الجنيه الخامس.. وخمسة مشاهد عن الحياة اليومية
القاهرة/ غادة عبدالمنعم |
فيلم "الجنيه الخامس" هو الفيلم الأول للمخرج الشاب أحمد خالد. وهو فيلم جيد اضطر مخرجه إلى إنتاجه على حسابه الخاص بعد يأسه من الحصول - من أي جهة ثقافية مصرية - على دعم يمكِّنه من إخراج أول أعماله الروائية القصيرة !! وبالنظر إلى الفيلم باعتباره أول عمل لصاحبه، نستشعر أن لدى مخرجه رؤية واضحة وإدراك لطبيعة السينما، وأنه يسعى للتعبير عن نفسه بصدق، وهذه كلها صفات تشير إلى مخرج جاد على أول طريق النجاح. ففى فيلمه الأول يقدم أحمد خالد فكرة بسيطة تتناسب وطبيعة الفيلم القصير، ولا يختار قصة معقدة أو مستغربة ليحاول من خلالها استعراض إمكانيات قد لا تكون موجودة لديه، بل يبتعد عن مجال الاستعراض والادعاء مُركِّزا اهتمامه على الإتقان والتجويد مغلبا الفيلم على مصلحته الشخصية، وهذه هى الصفة الرئيسية فى الفنان الناجح، وهى صفة لا نراها للأسف كثيرا لدى شباب المبدعين الذين يبدأون عملهم برغبة فى تسخير فنهم لعكس صورة ما عن أنفسهم، صورة قد تكون زائفة فى معظم الأحوال لكنها بالنسبة لهم أهم من تقديم فيلم متماسك.. وقد تعبنا من الأفلام القصيرة المُكرَّسة لإبراز خلفية مخرجيها الثقافية ومحاولة إظهار أنفسهم في صورة أدباء - فبينما يكتبون حواراً معقداً لغوياً يبقى حوارهم فارغاً من أى معنى- أو إظهارهم كأنهم متصلين أو منتمين لثقافة أجنبية بينما يفضحهم السيناريو الذى يكتبونه ويظهر حقيقة أن لا علاقة لهم بها.. ناهيك عمن يستعير المشاهد وتكنيك التصوير بلا معنى. كل هذه العيوب لا نجدها فى "الجنيه الخامس"، حتى أن مخرجه قد ترك الكتابة كلها لزميله محمد حماد، إيمانا منه بأن هذا الناريشن الأدبى ليس مجال إبداعه. والفيلم كله لا يزيد على خمسة مشاهد مكثفة توضح المشاعر المختلطة، من كبت عاطفى وجسدى داخل نفس البطل والسائق واللعبة الذكورية المستترة بينهما، حيث يرغب كل منهما فى التحرر من كبته، وتصبح الفتاة بمثابة هدف مشترك لرغباتهما المكبوتة. ومن هنا وفى مواجهة تجريم المجتمع لهذه المشاعر ينشأ بينهما نوع من التواطؤ. يبدأ فيلم "الجنيه الخامس" بمشهد لمحطة أوتوبيس، حيث نرى فتى جالساً إلى جوار فتاة، ونعرف بعد ركوبهما الأوتوبيس أنهما حبيبان، وتدور أحداث الفيلم داخل الأوتوبيس حول علاقة الشابين في تركيز على الجانب الداخلى من هذه العلاقة وخاصة من جانب الشاب.. ماذا يدور داخل عقله ونفسه وهو