مصر منذ ستين عاما، ثورة يوليو عمرها ثلاث سنوات، والمجتمع يموج بالحركة
والطموح والصراعات حول شكل المستقبل القريب والبعيد.
والصحافة التي لم يكن جرى تأميمها بعد، قوية ومؤثرة أكثر من أي وسيط آخر،
ربما أكثر من الإذاعة والسينما، أما التليفزيون فلم يكن قد ظهر بعد. ومنذ
مولد صناعة السينما في نهاية العشرينيات أصبحت خلال عقدين فقط جزءا أساسيا
من حياة المصريين، والعرب، وجزءا من ثقافتهم وهويتهم وصورتهم عن أنفسهم
ومفاهيمهم عن الخير والشر والحب، وكان من الطبيعى جدا أن يتحول نجومها إلى
محور اهتمام وحديث الملايين، أو كما يقول الكاتب الفرنسى إدجار موران في
كتابه «نجوم السينما» أصبح هؤلاء النجوم بالنسبة إلى جمهور اليوم أشبه ما
يكون بآلهة الأوليمب عند الشعب الإغريقي، أو آلهة وأنصاف آلهة الأساطير
الفرعونية عن المصريين القدماء.
الذين لا يفهمون هذه الحقيقة يعتقدون أن اهتمام الصحافة الفنية والجمهور
بحياة النجوم هو نوع من نشر الفضائح واستهلاكها، لا فائدة ترجى منه، ولا
معنى.. مثلما يعتقدون أن إعادة نشر مذكرات فاتن حمامة وقصص حبها وزواجها
ربما تسيء لذكراها. إن قراءة أفلام وحياة فاتن وردود فعل الجمهور عليها في
زمن عرضها ثم في الأزمنة اللاحقة هو نوع من القراءة في تاريخ المجتمع
المصرى كله، ما حققه، وما آمل في تحقيقه، وما أصابه من خيبات متلاحقة على
مر العقود.
في يوم وليلة أصبحت حياة فاتن حمامة الشخصية حديث مصر كلها، بعد الشائعات
التي نشرت في بعض الصحف الصغيرة في مصر ولبنان حول علاقات عز الدين ذو
الفقار المتعددة، وغضب فاتن، انتقلت معظم المجلات والصحف إلى قصة القبلة
التي جمعت فاتن حمامة وعمر الشريف أثناء تصوير فيلم «صراع في الوادي»،
والعلاقة التي جمعت الإثنين، واستمرت الشائعات على مدى أسابيع وشهور حتى ما
بعد طلاق فاتن من عز وزواجها من عمر.
بدأت فاتن حمامة في كتابة مذكراتها، كما ذكرت من قبل، في العدد رقم ٢٦٧
الصادر بتاريخ ٣ يونيو ١٩٥٦، واستمرت في كتابتها على مدى عدة أشهر، بعد ذلك
بسنوات، عقب تأزم علاقتها بعمر الشريف وطلاقهما الوشيك، نشرت الجزء الثانى
الذي ضم تفاصيل علاقتها بعز الدين، وعلاقتها بعمر الشريف، حتى قرارهما
بالانفصال، دون طلاق رسمي، عام ١٩٦٤.
وقعت فاتن حمامة في عشق عمر الشريف من النظرة الأولى، وقد عجل ذلك من
انهيار علاقتها الزوجية مع عز الدين ذوالفقار، الذي اتفقت معه على تأجيل
الطلاق مؤقتا، وعندما انطلقت الشائعات حول علاقة فاتن وعمر في الوسط الفنى
والصحافة ووصلت إلى ذو الفقار من ناحية، وإلى فاتن وعمر من ناحية ثانية،
قرر الثلاثى حسم الأمر بسرعة، وكان الطلاق، ثم الزواج.
أكبر أخطائى أننى عشت بقلبى فقط
أخيرًا وقعت في حب عمر الشريف..
لم يعد حبى من طرف واحد..
لقد شعرت أن عمر يحبنى بنفس الدرجة ونفس الحرارة إذا لم أقل أكثر من ذلك!
كنت أكتشف حبى في عينيه عندما كان ينظر إلى ويقول لي:
يا ليت يا فاتن إحنا لبعض..
وكنت أتألم كثيرا عندما أتذكر واقعى المرير بأنى زوجة رجل آخر غير عمر
الشريف، وأنى أعيش مع الرجل الآخر، وكأنى غريبة عن بيته وحياته..
