صلاح سرميني

 
سيرة جديد مقالات ملفات
 
 
 
 

ملفات

 

>>>

20

19

18

17

16

 

بين "فيلم" صامويل بيكيت،

و"ممحاة" ديفيد لينش

كتابة: حسن علاء الدين/القاهرة

 
 
 

يعرض الكاتب الأيرلندي صامويل بيكيت في الفيلم الذي أخرجه عام 1965 بعنوان "Film" وبطولة نجم السينما الصامتة باستر كيتون معاناة الإنسان الكبرى، والتي تتجلى في وجود الإنسان ذاته؛ أيّ إحساس أنه موجود، ويتعاطى فعليًا مع جميع معطيات الكون، ويتفاعل معها بكل حواسه.

يرصد بيكيت في فيلمه محاولة هروب شخص من عالمه الواقعي، فهو بدوره يرفض، وينبذ ذاك العالم، وذلك الواقع، فيسعى لمحو أيّ صلة تربطه بالعالم، وبواقعه.

يعزل بطل الفيلم نفسه في غرفة خاصة تخلو من مظاهر الحضارة، والحياة، غرفة خالية يتوسطها كرسي فقط، أيضًا يهمّ بإخراج كل كائن حيّ يستطيع بدوره أن يرصده، يُخرج أدق الكائنات الحية خارج الغرفة حتى لو تجلى وجود الكائن في عينيْ سمكة ترصده، هو يرفض أن يكون مُراقبًا حتى من عين سمكة كي لا يشعر بوجوده، يهمّ بتمزيق صوره القديمة في محاولة لنسيان نفسه القديمة، وفي النهاية، وحين يشعر أخيرًا أنه تحرر من كل معطيات الوجود، وأصبح غير مرئي، غير ملموس بالنسبة لكل ما حوله في العالم يتجلى له كابوسه الأكبر، وعدوه الأخير، نفسه، وعند انعكاس صورته له، يتبين أن وجوده في العالم هو السجن بذاته، فحتى لو ترّفع عن كل مظاهر الوجود، فوجوده نفسه هو المشكلة.

ربما بيكيت في فيلمه رسالة مبطنة تدعو للانتحار كما في عوالمه الأدبية، ولكنها لا تبدو بتلك المباشرة هنا، بل يضعها كحلٍ نهائي لبطله إن أراد أن يترفع بصدق عن وجوده القسري في الحياة، والفيلم في النهاية تصريح شديد اللهجة يرفض بيكيت فيه الوجود، وقوانينه.

تتجلى محاولة أخرى للتعبير عن رفض الوجود في الفيلم الأول للمخرج السريالي الأمريكي ديفيد لينش المُعنون ب "Eraserhead" 

ولا تختلف كثيرًا محاولة لينش عن بيكيت من قبله، بل تصبّ بعمق في عوالم بيكيت، فالإنسان فيها في حالة هروب دائم من عالمه، من نفسه، والوجود بالنسبة له أشبه بكابوس كبير، مليء بالأماكن التي فسدت بسبب الحرب، والعنف البشري المتأصل في الإنسان نفسه، حتى الضمير فهو متجسد في بكاء طفل صغير مُشوّه، لا ينفك عن مطاردة أباه الإنسان الخاطئ، إن الطفل المُشوه هو نتاج لحضارة مشوهة، وجود بائس أصبح جميع نتاجه مشوّه، وليس تشوهه ظاهري، بل جوهري، متأصل، وعميق الأثر، ومرتبط بوجود الإنسان، هو تشوه أصبح المرء معتادُ عليه، ومجبر على تقبله.

رُبما ينهي لينش تجربته بالمثل، فيعبر عن رغبة الإنسان الكبيرة بالهرب من واقعه، الاختفاء النهائي من الوجود في ظل واقع لا يأبه بفردانية الإنسان، فالواقع نفسه في محاولة دائبة، مستمرة في رفض هوية الإنسان، وتهميشه، وهو دائم استهلاكه لضمان استمراريته، فيكون وجود الإنسان كرأس الممحاة لها استخدامها المؤقت ثم تزول، ولا يبقَ لها أثر.

