون مع
مهرجان أدنبرة السينمائي الدولي, وأفلام من مهرجان "سينيمانيلا" الدولي في
الفلبين, وأفلام أخري غزيرة وعميقة ومتنوعة, حتى بلغ عدد الأفلام المستضافة
126 فيلما من أكثر من 36 دولة! مما شكل وجبة فنية سينمائية دسمة, تتجاوز
يقينا حدود أي مسابقة كهذه " محلية " , لتصنع مهرجانا سينمائيا ناجحا
ومشرفا بمستوي المهرجانات السينمائية العالمية المخصصة للأفلام القصيرة,
ويكفي " المجمع الثقافي " فخرا, أنه وضع بهذا المهرجان الذي يسميه تواضعا
بالمسابقة, وضع اسم الإمارات علي خارطة السينما في العالم, عبر تلك
المهرجانات الدولية المماثلة والمخصصة للفيلم القصير, بأعمال فنية سينمائية
جد متميزة, كشفت عنها تلك المسابقة المحلية الصغيرة, وسلطت الضوء علي مواهب
صانعيها, مثل فيلم " طوي عشبة " القصير المذهل للمخرج الإماراتي وليد الشحي,
وفيلم " جوهرة " الإنساني الرائع للمخرج هاني الشيباني وغيرها. و هنا نص
هذه المحاضرة التي قدمت من خلالها قراءة نقدية لأعمال الدورة الرابعة
المنعقدة في الفترة من 2 إلي 7 مارس 2005:
* * * * * * * * * *
رن هاتف الفندق في غرفتي.قمت مذعورا, وكأني خارج للتو من كابوس مرعب.رفعت
السماعة, وإذا بها زوجتي تسألني: كيف حالك ؟. أرجو أن تكون سعدت بزيارتك
الأولي هذه إلي أبو ظبي. كيف هي؟. قلت لها: ناطحات سحاب شاهقة, وجدران من
الاسمنت المسلح, تبدو كما لو أنها زرعت في هذا المكان, ويخيل إلي أنها
عمارات " اصطناعية" صنعت في مكان ما, ثم حملت إلي هنا, ونصبت علي الشاطيء.
لم تسمح لي ظروف مشاهدة الأفلام, أكثر من 138 فيلما, بأن التقي بأناس من
أبو ظبي كي أتحدث معهم. وأتعرف إليهم . إن فكرتي عنهم أنهم أناس طيبون جدا
ومتواضعين.الإمارات وفرت فرص عمل وحياة كريمة ل" شعوب " من المهاجرين,
ولأول مرة شاهدت المرحوم الشيخ زايد في أحد الأفلام, وسمعته يقول أن من
واجب المسلم , أن يساعد أخيه المسلم. في اليوم التالي علي وصولنا, ذهبت مع
بعض الأصدقاء إلي" المجمع الثقافي", علي بعد خطوتين من الفندق, الذي يديره
الشاعر الإماراتي محمد أحمد السويدي.انه صرح ثقافي رائع حقا, وكم أتمني أن
تكون هناك صروحا كهذه في بلادنا, تهتم بالتعريف والمحافظة علي تراثنا, ثم
إننا وتجولنا في شوارع أبو ظبي الخلفية, وعبرنا جسرا حجريا يطل علي ميدان
كبير, تصطف علي جانبيه ناطحات السحاب العملاقة, وتذكرت علي الفور شوارع حي
" مانهاتن " في نيويورك, من دون الصخب والضجيج المعهودين, وسيارات الإطفاء
التي تقطعها كالعادة, وهي تزأر مع الريح. وعلي امتداد البصر كنت أري السماء
الصافية, فافتح صدري علي الهواء الطري الطازج كي استنشقه حتى النخاع, وأعب
من دفء الشمس العفية في أبو ظبي.كان هناك عدد قليل جدا من الناس يسيرون في
الشارع , اغلبهم من الهنود والباكستانيين, وكان أصحاب المدينة ينطلقون في
سياراتهم الفارهة, ويتوقفون فقط عند إشارات المرور.عبرنا الجسر إلي " السوق
القديم ", واختلطنا بالناس والزحام.بعد ذلك ذهبنا إلي البحر, وتفرجنا علي
الكورنيش. لاحظت أن الكل يركض هنا. أبو ظبي سوق عمل كبير فقط. تعمل وتعود
متعبا إلي بيتك كي تنام, والحياة هنا سهلة, والعمل متوفر, لكنها دورة رتيبة
حقا ومملة. بحثنا عن مقهى كي نجلس ونطلب شايا وندخن سيجارة ونستمتع بذلك
الطقس المشمس العفي, ونتواصل بالكلام, فلم نجد..