وكنت عندما ألتقى بعمر أحس أننا خلقنا لبعض..
نفس الطباع.. ونفس التفكير.. ونفس الحياة..
وكنت أشعر براحة كبيرة عندما ألقى برأسى على صدره، وكأنى متعبة قادمة من
طريق مقفر ووجدت مكانا أستريح فيه..
لم يعد بإمكانى أن أفترق عنه..
كنت ألتقى به في «البلاتوه».. وخارج «البلاتوه»..
ونسيت كل شيء، ولم يعد يهمنى إلا أن ألقاه..
وكنت كلما خلوت إلى نفسى أشعر بطعم القبلة الخالدة عالقا على شفتي..
كان شبحه يطاردني، ويضرب باب قلبي..
وبدأت أفكر بحل..
ماذا أفعل؟
أنا متزوجة فهل أطلق؟
وبدأت أعيش في الدوامة.. وبعد تفكير طويل صممت على الطلاق، لأتفرغ للحب
الجديد الذي يسيطر على حياتي..
وكنت أدرس موقفى من جميع نواحيه.. ولكن شيئًا واحدًا لم أكن أراجع نفسى فيه
وهو حبى لعمر الشريف، فأنا متأكدة بأنى أحبه.. وأحبه كثيرًا.
بدأت الشائعات تلوك اسمى وتربط بينى وبين عمر الشريف.
لقد انطلقت هذه الشائعات إثر القبلة السينمائية التي كانت قبلة واقعية أكثر
مما هي قبلة ممثلة وممثل أمام الكاميرا..
كان الوسط الفنى يلمح عن علاقتى مع عمر الشريف!
لقد ألمحت إحدى المجلات إلى أننى أصبحت في طريق الطلاق.. وأن في حياتى رجلا
آخر غير عز الدين!
وكادت هذه الشائعات تدمر أعصابي..
كنت خائفة على قصة حبى من الانهيار..
وذات يوم كنت مع عمر في مكان ما نتحدث في موضوع هذه الشائعات عندما قال لي:
الحقيقة يا فاتن لازم نشوف حل.
قلت: ضروري.. أنا مش قادرة أعيش بالطريقة دي..
وقال عمر ونظراته تغرق في عيني:
-
مش أفضل تطلقى عز ونتزوج!
قلت وأنا أستشف الصدق في كلامه:
-
هو ده الحل الوحيد.
وافترقنا على هذا الأساس..
أطلق عز، وأتزوج عمر..
وبقيت مشكلة نادية تشغل رأسي..
فأنا أحبها، وهى تحبني، ولا يمكننى أن أبتعد عنها لحظة واحدة..
أنها بالنسبة لى عالمي.. ودنياي.. ومجتمعي.. وحياتي.. وصممت أن أبقى نادية
معى مهما كانت الظروف.
فهى ابنتى وحبيبتي، وهى ترفض أن تبقى بعيدة عني! وانتهيت من حل المشكلة
الثانية لأواجه من جديد موضوع الطلاق..
وفى نفس تلك الليلة كنت على موعد مع حدث جديد..
لعل ما حدث هو الذي غير مجرى حياتي.. وجعلنى أسرع في الطلاق..
■
■
■
كانت عقارب الساعة تشير إلى منتصف الليل..
وكنت في غرفتى أراجع موقفى وأدرس خطواتي..
كنت أفكر في كل شىء..
بالطلاق.. وعز.. ونادية.. وعمر..
وكنت أفكر في كل شيء..
وكنت قد صممت على أن أتفرغ لحبى الجديد.. ولكنى كنت حذرة من موقفي!!
كنت أسأل نفسي: تري.. هل سيؤثر الطلاق في فنى وجمهوري؟
وفجأة دخل عز إلى غرفتى وهو بحالة عصبية.. وكان مخمورًا..
ولم ألتفت إليه.. ولكنه اقترب منى وقال: إيه الشائعات ديه.. مش حتعقلى يا
فاتن!
وتجاهلت الموضوع الذي جاء يفاتحنى به وقلت بعدم اهتمام:
-
مش فاهمة حاجة!
قال عز بعصبية:
-
البلد كلها بتحكى عن علاقتك مع الواد ده اللى اسمو عمر الشريف..