آنييس فاردا تتغزّل بسلالم السينماتك الفرنسية

"لديكِ سلالم جميلة، كما تعلمين ..."، فيلمٌ قصير للمخرجة الفرنسية الراحلة أنييس فاردا، من إنتاج عام 1986

كيف يمكن بـ 150 ثانية فقط تكريم السينماتك الفرنسية بمناسبة الذكرى الخمسين على تأسيسها، إن لم يكن بتصوير الدرجات الخمسين التي تصعد إلى متحف السينما، ونزولاً إلى الصالة المُظلمة حيث تُعرض تحفٌ سينمائيةٌ بعضها تتضمّن مشاهد شهيرة عن السلالم.

في الفيلم الفرنسي "رصيف الضباب" للمخرج مارسيل كارنيه، وإنتاج عام، 1938 كان جان جابان يفصحُ عن حبه لنيللي (ميشيل مورجان)، فقال لها جملته التقديسية التي لم ينسها عشاق السينما:

"لديكِ عينان جميلتان، كما تعلمين ...".

يقول المخرج الفرنسيّ كوستا جافراس:

"أرادت أنييس فاردا أن تُعبّر عن حبها للسينماتيك الفرنسية في ذكرى عيد ميلادها الخمسين، ماذا عليها أن تفعل؟ كلّ شيءٍ قيل بالفعل، وكُتب، وصُوّر.

اختارت أولئك، المتواضعين، الذين يقودونك إلى هناك، أنتَ، ورغباتك (ويقصد درجات السلالم).

في متحف هنري لانجلوا، في صالات الألف حلم، ليلاً، ونهاراً.

بعينيّ إيزابيل أدجاني الرائعة، والصور التي جُمعت من بين ملايين، ومليارات، وملايين المليارات من الصور المعروضة على مدار 50 عاماً، أعربت أنييس عن حبّها بطريقتها الخاصة كما هو الحال دائماً".

 

أما الباحثة الفرنسية فلورنس تيسو، فقد كتبت في هذه المناسبة:

"في الفيلم، حيث الجملة الشهيرة التي يقولها جان جابان لميشيل مورجان:

"لديكِ عينان جميلتان، كما تعلمين..."

"حبّ السينما يُمكن أن يُقال بسرعةٍ كبيرة، ويمكن أن يُقال بمزاح».

في 17 مايو 1986، قدمت آنييس فاردا، بدعوةٍ من القناة الفرنسية الثانية، على الهواء مباشرةً من الكروازيت، أقصر، وأرخص فيلم في مهرجان كان.

بعيداً عن أيّ قضيةٍ تتعلق بالمنافسة، والاعتراف، يكشف "لديكِ سلالم جميلة، كما تعلمين ..." بالنسبة للمخرجة عن عقيدةٍ فريدة: السينماتك مُذهلة".

اختطاف الجملة الحوارية التي يقولها جان جابان لميشيل مورغان في فيلم Le Quai des brumes  (رصيف الضباب) للمخرج مارسيل كارنيه، هذا الفيلم القصير عبارة عن كولاج مؤلف من أجل السينماتك الفرنسية، التي كانت وقتذاك تحتفل بعيدها الخمسين.

المبدأ بسيط: الفنّ السابع مليءٌ بمشاهد السلالم، والعديد من الاشارات لتلك التي تقود إلى صالة العرض في هذه المؤسّسة المذهلة، والتي كانت موجودة في ذلك الوقت في "قصر شايّو".

يُنشطّ بعض المتفرجين المجهولين بشكلٍ، أو بآخر المدخل المهيب، بينما تكتسح بسرعةٍ عشرة مقاطع أفلام خلال سبعة عقودٍ من السينما.

ريتا هايوورث ترتدي حذاء رقص في الكوميديا الموسيقية Cover Girl لتشارلز فيدور، وهي تتجاور مع بيير ريتشارد من تأليف جيرار أوري.