قالت" أريد أن أطمئنك علي أن الأولاد بخير.لكن ماذا عن المهرجان وكيف وجدت
أفلام المسابقة ؟.قلت لها أن أفلام المسابقة أتعبتني.أنهكتني.نشفت ريقي.كنت
أتحرك مثل "المكوك" من غرفتي في الفندق إلي " المجمع الثقافي رايح جاي.في
الدورة الرابعة 138 فيلما إماراتيا.المسابقة ضربت الرقم القياسي في عدد
الأفلام المشاركة إلي جانب 126 فيلما مستضافا من 36 دولة, لكن هل تقاس قيمة
المهرجانات بعدد الأفلام , أم بنوعية الأفلام المختارة, وفتح أبواب النقاش
والحوار؟.إن كل ذلك بالطبع يحتاج إلي وقت, والمهرجان لم يوفر " فرصة "
اللقاء هذه, حيث أن ماكينات العرض لم تكن تتوقف عن الدوران في " المجمع
الثقافي ", إلا عبر استراحات قصيرة, لاتسمح أبدا بالتعرف علي مخرجيها,
والحوار معهم وتبادل الآراء.كانت ماكينات العرض تدور, وتقصفنا بأفلامها من
العاشرة صباحا والي منتصف الليل, وحتى في تلك الرحلة البحرية التي نظمها
المهرجان, كانت محطات التلفزيون تتخاطفهم, فكنا نتبادل التحية معهم من بعيد
لبعيد..
إلي أي ثقافة ينتمي هؤلاء الشباب ؟
·
كيف وجدت أفلام المسابقة؟
- معظم أفلام الطلبة المشاركة في المهرجان مع بعض الأفلام الأخرى كانت
تحكي, أعوذ بالله, عن الجن والعفاريت والأشباح والمساخيط وتحضير الأرواح,
وتنساق إلي تقليد أحط نماذج أفلام الرعب الهوليوودية من نوع الجورGORE
المخيفة, وأفلام العنف المجاني الأمريكية.إن تلك
الأفلام الأصلية كما تعرفين, تشبع حاجة لدي متفرجين أمريكيين في الأساس من
نوع خاص, وإرضاء نزوات عنصرية فاشية, وهي إفراز لمجتمعات غربية استهلاكية
فقدت الروح, ويمكن أن تكون كما في فيلم " طارد الأرواح " الذي يحكي عن بنت
يتلبسها الجن, يمكن أن تكون مرضا نفسانيا مثل الصرع, نتيجة التفكك الأسري
في تلك المجتمعات, لكن السؤال المطروح هنا هو: هل يمكن أن يكون هذا النمط
من الأفلام, نوعا من الهروب من هذا " الانفجار " العمراني العرمرم, وحضارة
الاسمنت, إلي الخرافة واللاعقل؟ هل هو نكوص, وعودة إلي الخلف, وهروب إلي
أحضان الدين؟ وهل يمكن اعتبار ناطحات السحاب هنا مثل جني لحراسة كورنيش أبو
ظبي؟ وكمثال علي هذا النوع: فيلم " اغمضي عينيك" لأحمد عبد المجيد بلوكي من
الجامعة الأمريكية بالشارقة, الذي يحكي عن سفاح عبر قصة إثارة وغموض, ومن
نفس الجامعة يأتي فيلم " التقمص " لعلاء محمد, وهو فيلم " فكري " كما يقول
مخرجه, ومبني علي واقعة جريمة, والتركيز أساسا علي مقتل " سام " الذي كان
مغرما بفتاة تدعي " نيكي " والتي بدورها كانت علي علاقة بتاجر مخدرات أسمه
" جيم ", وكذلك فيلم " جني , حقيقة أم خيال, لخديجة الخاجة, ويحاول الإجابة
علي سؤال ما الفرق بين المصر وع بالجني, والمصر وع طبيا! هل هذا هو الأمر
الذي يشغل بال الناس والشباب الإماراتي, في الوقت الذي نتابع فيه أخبار
الحرب والموت والدم المراق في العراق, ويجري فيه تشييد جدار العار في