يراقب ويحلل ذاته، وهو واقع تحت تأثير معاناته من عدم التحقق الجسدى و العاطفى، إلى جوار كونه فريسة للشعور بالمراقبة والتسلط من المجتمع وما يترافق مع ذلك من الإحساس بالذنب، بينما يقف السائق موقف المراقب وصاحب السلطة والقادر على التجريم. ومن موقفه السلطوى هذا يتسلل إلى حلم الشاب أو كابوسه ويتبادل معه المواقع فيشاهد الشاب فتاته فى الحلم وهى تمارس علاقة مع السائق. يرتكز الفيلم حول هذا الكابوس الذى يمثل الشعور بالإذعان التام لسلطة المجتمع التى تستطيع تجريمنا، كما تستطيع رموزها اغتصاب الحقوق التى تحرمها علينا. ومن هنا ينتهى الفيلم بالشاب وهو يعطى السائق أجرة الأوتوبيس المكيف جنيهين لكل منهما والجنيه الخامس بقشيش صمته عما يجرى فى المقعد الخلفي. وعلى مستوى السيناريو نلاحظ أن السيناريست محمد حماد أحسن اختياراته عندما جعل السائق هو الشخصية الرئيسية فى الكابوس، وهو ما يشير للانكسار التام للفتى و يبرر مسارعته بإعطاء الجنيه الخامس للسائق فى كل مرة، وثانيا عندما اختار كتابة الناريشن بالفصحى وهو ما يشير إلى الانفصال بين الشاب وذاته نتيجة شعوره بتجريم المجتمع له وسلطته عليه ومراقبته لهذه الذات، فنراه ينسلخ عن حياته ويبدأ فى تحليل هذا الموقف : حرمانه، شعوره بالذنب، انكساره، موقفه من الفتاة، وموقفه من السائق الذى يمثل سلطة المجتمع. وقد أعجبنى فى الفيلم أن كونه قصيرا وعملاً أولاً لم يفقد المخرج اهتمامه بالتفاصيل الصغيرة، كأصوات الخلفية، واستخدامه لممثلين ثانويين لإعطاء جو واقعى للفيلم، وغير ذلك من تفاصيل أضفت الواقعية على فيلمه. أما ما لم يعجبنى فى الفيلم فكان ردود الأفعال على وجوه الممثلين فى المشهد الأخير، حيث كنت أتصور أنه ربما كان من الأفضل أن يشعرنا الممثلان الرئيسيان ( السائق والبطل) بالتواطؤفى ابتسامة زات مغزى، ولكن بدا أن عدم خبرتهما أوتعمقهما فى الحالة قد أدى إلى فشل هذا المشهد الأخير. الفيلم أثار ردود أفعال متباينة عند عرضه فى أكثر من مكان. فبينما أعجب البعض، فقد تساءل آخرون لماذا اختار المخرج أن تكون بطلته محجبة، ولماذا وضع القرآن كأحد أصوات الخلفية. وفى اعتقادى أن اختيار المخرج لهذين العنصرين كان موفقا حيث إنه من الطبيعى وفى كل صباح أن نسمع القرآن الكريم فى كل مكان حولنا، كما أن معظم الفتيات يرتدين الإيشارب فى حجاب عصرى لا يمت لللباس الشرعى بشىء ولا يمنعهن من مزاولة حياة عادية بها ارتباطات عاطفية .