يختلط فيلم Le Mépris (الاحتقار) للمخرج جان لوك جودار مع السينما الروسية ("المدرعة بوتمكين: لسيرجي آيزنشتاين)، واليابانية ("ران" للمخرج أكيرا كوروساوا)، وهي انعكاساتٍ للبرامج الانتقائية للسينماتك.

تمّ ترتيب هذه اللقطات بصحبة موسيقى ميشيل لو جران الشريك في شارع داجير (بيت، ومكتب آنييس فاردا)، ومؤلفٌ موسيقيّ، وعلى وجه الخصوص موسيقى فيلم "كليو من 5 لـ 7" (1961)

على عكس معظم صانعي الأفلام الآخرين من الموجة الجديدة، فإنّ أنييس فاردا ليست "طفلة للسينماتيك"، دراستها في مدرسة اللوفر، وخبرتها المهنية في المسرح، تُميّزها عن الصحفيين الشباب في مجلة "دفاتر السينما" الذين درسوا في قاعة هنري لانجلوا(السينماتك).

في عام 1955، أخرجت أول فيلم روائيّ طويل لها ، La Pointe courte (1955) دون أمتعة سينيفيلية.

بعد ثلاثين عاماً، لا يزال إنتاجها وفيراً للغاية، مطبوعاً بولاية كاليفورنيا (Documenteur ، Mur murs ، 1980)، والتصوير الفوتوغرافي (Ulysse ، 1982)، والتلفزيون (Une minutes pour une image ، 1983)، والشعر (Les Dites cariatides ، 1984).

حصلت آنييس فاردا على جائزة الأسد الذهبي المرموقة عن Sans toit ni loi (1985) بضعة أشهر قبل أن تُفسح المجال لمُمارسة لعبة الغوصّ لمدة ثلاث دقائق في تاريخ السينما.

السينما الهندية

الأغنياء هنا لا يدخلون

عوض القدرو/سورية

لماذا عشقت الشعوب العربية الأفلام الهندية، وخصوصاً في بلدانٍ مثل سورية، مصر، الأردن، الكويت، والإمارات ...

سؤالٌ يطرح نفسه، وبقوة:

ـ هل لأنّ الفيلم الهنديّ لا يمّت للواقع بصلة، وهذا الشيء جعل منه صاحب سحرٍ، ورونقٍ في السينما، أم أنّ مطبخ السينما الهندية هو فقط رقص، وغناء، وأكشن، وموسيقى ساحرة، وممثلات أشبه بالحلم الانثويّ الغائب؟

هناك من يعتقد أنّ أكبر نسبة مشاهدي سينما في العالم تصبّ في مصلحة هوليوود، وينسون السينما الهندية.

من حسن حظي أني نشأتُ في منزلٍ كانت السينما، والأفلام من أهمّ عناوينه اليومية بحكم عمل والدي كموزعٍ سينمائيّ صغير في خمسينيّات القرن العشرين، وعشت طفولتي بين كراسي صالات السينما، وواجهات اعلاناتها الساحرة في ذلك الوقت، وكنت أسمع أحاديث عن جمال بعض الأفلام، وكان النصيب الأكبر منها لصالح الأفلام الهندية، وكانت أمي تسأل والدي:

ـ متى سيُعاد عرض فيلم (القصر .. Mahal)، أو فيلم،Sangam  أو جنكلي، أو ماسح الأحذية .. الخ؟

وعندما كبرتُ قليلاً، عرفتُ سرّ السؤال الذي راودني كثيراً، وعملت في السينما، وكان حظي أن أعمل عارضاً سينمائياً في سينما الأهرام في محلة فيكتوريا بدمشق، وسينما دمشق صالة السينما الأشهر في سورية، ومن خلال هذا العمل الجميل بالنسبة لي، سمعت الكثير، والكثير عن قصص، وذكريات السينما، والأفلام، واكتشفت بأن الأفلام الهندية كانت مصدر الايراد الأكبر، والثروة الأكبر لموزعي، وأصحاب صالات السينما في سورية. وكان لي الحظّ بأنني شهدت على عرض مجموعةٍ مهمةٍ من الأفلام الهندية في سورية من خلال الأفلام التي كانت تُعرض في صالات السينما، أو دورات مهرجان دمشق السينمائي.

