عادةً، تحظى الأفلام الروائية الطويلة على إهتمام الصحفيّين والنقاد،
تقديماً، نقداً، وتحليلاً، وتمتلك الأفلام الروائيّة القصيرة حظوظاً أقلّ،
تليها الأفلام التسجيليّة، بينما يندر أحدٌ الكتابة عن السينما التجريبيّة،
والتي بدأت تجد لها مكانةً مُتميّزةً في معظم المهرجانات السينمائية
العالمية.
ولهذا، فإنني اليوم، أنتهز الفرصة كي أتحدث عن بعضٍ
الإنتاجات العربية الجديدة، والتي عُرضت بمناسبة الدورة الرابعة لـ"مهرجان
الفيلم العربيّ" في "روتردام" (من 2 إلى 6 يونيو)، وسوف يُعرض الكثير منها
في الدورة السابعة لـ"بينالي السينما العربية" في "باريس" (من 26 يونيو،
وحتى 4 يوليو).
السينما العراقية المُهاجرة
"الحرب" (إنكلترة) فيلمٌ روائيٌّ قصيرٌ جداً لمخرجٍ عراقيٍّ شاب، >محمد
الدرّاجي<، وهو في لقطةٍ مُتواصلة بطول 4 دقائق، يختصر زماناً طويلاً،
ومكاناً مُمتداً، من مجوعة أطفالٍ يعيشون لهوهم اليوميّ في حديقةٍ ما، إلى
أبٍّ يودّع إبنه وزوجته، ويذهب للحرب، وفي آخر الفيلم، يعود رفاقه بدونه.
فكرةٌ مُكثفةٌ، ومُركزة، مثل إعلانٍ ضدّ الحرب، أيّ حربٍّ، ذهابٌ وإيابٌّ
في لقطتيّن، مثل الحياة والموت، إمتزجتا كي تُوهما المتفرج بإستمراريتهما
في لقطةٍ واحدة، وفيهما يعتني المخرج بشريط الصوت، في المزج مابين مرح
الأطفال، والإعلانات الرسمية عن الحرب، والتي تمّ إبطائها بشكلٍ متعمدّ،
لانفهم تفاصيلها، ولكننا نشعر بتأثيراتها.
وبدون عناء، يكشف شريط الصوت عن إمكانية التحايل على تكاليف باهظة في تنفيذ
مشاهد الحرب، والإستعاضة عنها بمجازيّة مفردات اللغة السينمائية.
"محمد الدرّاجي" يقدم نفسه كمخرجٍ ومدير تصويرٍ للفيلم، ويكشف مُسبقاً عن
موهبةٍ واعدة.
"خليل شوقي، الرجل الذي لايملّ" (إنكلترة) للعراقيّ "قتيّبة الجنابي" الذي
أنجز قبل ذلك أفلاماً روائيةً قصيرةً، ومُتميزة.
هذه المرّة، يقدم فيلماً تسجيليّاً ينطلق من الضرورة القُصوى لتصويره مع
"خليل شوقي"، في محاولةٍ متواضعة لتكريمه، وإعادة الإعتبار له كممثلٍ،
ومخرجٍ عراقيّ رائد، وهو اليوم يعيش في مدينة "لاهايّ" الهولندية (منفاه)،
وتلحقه الكاميرا لتُسجل زيارته إلى "لندن"، وتقديمه عملاً مسرحيّاً من
إخراج المسرحيّ العراقيّ "د.عوني كرومي".
يحكي التعليق، ويُلخص حياة "خليل شوقي"، وفي شريط الصورة نتابع يوميات
هجرته الرتيبة، الهادئة، ولكنها المشحونة بالذكريات، والحنين، والآسى.
"صائد الأضواء" (الدانمارك) لمخرجه العراقيّ "محمد توفيق" يقدم فكرةً
جديدةً وجديّة، ولكنها ثقيلة الظلّ في معالجتها.