فلسطين, وينظر إلي العرب في العالم علي أنهم إرهابيين, ويخرج فيه الشباب
اللبناني للاحتجاج علي الاحتلال السوري مع استمرار الحرب في العراق ؟. ثم
تأتي هذه الطالبة الإماراتية " نائلة الحاج" كي تتحفنا بفيلم آخر بعنوان "
اكتشاف الإمارات " تصطحب فيه صديقا ألمانيا, لكي تفرجه علي الإمارات
وحضارتها, وتعلق علي الفيلم مثل " شماعة " سياحية, إعلانات لفنادق 10 نجوم,
وماركات ساعات وأزياء وعطور, وتبدو في الفيلم كما لو كانت " تتسول " من هذا
الفتي الألماني الأشقر الغر إعجابه وانبهاره, وكأن الإمارات بحاجة إلي
اعتراف العالم الأوروبي والخارجي بها, حتى يعيد إليها هذا الاعتراف توازنا
مفتقدا, وثقة بالنفس.إن هذه الأفلام تثير سخرية وتهكم الأجانب, وتجعلهم
يضحكون علينا. ومن نفس الجامعة الأمريكية في الشارقة, يأتي أيضا الفيلم
الشهير " ذنب فأرة " لمنيرة الدوسري ومريم الصباح, ليحكي عن معركة " أدمغة
" بين فتاة وفأرة, وتنتهي بانتصار الفأرة وموت الفتاة. ومن نفس الجامعة
الأمريكية أيضا في الشارقة يأتي فيلم " السرقة" لسامي صفدي, الذي يحكي عن
جريمة سرقة تواجهها الكثير من المشاكل, وهو يأخذ الكثير من الأمريكي
كوينتين ترانتينو, وبخاصة من فيلميه " كلاب المستودع " و" رواية بوليسية
شعبية "PULP
FICTION
و الفيلم الأخير كما نعرف حصل علي " سعفة "
مهرجان " كان " السينمائي الذهبية لتجديده في " النوع ", ولم يكن مجرد
مزحة.
إلي أية ثقافة ينتمي هؤلاء الشباب الذي يتكلم بالإنجليزية, ويعيش بأسلوب
الحياة علي الطريقة الأمريكية, وكيف له أن يصنع سينما الغد في الإمارات,
وهو لا يقف علي أرضية الوعي بمنجزنا الحضاري وتراثنا وثقافتنا وتاريخنا,
الوعي بما أنجزته السينما العربية, والإضافات التي حققتها في التعبير عن
مجتمعاتنا, وصنع " صورة " تشبهنا ؟. " أفلام من الإمارات " هل هي أفلام أم
سموم ؟..
·
يا زوجي.لاتكن حنبليا , اترك الأولاد والبنات يجربون في مدارسهم ومعاهدهم
الأمريكية في الإمارات.من يدري, ربما صار أحدهم والله أعلم " نابغة "
سينمائية فذة, و أشهر من " سبيلبيرغ " أو " جورج لوكاش ", ونسمع قريبا أن
الإمارات , تصدر أفلاما أمريكية إلي أمريكا, وتغرق بها السوق المحلي..
- هذه أفلام لا تستحق أن يطلق عليها هذا الاسم, والسينما منها براء.سميها
خزعبلات, شخبطات, تمارين مدرسية عقيمة, هلوسات أو أوهام. ان معظمها يجب أن
يلقي به في سلة مهملات.إنها مجرد " شرائط فيديو منزلية " مسطحة وبلا عمق ,
وأفضلها ربما يجد طريقه الي بعض المحطات التلفزيونية العربية, التي اعتادت
علي قصفنا بكل ماهو تافه وبائس ومبتذل, حتى صرنا غرباء في أوطاننا..
·
من فضلك لا تقسو هكذا علي الأولاد. رحمة بالطيور الضعيفة.إنها مازالت هشة
سهلة الكسر, وربما كانت أرق من المطر.كن متسامحا معهم..
- كيف وقد أنهكوني بهذه التفا هات التي تثير الشفقة, وجعلتني مسكونا بالرعب
والجن والعفاريت, لقد مروا بعملية "غسيل مخ " , ولبسوا "طاقية أمريكا" ..