كان الحديث الأكبر عن فيلم "جنكلي" لنجم الهند الأول شامي كابور، وعن ظروف عرضه، حيث كان الدجاجة التي باضت ذهباً لموزعه، ومستثمره، حيث أنّ الفيلم قد ورد لسورية مع بداية ستينيّات القرن الماضي، وبالطبع، كانت تجارة الأفلام حرّة في ذلك الوقت، وكلّ شركات الإنتاج السينمائي في العالم لها وكلاء في دمشق، وقام يومها أحد تجار الخضروات في سوق الهال في دمشق بتجريب حظه، وشراء فيلم هندي كان اسمه "جنكلي" من شدة حبه للسينما الهندية، وقام باستئجار سينما الأهرام في دمشق لعرض الفيلم لمدة أسبوعين، والتي كان يملكها المنتج، والموزع السوري الكبير صبحي فرحات صاحب "شركة المتحدة للسينما"، وكان ثمن امتياز عرض الفيلم في سورية في ذلك الوقت 6000 ستة آلاف ليرة سورية، وقبل أن يتمّ عرض الفيلم في السينما، تخوّف من خسارة الفيلم، وقام بعرضه للبيع على أصحاب دور العرض، وبسعرٍ أقلّ من سعره المتداول، فلم يجد أحداً يتصدى لشرائه، وقام بعرض الفيلم، وفي الأسبوع الأول فشل فشلاً ذريعاً، وبدأ الأسبوع الثاني.

وكانت صالات السينما تقوم بتبديل الأفلام يوم الخميس، وتاجر الخضرة هذا اتى إلى السينما يوم الأربعاء ليُكمل آجار الصالة، ويسحب الفيلم، وعندما دخل الصالة، وجد على شباك التذاكر لوحة مكتوب عليها (لم يبق محلات)، فلم يبالي للأمر، واعتبرها نوعاً من المزاح، وصعد إلى مكتب صاحب السينما، ليُسدد الخسارة، فقال له صبحي فرحات:

ـ السينما كومبليه، ومحجوزة كلّ الحفلات سلفاً اليوم، وغداً، والجمعة، فلم يصدق، ودخل إلى الصالة، فوجدها فعلاً ممتلئة عن بكرة أبيها، واستمر عرض الفيلم لمدة ستة أشهر متواصلة في سينما الأهرام، وربما كان السبب أغنية (سوكو سوكو)، هذا الفيلم فتح الباب على مصراعيه لنجاح الأفلام الهندية، وبدأت حكاية أخرى بين الأفلام الهندية، والمشاهد السوري، حيث كنت اسمع عند بائعي تسجيلات الكاسيت أغاني الأفلام الهندية، ويومها كان يقوم بذلك تسجيلات صوت آسيا في مدينة حلب التي كانت مكاناً رحباً لنجاح السينما الهندية، وبالطبع، كنت ألاحظ في تلك الفترة من همّ روّاد الأفلام الهندية، فوجدت أنهم من طبقة العائلات الفقيرة، والشباب المدرسيّ، والملفت للنظر، أن غالبية المشاهدين السوريين لا يكتفون بمشاهدة الفيلم الهندي مرة واحدة، بل عدة مراتٍ قد تصل إلى حدود العشرين مرة، وأنا تعلمت بعض الكلمات الهندية من الأفلام، وكان من حسن حظي أني سافرت إلى الهند، وتحديداً بومباي عاصمة السينما، وسألت أحد سائقي سيارات الأجرة:

ـ لماذا تحبون السينما كثيراً في بلادكم.

فأجابني:

ـ لأن الدخول للسينما رخيص، وغير مكلف.

وهنا اكتشفت السرّ، بأن سحر السينما الهندية هو صديق القلوب المتعبة ... والاغنياء هنا لا يدخلون.

سينماتك في ـ  29 ديسمبر 2022

* هذه المواد نشرت في جريدة التيار السودانية، بتاريخ 13.06.2021

 

>>>

20

19

18

17

16

 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004