"مُحسن"، الشخصية الرئيسية، يتحدث مع نفسه في معظم مشاهد الفيلم، وهو يتجول
في أرجاء بيته، لقد طلب منه المخرج بأن يُطيل لحيّته، ليقدم لنا "محمد
توفيق" فيلماً داخل الفيلم، يتأمل "مُحسن" أصحاب اللحى الطويلة، في أرشيف
الأنترنيت، كما في الشوارع، ولا يتوقف عن الحديث مع نفسه، واللقاء مع صديقه
في إحدى الساحات العامة، وشرحه له الهدف من تطويل لحيته يبدو مُفتعلاً لشرح
الفكرة الفيلم نفسها.
ومع ذلك تتكشف لنا مقتطفاتٍ من حياة أحد المهاجرين في منفاه، أسلوبٌ
تسجيليٌّ ليس غريباً عن "محمد توفيق".
"رحلةٌ إلى العراق" (ألمانيا) من إخراج "كمال الجعفريّ"، فيلمٌ تسجيليٌّ
قصيرٌّ تدور معظم أحداثه الساكنة أمام -وبالقرب- من "الخطوط الجويّة
العراقية" في "جنيف" بعد سقوط نظام "صدام حسين"، تتأمل الكاميرا مكاتب
فارغة، مهجورة، محطمّة الأثاث، تُحيطها السياج الحديدية المُتحركة.
ويتكوّن الصوت من إنطباعات، وذكريات العابرين، والجيران عن هذا المكان
الإسطوريّ، بالإضافة للمؤثرات الطبيعية الموجودة في الشوارع المُجاورة.
لقطاتٌ ثابتهٌ، طويلةٌ زمنياً، وعينٌ سينمائيةٌ، دقيقةٌ، مُتأملةٌ، وصبورة،
في فيلمٍ يقدم تشريحاً مكانيّاً يتواكب تاريخه مع أحداث العراق.
السينما السعودية
"هيفاء المنصور"، هي أول مخرجةٍ سينمائيّة سعودية، ولهذا، سوف نقرأ عنها
الكثير، ولن تجد عناءً في عرض أفلامها القصيرة، هنا وهناك، وتسليط الأضواء
عليها.
وبمعرفتها عن قرب، فهي تُسقط كلّ الأفكار المُسبقة عن المرأة السعودية،
بدون أن تُمثل حالةً عامّةً، إنها تمتلك وضعاً "إستثنائيّاً" في مجتمعٍ "إستثائيّ".
وفيلمها "أنا والآخر" الذي يستوحي عنوانه، وأحداثه من تفاقم التطرف
الدينيّ، وضرورة الحوار مع الآخر، تلك التي فرضتها تفجيرات 11سبتمبر
2001.
وفيه تقدم وجهات نظرها بإقتران المباشرة مع الإسقاطات الرمزية، فالوطن
بالنسبة لها سيارة تعطلت في منتصف الطريق من صحراءٍ شاسعة، وفيها ثلاثة
أشخاصٍ يمثلون -برأيها- المجتمع السعوديّ(والعربيّ بشكلٍ عام)، ويعبّرون عن
أفكارٍ مختلفة : المُتدين، العلمانيّ، والوسط بينهما.
لقد صورت "هيفاء المنصور" فيلمها في مكانٍ واحدٍ، خلال زمنٍ يمتدّ من
النهار إلى الليل، ومن ثم النهار من جديد، وخلاله، تدور محادثةٌ طويلةٌ
بينهم، حوارٌ تقريريٌّ، وإتهاماتٌ مُتبادلة، ولاتخفي "هيفاء" أفكارها خلف
الشخصيات، فهي تشارك في الحلّ على طريقتها : >الوسط< يقود السيارة
المُتعطلة/الوطن، و"الُمتديّن" و"العلمانيّ" يدفعانها.
"هيفاء المنصور" لاتدّعي العبقرية، وهي تريد أن تتعلم، وتكتسب خبراتٍ
إضافية، وتراكميّة، ولهذا، لن يقسو عليها الوسط السينمائيّ(يميناً، ووسطاً،
ويساراً)، وسوف تلقى الدعم، والتشجيع اللازميّن، كي تُكمل مشوارها
السينمائيّ، والحياتيّ مع بعض النقد، والتحليل...