شرائط لا تحترم إنسانية صانعيها
·
ماهي بالتحديد مآخذك علي
أفلامهم؟
- قلت لك أنها مجرد " شرائط فيديو " منزلية, يبدون فيها فخورين جدا جدا
بأنفسهم, وكل تلميذ" خايب" فرحان بنفسه في الفيلم.هذه " شرائط منزلية " لا
تصلح إلا للعرض في البيوت كي يتفرج عليها الأقارب و الأهل ويصفقوا
لأولادهم, ولايمكن قبولها في مسابقة أو مهرجان, وكان الأفضل في رأيي أن يضم
قسم خاص أفضلها, بعد عملية اختيار وتصفية , وترحل الأفلام الممتازة منها
للمشاركة في المسابقة مع أفلام المحترفين, مع استبعاد شرائط الفيديو كليب
تماما من المسابقة. واليك مآخذي علي أفلامهم, أقصد شرائطهم:
* أولا: إنها شرائط لا تحترم إنسانيتهم, وتحيلهم إلي مساخيط, بلا هوية,
وقد سقطوا علينا من حالق.من كوكب هوليوود, وأفلام المطاردات والإثارة
والرعب والعنف المجاني, والولع بالإبهار البصري, ومتبلات الفيلم الأمريكي.
وليست القضية هنا محاكمة الفيلم الأمريكي او السينما الأمريكية , بل قضية
خيارات, بمعني أن أمريكا كانت دائما أمريكا ذات الوجهين.أمريكا ابراهام
لينكولن محرر العبيد والشاعر العظيم والت ويتمان ومارتن لوثر كينج, امريكا
العدالة والحرية والديمقراطية ودوس باسوس ولانجستون هيوز, ثم أمريكا
ماكارثي وجورج بوش. هل نأخذ من أمريكا ستيفن سبيلبيرغ " قائمة شندلر "
وجورج لوكاش " حرب النجوم " أم نأخذ مارتين سكورسيزي " سائق التاكسي "
وستانلي كوبريك " القتلة " وأوديسة الفضاء " وروبرت التمان ؟. ان سلطة
هوليوود ألكبري لم تكن أبدا سلطة الاستوديوهات, أو سلطة الميلودراما
والمبالغات العاطفية, أو سلطة الأغراء عبر جسد جريتا جاربو أومارلين ديتريش
أو آفا جاردنر أو مارلين مونرو أو كيم نوفاك , لكنها كانت سلطة " الوجه
الإنساني " بتعبيرات الألم والشجن, الذي ظهر لأول مرة علي الشاشة في
تعبيرات وجه ماري بيكفورد في أفلام الامريكي دافيد جريفيث .عندما ظهر فجأة
ذلك الوجه علي الشاشة, وأستولي في التو علي أرواحنا, وعن طريق هذا الوجه
الانساني, غزت أمريكا العالم بأفلامها.
* ثانيا: إن " فن " السينما في الأساس يعتمد علي " ألحكي " بالصورة, وينفر
من الثرثرة والكلام, وهذه هي أول أبجديات هذا الفن الذي يعتمد علي "
التلميح " وليس " التصريح " والزعيق والصراخ والهتافات والموسيقي المدوية
مثل خبط الحلل, غير انه في معظم الشرائط التي عرضت في " مسابقة أفلام من
الإمارات ", كانت " الصورة " تأتي دائما في المؤخرة, ولا تظهر إلا بعد
مقدمة موسيقية زاعقة مجلجلة تهتز لها جنبات المسرح الكبير في " المجمع
الثقافي ", وهي تندفع مثل شلال هادر يكتسح أمامه أعتي الصور, والسؤال
المطروح هنا هو : هل كان بالامكان أنجاز هذه الشرائط من دون موسيقي أو كلام
؟. كلا. فقد كان كل فيلم يبدأ بموسيقي زاعقة مجلجلة, فيجعلنا من الوهلة
الاولي ننطرح ارضا , فيدوس علينا مثل وابور الزلط, ويزهق أرواحنا, ..وكنا
في كل مرة نصرخ ونحن نرفع أيدينا إلي السماء إن يارب ارحم, وتعدي الفرجة
علي هذه الشرائط الصاخبة علي خير. لكن عندما كان ينتهي الشريط, وتهبط أسماء
العاملين فيه علي الشاشة, كنت تحسب من فرط المبالغة والتهويل في كتابة
أسمائهم, بالبنط الكبير العريض, أنك شاهدت " ملحمة " سينمائية خالدة مثل "
تيتانيك " , فقد كانت الأسماء التي تهبط علي الشاشة تحقنك بجرعة كبيرة من
الوهم بأنك شاهدت فيلما رائعا مثل " كوفاديس " او" الوصايا العشر " لسيسيل
بي دوميل او " المصارع " لريدلي سكوت مثلا, في حين تكون قد شاهدت في
الواقع شريطا تافها سخيفا, حتى ان الغالبية العظمي من هذه الشرائط العقيمة
بدت لنا كما لو كانت " مزحة ", ومجرد " حبال موسيقية " علقت عليها بعض
الصور, ثم تعال وانظري هذا البذخ الفاحش في الصرف علي أفيشات وملصقات هذه
الشرائط , التي تصور كل شريط كما لوكان " ملحمة " سينمائية لكل العصور,
ولن يجود الزمان أبدا بمثلها. هذه الملصقات التي وقف المخرج العراقي باز
البازي الي جواري يتأملها, ثم راح يخبط كفا بكف ويردد مندهشا ان تكاليف صنع
ملصق واحد من هذه الملصقات, كان يكفي لانتاج فيلم تسجيلي مثل فيلمه " أين
العراق ؟ " الذي عرض في تظاهرة " بانوراما عربية " علي هامش المسابقة!
