صلاح سرميني

 
سيرة جديد مقالات ملفات
 
 
 

ملفات

 

لاحق

<<

07

06

05

04

03

>>

سابق

 

الفنّ المفاهيمي

ترجمة: صلاح سرميني

 

   
     

الفنّ المفاهيمي هو حركةٌ من الفنّ المُعاصر ظهر في الستينيّات، ولكن، تعود أصوله إلى ما يُسمّى  ready-made لـ"مارسيل دوشا" في بداية القرن العشرين.

لا يتمّ تعريف الفن عن طريق الخصائص الجمالية للأشياء، أو الأعمال، ولكن، فقط من خلال المفهوم، أو فكرة الفن.

وعلى عكس الاعتقاد الشائع، لا يتعارض مع التعريف المُهيمن للجمال الفني قبل بداية القرن العشرين، كما عبّر عن ذلك "إيمانويل كانت" في (نقد إمكانية الحكم)، وبمُقتضاه "الجميل هو ما يُعجب الجميع بدون مفهوم"، في الواقع، إذا أثار عملُ مفاهيميّ الإعجاب، فإن سبب هذا التقدير ليس بالضرورة اقتصاره على مفهوم، أيّ أن مفهوماً يثير الإعجاب بدون معيار مفاهيميّ.

في عام 2010، "بيتر أوزبورن"، مدير مركز أبحاث الفلسفة الأوروبي الحديث في جامعة كينغستون في لندن، أثار جدلاً خلال محاضرة له بعنوان "الفن المُعاصر هو ما بعد مفاهيمي"(1).

 

 

 
من الأعمال جاهزة الصنع لمارسيل دوشا
 

البدايات

الفن المفاهيمي ليس فترةً محددة من الفن المعاصر، ولا حركة فنية منظمة، أو مجموعة مغلقة من الفنانين، ومع ذلك، يمكن أن نسمح لأنفسنا بتأريخ تيار الفن المفاهيمي بالمعنى الدقيق للمصطلح: ما بين الأعوام 1965 و1975 (ولكن، هناك بالتأكيد أسلافُ، وأتباع).

من بين المعارض المُؤسِّسة لتاريخ الفن المفاهيمي، ذلك الذي نظمّه "هارالد زيمان"، وجمع العديد من فناني المفاهيمية، وكان بعنوان (عندما تصبح المواقف شكلاً) خلال الفترة من 22 مارس، وحتى 27 أبريل 1969 في "مركز الفن الحديث، والمعاصر لمدينة بيرن".

وفي أوروبا بدأت "كاترين مييّه" الحديث عن الفن المفاهيمي مع أول تظاهرة كبرى لحركةٍ فنية جديدة تكوّنت أساساً من فناني أمريكا الشمالية(2).

ويُقال بأن الفنان الأمريكي "هنري فلينت" كان أول من استخدم عبارة "فن المفهوم"، كعنوان نصٍ عن الموسيقى نُشر في مجموعة " Fluxus: Anthology" عام 1961 ومع ذلك، هذا التعبير أبعد ما يكون عن التعريف الذي قدمه "جوزيف كوسوث": "الفن كفكرة، وكأنها فكرة (Art as Idea as Idea)، أو عن طريق مجموعة "Art and Language".

يُرجعُ "كوسوث" تاريخ الفن المفاهيمي إلى الأشياء الجاهزة الصنع ready-made  مثل "حاملة الزجاجات" 1914، أو "مبولة" 1917 لـ"مارسيل دوشا"، كما يعود هذا الاتجاه إلى لوحاتٍ مثل سلسلة "مربع أبيض على خلفية بيضاء" (1918) للفنان "كاسمير ماليفيتش"، أو في الآونة الأخيرة مع إبداع الفن المتناهي في الصفر(1956) لـ"إيسيدور إيزو" الذي اقترح استكشاف معطياتٍ جمالية افتراضية بحتة، يتوّجب علينا تخيلها.

لا ينشغل الفن المفاهيمي ظاهرياً بخبرة الفنان، ولا حتى بضرورة أن يكون العمل "منتهياً"، وذلك لأن الفكرة تمتلك الأسبقية على الإنجاز: بعض الفنانين، على سبيل المثال، لا يقدمون أكثر من مخطوطاتٍ لما يُمكن أن يكون عليه العمل، أو شروحاتٍ تُمكّن الجميع من تحقيقه، بمعنى، الفكرة تمتلك "القيمة"، وليس تحقيقها.