السينما الإماراتية
منذ ثلاث سنواتٍ، بدأت تتكشف في المشهد السينمائيّ العربيّ بدايات >سينما
إماراتيّة<، شابّة، جميلة، وواعدة، "وليد الشحيّ" واحدٌ منها مع فيلمه
الروائيّ القصير "طوّي عشبة".
فيلمٌ شعريٌّ، يُذكرنا بالسينما الإيرانية، وأفلام المخرج التونسيّ "الناصر
خمير"، ولن نُبالغ إذا أضفنا إليهما تأثيرات المخرج الأرمنيّ الراحل "سيرجي
بارادجانوف".
"وليد الشحيّ" يعيّ تماماً تأثيرات أدواته السينمائية، والطاقة الشعرية
الكامنة في الصورة والصوت، ويستعين بممثل هاوٍ، ولكنه مُقتدر بفطريته.
إهتمامٌ بالصورة إلى حدٍّ بعيد، بتكويناتها، ألوانها، أحجامها، تدرّج
ألوانها، وحركات الكاميرا،..وشريط الصوت بكلّ صياغته الجمالية.
مخرجٌ موهوبٌ ننتظر منه الكثير، ومع البعض من السينمائيّين الإماراتيّين،
سوف يمنح "السينما الإماراتية" خصوصيّتها.
السينما المصرية
يتوزّع إنتاج الأفلام الروائية القصيرة، والتسجيلية (القصيرة، والطويلة)
بين عددٍ محدودٍ من المؤسّسات الحكومية، والخاصّة.
ويُعتبر "المعهد العالي للسينما" بالقاهرة، الجهة الحكوميّة الأكثر إنتاجاً
للأفلام الروائية القصيرة، يتبعه "المركز القومي للسينما" بإنتاجه لعددٍ من
الأفلام الروائية القصيرة، والتسجيليّة، ومن ثمّ، بدأنا نلاحظ دوراً مهماً
لـ"قطاع التلفزيون" للقنوات المتخصّصة، والذي قدم أفلاماً ناجحة، ومُبهرة،
كحال الفيلم الروائيّ المُتوسط الطول "ليلي" لمخرجه "مروان حامد".
ومنذ إنتشار الكاميرات الصغيرة (الرخيصة نسبيّاً)، وأنظمة المونتاج
الرقميّة، وجدت السينما التسجيلية، والقصيرة إستقلاليّتها من خلال شركاتٍ
صغيرة، أو تعاونياتٍ قبلت المُخاطرة بإنجاز أفلامٍ مُستقلّة بميزانياتٍ
مُتواضعة، ونظام أجورٍ مُرتقبة، أو مُؤجلة (مايُسمى في أوروبا بنظام
المُشاركة في الإنتاج)، والذي قبل سنواتٍ، ماكان الوسط السينمائيّ المصريّ
يؤمن به، أو يقتنع بفعاليّته، ولكنّ الوقت قد تغيّر.
وجاء "الوقت" لمُخرجه "أسامة العبد" (إنتاج المعهد العالي للسينما)، فيلمٌ
روائيٌّ قصيرٌ، مُتقن التنفيذ- حركات الكاميرا، والمونتاج- ولكنه يحتفظ
بأسلوبٍ سرديٍّ تقليديّ، وبعد الدقائق الخمسة الأولى من أحداثه، يتباطئ
كثيراً في إيقاعه.
وفي بداية فيلم "بُثيّنة" من إخراج "جمال قاسم" (إنتاج مستقلّ)، تدور
النواعير وتئنّ..
وينقلنا الفيلم من "حارة الأربعين" إلى "درب الكاشف" في مدينة "الفيوم"،
ليقدم لنا شخصيةً إستثنائيّةً مُبهرة، إنها "الحاجة بثيّنة"، هاوية مسرح،
ومتمرسةً -ومتمترسةً- به منذ زمنٍ طويل.