* ثالثا: إن بعض هذه الأفلام طغي عليها طابع الوعظ والإرشاد, فجاءت اقرب
ما تكون إلي المنشورات والإرشادات المرورية والطبية والأخلاقية , للتحذير
من مخاطر السرعة علي الطريق, والإدمان علي المخدرات, وشم الهيروين, ومرض
الايدز, مثال ذلك فيلم " غير مؤمن " لمنيرة الدوسري, الذي يصور فتاة تحاول
أن تمضي يومها, بينما ينتابها شعور بأن شبح ما سيتلبسها, بسبب الآثام التي
ارتكبتها. أن هذه النماذج تشير إلي عدم وجود أي فكرة, أو تصور, عن عمل
وماهية السينما, إلا من خلال هيمنة النموذج الأمريكي الكاسح في أحط نماذجه,
كما تكشف عن قطيعة تامة مع تراثنا السينمائي العربي علي مستوي الأفلام
القصيرة لرواد هذا الفن في أعمال عبد القادر التلمساني وصلاح التهامي وسعد
نديم وشادي عبد السلام وعلي الغزولي وهاشم النحاس وسميحة الغنيمي وداود عبد
السيد وخيري بشارة وغيرهم, واعتقد أن من واجب " مسابقة أفلام من الإمارات "
عرض نماذج من هذه الأفلام, والتعريف بتراث الفيلم القصير العربي والعالمي,
وعرض كلاسيكيا ته الرائعة. أن هذه " الطاقة الإبداعية الشبابية الإماراتية
" التي كشف عنها المهرجان, لن تضيع هباء, إذا تأسست علي بعض المنطلقات
الأساسية: إن " اعرف نفسك " أولا.اعرف تاريخك.ثقف نفسك بتراثك وحضارتك,
وبالقراءة أولا, ومعرفة أسرار وجمال اللغة العربية , لغتنا أولا التي نتحدث
بها, وتمثل الوعاء الفكري الذي نقدم به, ونعبر من خلاله عن أفكارنا, وقيمنا
وتقاليدنا, كي نصنع صورة تشبهنا و نتواصل من خلالها مع العالم, ونكتسب
احترامه, وذلك قبل أن نتعلم ألف باء السينما. إن الجهل بهذه اللغة, التي
تسخر منها جهارا مقدمات البرامج الشقراوات التافهات علي شاشات التلفزيونات
العربية , ويستهزأ ن بها, يعتبر في رأيي وصمة عار في جبين ذلك "الوباء"
الذي صار ينشر سمومه عبر الشاشة الصغيرة داخل بيوتاتنا العربية, ويلحس دماغ
عيالنا, حتى صاروا مسخا داخل بلادهم وأوطانهم.
* المأخذ الرابع: في معظم أفلام المسابقة ( طلبة وعام ) بدا لي أن الشباب
الإماراتي لا يعرف ماذا يصنع بحياته, وتعبر بطلة احدي هذه الشرائط عن هذه
الحالة العامة بقوة فتقول بالإنجليزية: أنا لا اعرف ماذا أصنع بحياتي,
واخشي أن افتح عيني فإذا بي أري هذا الكابوس الماثل أمامي..
"I
don’t know what to do with my life,and I am afraid to wake up to see the
nightmare . لا يكفي اللعب بتقنيات السينما بهذا الشكل
الساذج الذي جعل من جل هذه الشرائط مجرد " مزحة "
a joke أو قفشة. السينما ليست التصوير كما في جل
مسلسلاتنا العربية الثرثارة التي تعج بالكلام و" الرغي " و قرفنا منها
وتكرارها. السينما ليست أن نتعلم كيف نصور بالكاميرا. إنها سحر الاستكشاف
والدهشة واختراع النظرة , وينطبق عليها قول الشاعر الإنجليزي العظيم ت.اس.اليوت
حين يقول : " إننا لن نتوقف أبدا عن الاستكشاف, وسوف تكون نهاية
استكشافاتنا أن نصل إلي المكان الذي انطلقنا منه , لكي نتعرف عليه للمرة
الأولي "..