مع الفن المفاهيمي، نشهد، ولأول مرة في تاريخ الفن، على "تعبير فنيّ" يمكن له في الواقع أن يستغني عن الشيء كما يوضح ذلك الكتاب الفنيّ الذي يحمل عنوان "مناطق الحساسية التصويرية غير الملموسة" لـ "إيف كلاين"، أو على سبيل المثال، أعمال الفنانين في معرض بعنوان "مفهوم" في متحف بلدية مدينة ليفركوزين عام 1969 حيث "تُختزل إلى اللغة، مصحوبة أحياناً بصور هواة: صفحات من الورق كُتبت على الآلة الكاتبة تتجاور مع برقيات، ومسودات، ومجلدات، وأشرطة مغناطيسية، وللمرة الأولى، نزور قاعات معارض تبدو وكأنها غرف أرشيف(3) ".

 

 

 

مربع أبيض على خلفية بيضاء، كاسمير ماليفيتش
 

الانشغالات

كثيراً ما تمّ الخلط بين الفن المفاهيمي، والنشاط الذكي المُتطور حول إرسال رسائل موجزة جداً كي لا نؤكد على الطابع التحليلي لهذا الفن.

قال "بول فاليري" بأن الشيء الحقيقي الوحيد في الفن هو الفن نفسه، كما قال "أد راينهارت" بأن الفن هو فن بمثابة فن... وبتطبيقه على الرسم يأخذ اسم الشكلانية، علماً بأن اللوحة لا يجب أن تتحدث إلاّ عن اللوحة، وعلى الرغم من أن النصوص الأولى من الفن المفاهيمي عارضت هذه الشكلانية في مقابل منح الأهمية أكثر للمفهوم بالعلاقة مع الانشغالات حول الشكل، وتكوين اللوحة، لا يمكن للمرء نكران أن هذا القانون، الذي ذكره من قبل "كليمنت غرينبرغ"، يتوافق مع التعريف الذاتيّ للعمل الفني، والذي سيكون في جوهره قاعدة لفناني المفاهيمية: بالنسبة لهم أيضا، يجب أن يكون الفن استكشافاً لنفسه.

من جهةٍ أخرى، وفي إطار مجاله، ارتكز الفن التبسيطيّ على تنظيم الكائن الفني، وتساءل عن الاتفاقيات المُسبقة التي كانت مرتبطة به بشكلٍ عام.

يمكن اعتبار الفن المفاهيمي امتداداً لهذيّن الشاغليّن، في الواقع، النظرة التي تُحلل الموضوع أولاً، ثم سوف تتحرك نحو سياق عرضه، ولم يركز المفاهيميون على إعادة تعريف الكائن الفني، وبيئته المعمارية فحسب، ولكن على محيطه الاجتماعي، والأيديولوجي أيضاً، وحتى على سياقه النفسي، والفلسفي.

من ناحيةٍ أخرى، وفي علاقته مع الصناعة المُنتجة للنماذج القياسية، ساهم الفن التبسيطيّ في نهاية المثالية الحداثية التقدمية أكثر بكثير من تطوير أشكال جديدة في الفن، وقالها "دونالد جود" في وقت مبكر من عام 1963: "تطورات الفن ليست بالتأكيد أمراً شكلياً"، وفي عام 1967(4): "تحقيق شكلاً لا هو هندسي، ولا هو عضويّ، سيكون اكتشافا كبيرا".

وعلى الأرجح، ظهر هذا الاكتشاف مع الفن المفاهيمي الذي جعل "رينيه دينيزو" يُدلي بالتصريح التالي في نصّه "حدود المفهوم"(5) : "بتقديم لفن المفاهيمي للفن في شكلٍ مفهوم هي التيمة الجوهرية للفن، لأنه من خلال جلب الفن الى المفهوم، يجعله يأتي إلى الشكل الذي هو عليه، في الشكل الذي لديه. "

 

 

 

Sol LeWitt, long Pyramid, 1994

 

الفنانون

وبمُوجب هذا الشكل، يتخذّ الفنانون المفاهيميون مسافةً مع الكائن في عمل فنيّ، وهذا يؤدي إلى نشاط فنيّ حيث استخدام اللغة، ومشتقاتها (رسوم بيانية رياضية، قياسات المسافة، فهرسة السنوات ...) تنتهي بأن تكون الشرط الضروري، وغالباً كافياً لوجود عمل، ومع ذلك، عندما يستخدم هؤلاء الفنانين اللغة لقدرتها على تقديم تجربة بشكل أفضل، لا يعني هذا بأنه يمكن أن تكون مساوية للنقاد، أو الكُتاب، لأنه، على الرغم من أن الخطاب حول الفن هو استبدال الكائن، لا يكمن الغرض فقط في فكرة الفن، ولكن في إنجاز هذه الفكرة.