قلت بعدم اهتمام: وأنا مالى ومال الشائعات؟
قال عز بنفس اللهجة العصبية:
-
ماتنسيش إنك لغاية دلوقت مراتى وبتحملى اسمي..
قلت: وفيه إيه.. إنت خجول بيه.. ع العموم إحنا متفقين ع الطلاق!
ولمعت في عينيه نظرات مجنونة وقال:
-
مابفهمش.. إنت لسه مراتي!
وفجأة تحول عز إلى إنسان ثائر عصبي، وكأنه فقد وعيه، ثم هجم على وحاول
خنقى، فبدأت أصرخ وأستغيث..
كان لا بد من الطلاق بينى وبين عز الدين ذو الفقار.
لقد انفجر الخلاف بيننا بشكل عنيف.. كان يدخل إلى البيت ثائرًا ويعود
غاضبًا..
كان يغار من عمر الشريف الذي أصبحت قصة حبى معه معروفة في الوسط الفنى وغير
الوسط الفني..
وقبل الطلاق تفاهمت مع عز على مواضيع كثيرة أهمها أن نبقى أصدقاء.. فلا
نتبادل المهاترات وأن تبقى نادية معي..
ووافق عز على كل شىء.. وعندما ودعته شعرت بأن دموعه تنحبس في عينيه..
كان حزينًا وكان كئيبًا.. ولكنه تصرف كرجل..
لقد تمنى لى التوفيق والسعادة في حياتى الجديدة، وقال إنه يحفظ في نفسه
المحبة.. ولا شيء غير المحبة..
وقال لى: إن احترامه سيبقى كما كان.. وأن رحلة الدرب التي مشيناها معا لن
تؤثر على صداقته في قلبي.. واعترف الآن بأنى أكبرت في عز الدين هذه الروح
الكبيرة.. وهذا التصرف اللائق الذي يدل عن تسامح الزوج.. والمخرج والفنان..
والإنسان..
وأسرعت إلى التليفون أزف البشرى إلى عمر..
قلت له وأنا أضحك من السعادة:
-
خلاص.. أنا بقيت حرة.. تطلقت!
وبصوت مليء بالأمل قال لى عمر:
-
يعنى حنتزوج؟
قلت وأنا مازلت أضحك:
-
قريبا.. بس تخلص أشهر العدة..
■
■
■
ومع انتهاء أشهر العدة كنت قد تزوجت عمر الشريف، وسافرت معه إلى باريس
لقضاء شهر العسل..
وكنت سعيدة وكأنى أعيش في حلم لا أريده أن ينتهي.. وكان عمر سعيدًا في
حياته الجديدة معي..
وكنت لا أفارقه لحظة واحدة، وكان هو إلى جوارى دائمًا..
كنت أعيش معه لحظات السعادة لحظة بعد لحظة.. وأبنى معه حياتنا المقبلة..
وكنت أغار عليه كثيرًا..
كانت الغيرة تنهش صدرى كلما رأيته يتحدث إلى امرأة ثانية..
ولم أكن أفكر إلا به وبمستقبلنا معًا..
وعدنا من باريس إلى الإسكندرية لنبدأ حياتنا الجديدة..
وفجأة هبت العواصف على حياتنا.. فقد كتبت إحدى الصحف اليومية الكبرى أن
خلافا دب بينى وبين عمر لأنه كان يراقص إحدى السيدات.. وأن الخلاف تطور
بيننا، فأقدم عمر على محاولة الانتحار.
وعدنا إلى القاهرة لتسبقنا هذه الشائعات..
كانت المكالمات التليفونية والبرقيات تنهال علينا من كل جهة..
الجميع يسألون عن صحة الخبر.
وكانوا يقولون لي: هل ثارت أعصابك لأن عمر كان يراقص إحدى السيدات؟ وهل
عبرت عن احتجاجك بأن انسحبت من الحفل؟
ولم تكن أعصاب عمر تحتمل هذه الضجة.. فقد كان مرهق الأعصاب.. أما أنا فكنت
هادئة أحاول أن أخفف عنه..
وكان على أن أبرر إصابة عمر بجراح في يده..