غادة عادل فى مواجهة كيم باسنجر وأحمد عز حائر بين ويلز و جير
ظللت لفترة مترددة فى الكتابة عن فيلم ساندرا نشأت الأخير "ملاكى إسكندرية". فهو فيلم من الصعب أن تقطع فيه برأى. فمن ناحية يمكنك مهاجمة الفيلم بشدة على اعتبار أنه سقطة فى الطريق لعمل فيلم أكشن مصرى، ومن جانب آخر يمكننا أن نصفق مهللين لساندرا نشأت لأنها بشكل من الأشكال خطت تلك الخطوة فى اتجاه جديد يوسع من آفاق الفيلم المصرى التى أصبحت محدودة جدا. والسؤال هو: هل وسعت ساندرا حقا من آفاق الفيلم المصرى التجارى؟ وهل اختلفت حقا مع السائد؟ أم أنها قدمت فيلما آخر قد يبدو مختلفا بينما تتوفر فيه كل الأخطاء الموجودة فى الأفلام التجارية التى تطلع علينا كل موسم. كل ما هنالك أنه فيلم أكشن بينما الأخرى أفلام كوميديا. والجميع دون المستوى. فيلم ملاكى اسكندرية من نوعية أفلام الاكشن والمغامرات البوليسية. وهو يدور حول محام شاب يقع فى حب أرملة متهمة بقتل زوجها، ويستطيع بمهارته وتقصيه للأدلة أن يثبت براءتها. لكن الأحداث تتوالى لتكشف لنا فجأة أنه كان ضحية مؤامرة دبرها زميله فى العمل. وهنا، يفاجئنا المحامى بالتخلى عن كل شىء فى مقابل نصرة الحق، وهو سلوك لا يتماشى كثيرا مع شخصيته كما رسمتها الأحداث من البداية. المشكلة فى فيلم ملاكى اسكندرية أنه يداهمك منذ اللحظة الأولى بطموحه في أن يكون فيلما أمريكياً، سواء فى موضوعه أو طريقة أداء ممثليه أو تصويره وبالتأكيد فى مونتاجه. ورغم أن هذا الطموح جائزومرحب به، حيث أدى بالمخرجة وطاقم الفيلم (خاصةً مديرة التصوير والمونتيرة) إلى طريق به من الإبداع ووسائل التقنية قدر أكبر مما هو متعارف عليه، إلا أن هذا الطموح قد أضر بالفيلم بقدر ما أفاده، لأنه وضع الفيلم وجها لوجه فى مقارنة صارخة مع الأفلام الأمريكية، وهى مقارنة لن تصمد فيها أفلام أهم وأنضج وأكثر جدية من فيلم ملاكى اسكندرية. الفيلم يبدو قريب الشبه بفيلم التحليل الأخير الذي أخرجه فيل جوانو فى عام 1992، وقام ببطولته ريتشارد جير وكيم باسنجر وأوما ثيرمان، ويدور حول أرملة قتلت زوجها واستخدمت طبيباً نفسياً لإثبات براءتها. ففيلم ملاكى اسكندرية ليس نسخة طبق الأصل من الفيلم الامريكى، حيث كان البطل فى الفيلم الأمريكى طبيبا نفسيا بينما هو فى فيلم ساندرا محام، ولذا فقد تميز فيلم التحليل الأخير بطابع نفسى اصطبغت به أحداثه وتركيبة شخصياته حيث لعب فى معظمه على التحليل النفسى لحل اللغز البوليسى، وقد أثرى هذا الطابع النفسى الأحداث. وعموما فإن مثل هذا الطابع يحتاج لأكثر من فيلم تجارى "عادة" مثل فيلم ملاكى اسكندرية ليحتمله. ورغم ذلك فإن فيلم ملاكى اسكندرية، طوال فترة عرضه، يلحُّ فى تذكيرك بالأفلام الأمريكية.. لماذا؟ قد لا يجانبنا الصواب كثيرا اذا تصورنا ان المخرجة عندما كانت تتفق مع أحد أفراد الطاقم للعمل فى الفيلم كانت تكرر عليه جملة "عايزين نعمل فيلم امريكانى". ولذا فإننا سنجد عناصر أفلام الأكشن الأمريكية متوفرة بكثرة فى هذا الفيلم، ولعل انجحها فى الاقتراب من الاسلوب الامريكى هو طريقة التصوير ( لقطات كثيرة من زوايا متعددة) وهو ما ساعد المخرجة على تحقيق الاسلوب الامريكى الذى يحتاج إلى عدد كبير من اللقطات من زوايا مختلفة لكى يستطيع المونتير ان يقوم بالكثير من القطع. وإذا اضفنا إلى ذلك جهد مدير الانتاج فى اختيار أماكن تصوير مناسبة، سيتبقى أمامنا الأداء التمثيلى. حاول الممثلون وكاتب الحوار والمخرجة ان يصبغوا على الأداء التمثيلى الصبغة الامريكية المعتادة فى أفلام الأكشن، حيث يكون الأداء استعراضياً أكثر منه قائماً على تقمص الشخصية، فنجد الجمل القصيرة المقتضبة، والتركيز على الوجه الغامض أو الساخر، والتأكيد على مؤثرات الصوت والحركة والاهتمام بها أكثر من ردود أفعال الممثل، والتأكيد والاهتمام المبالغ فيه بنجومية الأبطال بحيث يظهروا جميعا وغالبا فى قمة الجمال والتأنق. ورغم ما قد يبدو عليه هذا الاسلوب من سهولة واضحة الا انه يحتاج للكثير من التوجيه من مخرج لديه خبرة خاصة عندما يفتقرالممثل للخبرة أو الموهبة الطبيعة. لكن ما حدث فى فيلم ملاكى اسكندرية هو اننا شاهدنا محاولات للأداء بهذه الطريقة لكنها للأسف لم تكن محاولات ناجحة، فهناك فرق شاسع بين غموض كيم باسنجر الطبيعى وبين ما حاول الفيلم إسباغه من غموض على غادة عادل، وبين التأنق الذى هو جزء من أداء ريتشارد جير وبين أداء أحمد عز الذى حاول الاقتراب من الأداء المتأنق لريتشارد جير والغامض الساخر بروس ويلز. وللإنصاف فإن حوار محمد حفظى لم يساعدهم كثيراً. فبعيدا عن قصة وائل عبد الله المأخوذة كالعادة من فيلم أمريكى ( دون الاشارة إلى ذلك)، كان حوار محمد حفظى السيئ أكبر مشكلات الفيلم (بالإضافة طبعاً إلى السيناريو غير المنطقى)، وكان أسوأ ما فيه هو الاستظراف والتعليقات الساخرة التى لم تكن ساخرة بالمرة والتى سعت إلى الإضحاك دون جدوى. أما المشكلة الثانية في الحوار فهو انه جاء على نمط أمريكى، حيث الجمل المبتورة غير الكاملة وكأن محمد حفظى صدق فعلا اننا فى فيلم امريكى. أضف إلى ذلك مشكلات السيناريو الذى يهرب فيه أخو البطلة بالموتوسيكل فى قفزات أمريكانى تحتاج إلى خبير، وتتم المطاردات فيه داخل حوارى بعربات لا تتسع لها الحارة من الأصل... إلى آخر هذه المشاهد غير المنطقية والتى تنم عن ضيق أفق حيث كان في الإمكان تلافي هذه المشكلات بتنفيذ المشاهد فى أماكن أخرى تخرج بها عن جو الحارة المصرية المغلق فتبدو أكثر طبيعية، كطريق الساحل الشمالى أو طريق مصر اسكندرية الصحراوى. عموما يحسب للفيلم انه تجريب ومحاولة لصنع الأكشن واستخدام اساليب تصوير ومونتاج غير معتادة فى السينما المصرية مؤخراً (حيث لا يمكن أن ننسى المحاولات الأكثر نضجا ومصريةً لكل من محمد خان وعاطف الطيب). كما يحسب له الصورة الجميلة والحضور الجيد لكل من ريهام عبد الغفورالتى كانت أكثر الممثلين اقناعا وبساطة فى الأداء، ونور التى ظهرت فى دور جديد تماما عليها وحاولت أن تجيد فى أدائه. ولكن يحسب عليه الاختفاء التام لأى ابداع او اصالة على اى من مستويات صنعه، خاصة مستوى القصة والسيناريو والحوار. وكان عنصر الكتابة - كعادة افلام هذه الايام - هو الأسوأ فيها. أما أهم ما كشف عنه الفيلم من مشكلات فهو احتياج ممثلينا الشباب الذين أصبحوا نجوماً للمزيد من التدريب والتعلم والكثير والكثير من الخبرة. |
6 يوليو 2005 |
|