لم يشكل الفنانون المفاهيميون أبداً مجموعة متجانسة مع أن البعض منهم التقى لأول مرة بمناسبة معرض "ميل بوشنر"، المفاهيميّ جداً من خلال طريقة اشتغاله، وكان بعنوان (رسومات عمل، وغيرها من الأشياء المرئية على الورق، لا تعني بالضرورة أن تُشاهد كفن) في مدرسة الفنون البصرية في نيويورك عام 1966، وبعد ذلك عن طريق "سيت سيجيلوب" في معارض كانت مرئية فقط في صفحات الكتالوج.

في عام 1969 كانت هناك محاولة أخرى لجمع الجهات الرئيسية الفاعلة في الفن المفاهيمي من خلال صحيفة بعنوان (فن ـ لغة، صحيفة الفن المفاهيمي) (6)، والتي فيما بعد أعطت اسمها لمجموعة (فن، ولغة).

افترض الفنانون المفاهيميون بأن محادثاتهم فقط، وأنظمتهم النقدية إزاء الممارسة المقبولة للحداثة، كانت تشكل أساساً للعمل(7).

وبشكلٍ عام، منذ البداية تأكد اتجاهان: اختار الاهتمام الذي أثارته الرياضيات، السيميولوجا، الفلسفة، أو علم الاجتماع، بينما يُفضل الثاني مقترحاتٍ ذات شحنة شعرية قوية مرتبطة بالخيال، والزوال.

كما نجد أعمالاً تجمع بين الاتجاهين، وخاصة عند الفنانين الأمريكيين مثل: فيتو أكونسي، كارل أندريه، نانسي هولت، أو روبرت سميثسون، وعمد هؤلاء إلى توسيع التجارب اللغوية للشعر التجريبي.

أطلق الفنان "لورانس وينر" كتابةً: "فعل شيء محدد"، مثل رميّ الكرة في شلالات نياجارا، وقد تمّ ذلك، وأكد "وينر" بأن هذا الفعل يمكن أن يتحقق، أو لا يتحقق، لأن الأهم هو الاقتراح المكتوب.

وعلى نفس المنوال، خلال الفترة بين 19و 22 مارس 1969، أنجز الفنان الإنكليزي "ريتشارد لونغ" مشياً، وقدمه في معرض بعنوان (عندما تصبح المواقف شكلاً) في ورقة بيضاء مستطيلة تشير إلى اسمه، تاريخ، وعنوان العمل(8)، ولكن بالنسبة له، والمعروف عن التزامه بالمشي، وآلاف الكيلومترات التي مشاها، فإن تحقيق الفعل أمرٌ لا مفرّ منه.

 

 
 

Art and Language, Untitled Painting, 1965 Courtesy Tate Modern

 

مصادر

·     (Contemporary Art is post-conceptual /الفن المُعاصر هو فنّ ما بعد مفاهيمي)، بيتر أوسبورن (مدير مركز البحوث في الفلسفة الأوروبية الحديثة، جامعة كينغستون لندن).

·     قراءة في مؤسسة أنطونيو راتي، مدينة كومو الإيطالية، 9 يوليو 2010

·     ملاحظات، ومقاطع من نصوص حول الفن المفاهيمي لـ"كاترين مييّه" إصدارات دانييال تامبلون.

·     الموسوعة العالمية (Encyclopaedia Universalis.).

·     حوار مع "لوسي ليبارد" نُشر في (Art in America) يوليو/أغسطس 1967

·     Opus international، أبريل 70

·     Art & Language, Art-Language, Coventry, Art & Language, 1969

·     « Art & Language » Tate Modern, 2000.

·     مسيرة على أراضي الفن المفاهيمي، في مرصد فن الأرض (Observatoire du Land Art)23 أكتوبر 2012

سينماتك في ـ  19 يونيو 2019

* نُشر في جريدة الدستور العراقية، العدد 4345، 07 مارس 2019

 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004