وأذكر أنى تحدثت في هذا الموضوع لمندوب إحدى الصحف فقلت: كانت الشائعات
تلاحقنا.. وفجأة وقف عمر وراح يصرخ: «الناس مالهم ومالنا.. الناس ليه
مايسيبوناش نعيش في هدوء.. عايزين مننا إيه..» ثم هوى بيده في ثورة غضبه
على لوح زجاجى في النافذة.. وتفجر الدم بغزارة من ساعده الأيسر.. وقفزت
فاتن تصرخ مستغيثة تستدعى الطبيب الذي أمر بمجرد حضوره بنقل عمر إلى
المستشفى لإجراء عملية جراحية مستعجلة له.. وكان عمر يقول لي: ماتخافيش يا
فاتن.. بسيطة.. بسيطة جدًا..
أكتب لكم الآن الخبر الأخير من هذه المذكرات..
إنى أحاول هنا أن ألخص جميع السنوات التي عشتها مع عمر.. والتي عشتها بعيدا
عنه..
أنا الآن في لندن.. وعمر في أوربا.. في أمريكا.. في عالم الأضواء. والسينما
العالمية..
إنى مازلت أعتبر عمر الشريف ذلك الزوج الطيب.. والإنسان الكبير والصديق
المخلص.. وهو يحفظ لى مثل هذا الشعور.. ولكن ظروف العمل فرقت بيننا..
ومهما يكن، فلكل واحد منا ظروفه في الحياة.. ولكن الطريق الذي سلكناه هو
طريق صعب ومزروع بالدموع والأشواك والألم..
في آخر لقاء لى مع عمر لم أشعر بالتعاسة كالمرات السابقة..
في هذه المرة كنت سعيدة وأنا معه.. وعدت من اللقاء وأنا سعيدة أيضًا..
والسبب في ذلك أننى عرفت أخيرًا نفسى وأصبحت أرى الدنيا بنظرة جديدة.. كما
أننى رأيته كما لم أره من قبل، وفهمت وجهة نظره بالنسبة لعمله وللحياة.
فقبل أن أسافر إلى عمر هذه المرة بحثت في أعماق نفسى وأخذت أراجع تقلبات
حياتى وتطوراتها معه، فوجدت أنه لم يكن سبب تعاستى بالقدر الذي جلبت به
التعاسة لنفسي..
فقد تكشفت لى الحقيقة بعد سفره.. وحدث لى تطور ضخم خلال السنوات التي غاب
فيها عمر.. لقد كبرت خلالها عشر سنوات على الأقل..
■
■
■
لقد كنت معذبة جدًا بعد سفر عمر.. ولما وجدت نفسى وحيدة كان لا بد لى أن
أبحث عن نفسى وأن أجدها.. وأن أسترد قوتى وشخصيتى من جديد.. فعدت إلى حبى
لعملى كما كنت أحبه من قبل وجعلته كل شيء في حياتي.. لذلك أستطيع الآن أن
أقول إننى سعيدة.. وكنت أسمع كثيرًا من الناس يقولون عني: «يا عينى يا
فاتن» وأريد أن أؤكد لهؤلاء الناس أننى لم أعد «يا عيني» لأننى الآن «كويسة
قوي».. فما دمت حريصة على عملى وناجحة فيه فأنا سعيدة! ولا أستطيع أن أقول
إننى لم أكن سعيدة في حياتى مع عمر.. إلا أننى اعترف أن الفترة التي عشناها
معًا كانت خلالها شخصيتى مخلخلة.. وكنت إنسانة ضعيفة.. وكان هو الطرف القوى
بالرغم من موقفه السلبى مني.
وكان سبب ضعفي حبى الشديد له، فنسيت نفسى ونسيت فاتن حمامة الفنانة، وتحولت
إلى فاتن الزوجة والأم، وشعت حياة ست البيت.. ووجدت في هذه الحياة طعمًا
جديدًا للسعادة.. إلا أنها لم تخل من المنغصات التي كانت تبدد صفو حياتى
إلى درجة التعاسة. والآن وبعد أن وصلت إلى درجة كبيرة من النضج أستطيع أن
اعترف بأخطائي.. فقد أسأت التصرف في كثير من الأمور. فحين عشت بقلبى لا
بعقلى أعمانى قلبى عن النفس البشرية.. فكان أقل شيء يعكر حياتى.. وتنقلب
الحبة إلى قبة.. وكنت أثير أزمات بينى وبين عمر بلا مبرر.. لأننى وليت نفسى
حاكما على جميع تصرفاته، ولم أدعه يتحمل مسئولية أعماله وأخطائه.. فكنت
أحاسبه على كل حركاته وسكناته.. كنت الزوجة التي تريد أن «تمشي» زوجها حسب
إرادتها.. وفى الحقيقة كنت أريد أن أراه أحسن إنسان في الدنيا.. ولكن يبدو
لى أننى كنت «كابسة» على أنفاسه..