We shall never cease from exploration, but the end of our exploring will
be to reach where we have started, to know the place for the first time
.
علينا أن ننطلق إذن من هنا, من أرضنا وبيئتنا والأرض التي نقف عليها , لا
من شيكاغو أو بوسطن او هوليوود . وأورسون ويلز المخرج الأمريكي الكبير,
عندما أنجز فيلمه العبقري " المواطن كين " لم يكن يفهم في التكنيك, ومع ذلك
صنع أحد أفضل عشرة أفلام في تاريخ السينما العالمية. المهم ماذا تريد أن
تقول بهذا التكنيك, فليس المهم في السينما, كما يقول المخرج الهولندي
التسجيلي العظيم جوريس ايفانز, معرفة طول وعمق النهر, المهم معرفة إن كانت
الأسماك فيه سعيدة. إن القيمة الأساسية في السينما تكمن في أنها " أداة "
تفكير وتأمل في مشاكل ومتناقضات مجتمعاتنا الإنسانية, ومعرفة ان كنا سعداء
أم غرباء فيها. إنها تساعدنا علي اكتشاف أنفسنا والعالم من حولنا, والوظيفة
الاسمي للسينما أن تقف ضد الظلم, وتخريب الحياة, وظيفتها أن تسمو بحياتنا
الروحانية, وتقربنا أكثر من إنسانيتنا. ومن هذا المنطلق أحببت وتحمست في
مسابقة أفلام من الإمارات للعديد من الأعمال الفنية الجيدة, وأرشحها للحصول
علي جوائز, في حفل توزيع الجوائز هذه الليلة, وهذه الأفلام هي:
·
فيلم " الفستان " للمخرج عبد
الله حسن أحمد
·
فيلم " الغيث " للمخرج فاضل
سعيد المهيري
·
فيلم " سمو الفعل " للمخرج عبد
الله حسن أحمد
·
فيلم " الحلاق " للمخرج خالد
المحمود
·
فيلم " آمين " للمخرج عبد الله
حسن أحمد
·
فيلم " عناوين للموتى " للمخرج
وليد الشحي
·
فيلم " قهوة وبرتقال " للمخرج
أمجد أبو العلاء
·
فيلم " العزب " للمخرج أحمد زين
·
فيلم " الموت للمتعة " للمخرجة
ندي محمد الكريمي
·
فيلم " هذه الحياة العاملة "
للمخرجة نورة أمين
اشكر ككم علي حسن الاستماع, واشكر الأستاذ مسعود أمر الله مدير المهرجان
علي دعوتي لحضور مسابقة أفلام من الإمارات, وتقديم هذه القراءة النقدية
لأعمال الدورة الرابعة.
* * * * * *
خاتمة
قدمت هذه المحاضرة في الثانية عشرة ظهرا يوم الاثنين 7 مارس, واستمرت بعد
المناقشة مع الجمهور حتى الواحدة والنصف. في ذات اليوم, أعلن المخرج
المغربي محمد عسلي في العاشرة مساء, وبعد عرض فيلم " حلم " لهاني الشيباني
مباشرة, أعلن عن جوائز المسابقة, وكانت لجنة التحكيم التي ترأسها, انتهت من
إعمالها قبل بداية المهرجان, وسلمت مسعود أمر الله قائمة الجوائز, وظلت
سرية وحتى هذه اللحظة, ولا يعلم أحد بأمرها سوي مسعود , الذي نجح في
الحيلولة دون تسربها إلي الخارج, حتى لاتفقد المسابقة جديتها واحترامها
ومصداقيتها, كما انه لم يتدخل أبدا في عمل اللجنة. أعلن محمد عسلي عن
الجوائز, ففاز فيلم " الفستان " بجائزة أفضل فيلم, وحصل فيلم " الغيث " علي
جائزة أفضل سيناريو, وحصد فيلم " سمو الفعل " علي جائزة أفضل فيلم تسجيلي,
وصدقت توقعاتنا, وحصدت 3 أفلام من ضمن ترشيحاتنا علي ارفع جوائز المهرجان.
مبروك للفائزين, وتمنياتنا لمسابقة أفلام من الإمارات, الضرورية, بالتوفيق
والنجاح والازدهار في دوراتها المقبلة.