"بُثيّنة"، نموذجٌ جيدٌ للسينما المُستقلة، وأيضاَ، تجسيدٌ مبهرٌ للموهبة،
والأداء التلقائيّ الفطريّ، والطاقات التمثيلية الكامنة في كلّ واحدٍ منا،
والتي يمكن أن نجدها عند أشخاصٍ ماكنا نتوقع أبداً بأنهم يمتلكون مثل هذه
الطاقة، يحبونها، ويحترمونها.
هناك تقاربٌ مابين المسرحية، فكرتها، وتنفيذها (أغنية الموت) التي تحضّرها
>الحاجة بُثيّنة< وعائلتها، مع أحوال الحارة، والمدينة، وأهلها، ..كلّ
مافيها بسيط.
حيث تتداخل عناصر الواقع الحقيقيّة مع التمثيل : الديكور، أهل الحارة،
الآذان،00
قبل ذلك، مثلت "الحاجة بُثيّنة" حوالي 120 مسرحية، ومع إبنها "عادل"
المُعوّق، والمُتزوج من "شادية"، ومع "نبيل"، "محمد" ، و"أحمد"،.. من أفراد
العائلة، تنجز عروضاً مسرحيةً "منزلية"، فكرةٌ لم تخطر على بال "أجدع"
مخرجٍ طليعيّ.
وهي تقترب بذلك من حياة الأهالي، وهمومهم،00تتحدث معهم بلغتهم التي تفهمها،
ويفهمونها.
إنها تُذكرنا بـ"ماريا كوليفا"، المخرجة البلغارية المُقيمة في "باريس"،
والتي تعرض أفلامها في بيتها مجاناً.
ولكنني في آخر الفيلم، كنتُ أتمنى بأن أشاهد مرةً ثانية تلك النواعير، وهي
تدور، وتئنّ...
المخرج، والناقد المصريّ "أحمد رشوان"، يمنح - بدون أن يدري- إيحاءً جنسياً
لعنوان فيلمه التسجيليّ "بيروت: أول مرّة".
وليست هي المرة الأولى التي يُحول "رشوان" نزهاته ورحلاته إلى أفلامٍ
سينمائية، ويصورها بكاميرته الصغيرة كما يشاء، مثل أيّ سائحٍ، وفي
المونتاج، يقسّم فيلمه إلى مشاهد، تحمل عناوين مختلفة ترتبط بمحتوى المشهد
نفسه، عناوين فرعية، كما الحال في الكتابة الروائية، وهي كذلك على أيّ حال،
فواصل في نصٍّ مكتوب تُرافق الصورة، والتي بدونها، ربما يفقد الفيلم
تماسكه، ويبقى في حالته التسجيليّة.. السياحية.
عند "رشوان" رغبة دفينة (ومشروعة) بأن يُنجز فيلماً روائياً، ولهذا نراه في
بداية الفيلم يُحضّر نفسه للسفر، ومن ثمّ يجلس على ناصية إحدى مقاهي >شارع
الحمرا<، وهو بذلك لايُسجل رحلته، إنه يحكيها من جديد، هل سبق ذلك
سيناريو جاهز، أم تخلّق السيناريو بعد التصوير، وفي مرحلة المونتاج؟
وعلاقة "أحمد رشوان" مع النقد السينمائيّ تطبع أفلامه بأسلوبٍ أدبيّ
(كتابيٍّ إن صحّ التعبير)، ومع ذلك، فهو يجتهد في تقديم كتابة سينمائية
جديدة، ومُتجدّدة.
المخرجة التسجيليّة المُخضرمة "نبيهة لطفي" (اللبنانية المُقيمة في مصر منذ
دهر) تؤرجحنا في فيلمها التسجيليّ الآخاذ "بقايا زمن، شارع محمد علي" (من
إنتاج المركز القومي للسينما) مابين الحاضر والماضي.
فيلمٌ جميلٌ، ومؤثرٌ يجعلنا نحبّ >القاهرة< مرةً أخرى، ونحنّ للرجوع إليها،
على الرغم من صخبها، ضجيجها، زحمتها، وأبنيتها المُتربة، وحرارة طقسها،..