كنت أتدخل في أعماله، وأبحث العروض التي تقدم إليه وأناقشها وأغير فيها ما
يحتاج إلى تغيير لصالحه.. وإذا استدعى الأمر كنت أتشاجر أو أقاطع المنتج
إذا حاول أن يسلبه حقه، حتى ولو أدى ذلك أن أضحى بعملي.
وعندما كنا نخرج إلى مكان عام مع أصدقائنا كنت أشعر أن كل الأعين تراقبنا
وتنتقد تصرفاتنا.. فكنت أضحك بحساب وأتكلم بحساب.. وكنت أطلب منه أن يقتدى
بى ويعمل حساب الناس.. ولم أتصور أنه كان يترجم حرصى الشديد بالنسبة له
ولنفسى على أنه حصار خانق كان يتضايق منه.. وحتى التضحيات التي بذلتها من
أجله في العمل.. والتي أسعدتنى لم تسعده.. فقد كان يريد أن يتمتع بحرية
الخطأ.. كان يريد أن ينجح أو يفشل بنفسه.. ولكننى سلبته هذه الحرية..
وتحملت وحدى المسئولية كاملة.. فما كان منه إلا أن استرد حريته في أول فرصة
بل استأثر بها.. وحين صادفه النجاح استأثر بهذا النجاح لنفسه.. لأنه حققه
بنفسه..
■
■
■
والحق أننى أخذت عليه انفراده بنجاحه.. فقد تمنيت أن أحضر الحفلة الأولى
لفيلم «لورانس» وأشاركه هذا النجاح بصفتى زوجته.. ولم أجد مبررًا لإغفاله
دعوتى إلا عندما راجعت نفسى وحياتى معه، فوجدت أنه من الطبيعى أن ينطلق
وحده وأن يتلقى النجاح أو الفشل..
وبدأت أرى عمر كما لم أره من قبل.. ومن طبيعتى أننى أحب الرجل الذي يحترم
عمله ويقدمه على كل شيء في حياته..
ومثل هذا الرجل في نظرى له هالة تثير إعجابي..
وهذا هو الذي حدث لى بالنسبة لعمر.. ففى كل مرة أذهب فيها للقائه أجد عمله
أصبح شيئًا مقدسا ولو كان ذلك على حساب أسرته، ولكنى أنا نفسى أقدر أهمية
العمل، وأصبحت أفهم أنه إذا كان هذا سبب نجاحه فمن واجبى أن أتحمل.. وقد
برهنت لنفسى أننى قوية الاحتمال.. إذا لولا أننى إنسانة ثابتة جدًا في
استطاعتى أن أواجه الأزمات لما احتملت هذه الحياة التي أعيشها الآن.. فأنا
ثابتة وصابرة لأننى أؤمن بمستقبل سعيد.. فقد أصبحت أعيش بعقلى كما لم أفعل
من قبل.
إن الظروف التي أدت إلى أن نعيش مفترقين أفادت عمر كما أفادتني.. وقد كبر
عمر ونضج في هذه الفترة أيضًا..
فعندما بدأ عمله في فيلم «لورانس» كانت حياته أيامها أشبه بحياة المجندين
الذين يعيشون في الصحارى مدة طويلة.. وكان مستعدا لأن يأكل الزلط في سبيل
أن يثبت وجوده.. وكل فيلم جديد يعمل فيه هو امتحان جديد.. والنجاح في ميدان
السينما العالمية باهظ الثمن بسبب المنافسة الشديدة.. وبصفتى فنانة أفهم
هذه الحياة التي يحياها عمر ما كان يسعنى أن أسلك غير مسلكه لو كنت مكانه..
فقد حقق طموحه.. وأصبح نجما عالميًا.
إننى اليوم بعد أن عدت أحب عملي، وأقدمه على كل شيء حتى على حياتى العائلية
أصبحت أشعر بهذه السعادة.. أن عمر الآن عندما يدعونى لزيارته عقب انتهائه
من عمل أرجئ الزيارة إذا كنت مشغولة بعملي.. وهذا لم يكن يحدث من قبل..