وعلى الرغم من البناء السينمائيّ التقليديّ للفيلم، أسلوبٌ خاصّ بالمخرجة
حافظت عليه منذ أول أفلامها.
وفي "دردشة نسائية" لمخرجته الشابّة "هالة جلال" (من إنتاج المجموعة
الأوروبية، وأفلام مصر العالمية) نشعر أحياناً بأنها بذلت الجهد الكافي
للبحث، التدقيق، والحصول على مصادر أرشيفية، للحديث عن تحرر المرأة، وتاريخ
الحجاب، وتطوراته في المجتمع المصريّ، ولكننا، في الجزء الأخير من الفيلم،
نشعر بأنها أصبحت كسولة، فتركت شخصياتها تتحدث إلى الكاميرا، أو فيما
بينهنّ.
إننا نرى معظم النساء في بيوتهن جالساتٍ، مُسترخياتٍ، ولايتوقفن عن الحديث
أبداً، والمرأة الوحيدة التي نشاهدها أثناء عملها، هي الخادمة في منزل إحدى
السيدات.
وهذا لاينفي إختياراً تعددياً للنساء التي قدمتهن كنماذج في الفيلم،
ولكنني، كنت أتمنى بأن تخرج الكاميرا إلى الشارع، وأماكن العمل، لتستوقف
النساء في كلّ مكان.
السينما التونسية
"الروح والقلب" لمخرجته التونسية "مُلكة مهداوي" (إنتاج فرنسا)، ٌفكرة
جيدةٌ، ٌوطموحة أفسدتها المُعالجة السينمائية القاصرة، والتبسيطيّة، إذ ّ
لايمكن إنجاز فيلمٍ من تتابع مشاهد لفرقة إنشادٍ صوفيّ، ويتخللها بعض
اللقاءات المُبتسرة، كي يصبح محصلة ماشاهدناه مقتطفاتٍ من تدريبات الفرقة،
وأدائها في أماكن مختلفة، حتى أن المشهد الأخير لحفلة الفرقة في "بيت
ثقافات العالم" في "باريس" قد مسح من أذهاننا كلّ ماشاهدناه مُسبقاً، وبدا
لي، وكأنني أشاهد نقلاً تلفزيونياً مباشراً لتلك الحفلة، وليس فيلماً
تسجيلياً.
لقد سبق للمخرجة بأن قدمت فيلماً قصيراً، وواعداً، ولكنها، في هذه المرة،
وفي أول تعاملٍ لها مع الفيلم التسجيليّ الموجّه للتلفزيون، قد أخفقت في
مشروعها.
السينما اللبنانية
"رماد"، من إخراج "خليل جريج" و"جوانا حاجي توما" (إنتاج لبنان/فرنسا)،
فيلمٌ روائيٌّ قصيرٌ بمعنى الكلمة، تمّ إنجازه بحساسيةٍ مُرهفة، ومُفرطة،
يكاد يظهر بالأبيض والأسود مع أنه صُور بالألوان، ويكاد لايُحكى، إنّه
فيلمٌ للمُشاهدة، والتأمل، والإنخراط في جوٍّ طقسيّ للموت، والعزاء، ..
الوشوشة، والصمت، وبعض المؤثرات هي العناصر الأساسية لشريط الصوت، بينما
تأتي اللقطات الكبيرة، والتفاصيل الصغيرة، لتمنح للفيلم ثراءً لايُضاهى،
إنه فيلمٌ مركبٌّ من المشاعر، والأحاسيس، الإشارات، والحركات البسيطة،
النظرات، والإيماءات.
فيلمٌ مؤثرٌ، يؤكد بأنّ مخرجيّه قادران على إدارة ممثليهم بطريقةٍ بسيطة،
ومُقتضبة، وعلى إختيار إطارات اللقطات، وحركات الكاميرا، وزواياها،00فيلمٌّ
سينمائيٌّ بمعنى الكلمة.
السينما الفلسطينيّة
في الفيلم التسجيليّ الطويل "حصار، مذكرات كاتبة" (إنتاج فلسطين) تُمتعنا
مخرجته "ليانة بدر" بمشاهدة تفاصيل منزلها، فتتحول اللقطات إلى مفرداتٍ
شعرية، ويُذكرنا هذا الإقتران السينمائيّ/ الأدبيّ بأفلام السينمائية
الفرنسية "مارغريت دوراس".
من جهةٍ، يمكن أن نقرأ النصّ (التعليق)، بدون الحاجة لمُشاهدة الصور، وسماع
الأصوات(في الفيلم).
ومن جهةٍ أخرى، يمكن لنا مشاهدة (الفيلم)، بدون الحاجة لسماع (النصّ)
المقروء(التعليق).
ولكن، في "حصار"، .. يتداخل أسلوب الكاتبة، والسينمائية، ويتعانقا،
هوبمثابة تداخل الحياة الشخصية الخاصّة، مع القضية العامّة.
وكم هي جميلةٌ لقطات الأطفال أمام بيوتهم، وهم يلعبون بالطائرات الورقية،
وقبل قليل، مرّت الدبابات والمُصفحات الإسرائيلية، وأعلنت عن منع التجول،
حتى إشعارٍ آخر.
السينما السورية
يقدم الفيلم التسجيليّ القصير "ورد وشوك" لمخرجه "غسان شميط" (إنتاج
المؤسّسة العامة للسينما بدمشق)، فكرةً نبيلةً جداً، تجسّد حال المُسنين
الذين تركهم أولادهم وبناتهم في "دار الرحمة"،.. ولنقل، تخلصوا منهم.
وعلى الرغم من تسجيليّته، لاينقصه الجانب الروائيّ بحسّه الشاعريّ،
وإستخداماته للرموز والإستعارات، إنها حالةٌ من العشق الدائم لها في
السينما السورية.
يتحرك قطارٌ نحو عمق الصورة، ويخرج من نفق، قطار الحياة، وفيه أنماطٌّ
كثيرة من البشر، يسافرون فيه من محطةٍ لأخرى، ومن ثمّ تأتي لحظة الولادة،
وفي آخر الفيلم ينظر أحد المُسنين إلى غروب الشمس،.. غروب حياته.
وبغضّ النظر عن التعليق الذي لاأجد له ضرورةً، لأنّ الصور والحكايات تكتفي
بذاتها، وبغضّ النظر أيضاً عن الرغبة بتقديم مادة متوازنة مابين حكايات
المُسنين عن وصولهم إلى "دار الرحمة"، والأسباب التي دفعت الأبناء إلى
إقصائهم، ونفيهم فيها، يبقى الفيلم مهماً، بتذكره لهؤلاء الذين سوف تنتهي
حياتهم في الوحدة، والنسيان.
ويبدو بأن المخرخ "غسان شميط"، وعلى الرغم من تعاطفه الواضح مع المُسنين،
وحكاياتهم، لايريد أن يؤكد موقفه الأخلاقي، أو ينحاز إلى طرفٍ على حساب
طرفٍ آخر، وإن كنت أرغب بأن يظهر إنحيازه الكامل للمُسنين، ويُدين بشدةٍ
منطق الأبناء في تعاملهم مع آبائهم وأمهاتهم، وأن لاتبقى العلاقة محصورة
بين الآباء والأبناء في تحليل، أو تفسير هذا السلوك، ولكن، التوجّه نحو
الأسباب الأخرى المُتعلقة بالتفكك الإجتماعيّ، والأسريّ، والتدهور
الأخلاقيّ الذي تعيشه المجتمعات العربية.
هذا الجيل الجديد الذي وُلد، وتربى في أجواءٍ من الأنظمة السياسية
المُستبدّة، فلماذا لايستبدّ الأبناء الأقوياء بالمُسنين الضعفاء.
ومع ذلك، يبقى الفيلم مُؤلماً، ومُؤثراً إلى حدّ البكاء...