الآن يهمنى عملى وابنى «طارق» قبل كل شيء في الوجود.. لقد أصبحت حياتى
خالية من العقد بعدما أصبح عملى كل شيء في حياتي.. أصبحت الأمور أبسط مما
كانت.. ولم يعد يهمنى كلام الناس المغرضين..
لقد أصبحت أسعد بكل دقيقة أعيشها.. كنت بادئ الأمر بعد سفر عمر أعانى وحدة
كئيبة..
ولم أكن أتصور أن أولادى وعملى كفيلان بملء الفراغ الذي تركه عمر في
حياتي.. ولكن الآن أولادى وعملى وأصدقائى يملأون حياتي.
لقد كنت أجلس بينهم فيما مضى وأنا شاردة بعيدة عنهم وعن أحاديثهم.. أما
الآن فقد أصبحت أشاركهم في ابتساماتهم ومشاكلهم.. وتعلمت شيئًا جديدا..
فكلما أصابتنى مشكلة أو أزمة أرجئ التفكير فيها لليوم التالي.. وفى اليوم
التالى أراها أصغر مما كانت..
كنت أذهب إلى عمر أحمل إليه مشاكلى وأنقب عن مشاكله وتصرفاته التي
تضايقني.. والآن أصبحت أذهب إليه وفى نيتى أن أسعد بالأيام القليلة التي
أقضيها معه.. فإذا حدثنى عن مشكلة أجيب قائلة: «بكره تنحل».. حتى اتهمنى
مرة أننى لم أعد اهتم بأمره.. والواقع أننى وجدت أن اهتمامى بمشاكله
ومناقشتها كان يتحول في النهاية إلى توتر بيننا لأنى كنت أخاطبه كزوجة وأم
في وعظ وإرشاد.. فيتهمنى بأننى أتدخل في شئونه وأحاول السيطرة عليه من جديد..
لهذا أكتفى الآن بالاستماع حتى أريحه وأريح نفسي.. فأصبحنا نقضى أوقاتا
سعيدة كلما زرته..
واتضح لى أن عمر لا يحب أيضًا أن يعيش مشاكلى ويفضل دائمًا أن يرانى قوية
ومعتمدة على نفسي..
والحقيقة أننى لم أشعر بقوتى وثقتى بنفسى إلا عندما أقبلت على عملى بكل
قوتى وطاقتي.. إن الناس عموما لا يحترمون إلا الأقوياء ولا يعبأون بالضعفاء
كثيرى الشكوى.
■
■
■
وكنت قد مررت بفترة انتابنى فيها خمول وضعف.. كنت أيامها أغلق باب غرفتى
على نفسى، وأسدل الستائر، وأبقى في الظلام مع همومي.. فقد ضقت بالسينما
والجو السينمائى.. وكان الإحساس الذي يسيطر على هو أننى خائفة غير قادرة
على أن أبدأ حياتى من جديد.
وكان هذا الإحساس بالضياع هو الذي دفعنى في النهاية إلى الثورة على نفسي..
فبدأت أقاوم الحالة التي وصلت إليها واستعدت ثقتى بنفسي.. واعترف أن هذا لم
يتم بسهولة.
وبعد أن كنت أقول إننى سأعتزل التمثيل إلى آخر يوم في حياتي.. وبعدما كنت
أقبل تمثيل أي فيلم «حتى لا تروح على».. كما كانوا يتهامسون أصبحت أتمسك
بالأدوار التي أحبها..
واكتشفت أن السعادة كانت من حولى، ولكنى كنت أغلق عينى ولا أرى إلا
مشاكلي.. واليوم أرى الدنيا بنظرة جديدة.. إن مجرد كلمة «حمدلله بالسلامة»
التي أسمعها في المطار بعد عودتى من زيارة عمر أصبحت تسعدني.. أبسط الأشياء
أصبحت تسعدنى..
■
■
■
إن عمر لم يعد الإنسان الذي كنت أريد أن أتملكه كزوج وحبيب.. فقد نضج حبى
له خلال هذه السنوات، وأصبح حبا عميقا هادئًا.. أصبح عمر الإنسان العزيز
الذي أتمنى سعادته ونجاحه..
فإذا فرضت الظروف أن يعيش كل منا في بلد، فالمهم أن يأتى إلينا أو نذهب
إليه كلما سنحت الفرصة..
لقد عثرت على نفسى وعرفت ماذا أريد.. واكتشفت أن السعادة هي أن أرضى بحياتى
وظروفها. |