صلاح سرميني

 
سيرة جديد مقالات ملفات
 
 
 

ملفات

 

لاحق

<<

07

>>>

04

03

02

01

>>

سابق

 

الأفلام المضغوطة

جيرار كوران

ترجمة: صلاح سرميني

 

   
     

في فترة الستينيّات، سنحت لي الفرصة باكتشاف السينما، وقتذاك كان من الممكن امتلاك لمحة مُركزة عن الفنّ السابع، كنتُ، على الأرجح، واحداً من آخر الأجيال التي استطاعت الوصول إلى تلك الرؤية العامة، أقول "كان من المُمكن"، لأنه، بعد عقدين، أو ثلاثة، بلغ انتشار الأعمال السينمائية درجةً بحيث أنّ أيّ شخصٍ يريد الإحاطة بهذه الرؤية، سوف يُخاطر بدفن نفسه في كتلةٍ مُكتظة بالأفلام.

كان الأمر أكثر يُسراً عندما أصبحتُ هاوياً عنيداً للسينما، وكانت السينمات الكبرى في العالم مقتصرةً على السينما الأمريكية، السوفيتية، الإيطالية، البريطانية، الفرنسية، اليابانية، وبعض السينمائييّن العباقرة المُنعزلين هنا، وهناك (دراير، بونويل، برغمان،..)، وبدءاً من الستينيّات، وبفضل اختراق الموجة الجديدة، وتقنية السينما المُباشرة، حصلت سينماتٍ جديدة على مكانٍ لها تحت الشمس : السينما الجديدة في البرازيل، وتمكنت سينماتٍ أخرى من الحصول على مساحة  في السماء الزرقاء : الواقعية الجديدة في بلدان أوروبا الشرقية سابقاً، السينما الحرّة في إنكلترا، السينما الجديدة في كيبك، والموجة الجديدة في اليابان. ....

ولكن، مع بداية التسعينيّات، لاحظتُ ظاهرةً جديدة: هناك أعدادٌ أكثر فأكثر من الهواة لا يعرفون شيئاً عن تاريخ السينما، والسبب، تزايد عدد الأفلام المُنجزة في العالم، حيث أصبح من الصعب على مرّ السنين امتلاك تلك النظرة العامة، وأكثر من ذلك، مع الاختفاء المُبرمج لنوادي السينما، والمجلات السينمائية المُتخصصة، لم يعدّ الهاوي المُبتدئ يمتلك علاماتٍ كافية لتشكيل رؤية واضحة عن تاريخ السينما.

من جهةٍ أولى، يتضاعف عدد الأفلام المُنجزة في كلّ بلد، ومن جهةٍ ثانية، يزداد عدد السينمات في الصناعة المُزدهرة بطريقةٍ مثيرة للانتباه دافقةً كلّ عام في الأسواق آلاف الأفلام الإضافية، وهنا لا أتحدث عن المُمارسات السينمائية المُوازية للنظام السائد، حيث تتفجر بدورها: السينما التسجيلية، التجريبية، النضالية، المُؤسّساتية، الإعلانية، العلمية، الإباحية، وتُضاف إلى الأعداد المُتزايدة من الأفلام التي أغرقت الصالات التجارية، بدون حسبان الأفلام التلفزيونية التي تتضاعف أرقامها باضطرادٍ بفعل تكاثر القنوات التلفزيونية.

المُحصلة: في التسعينيات وجد هواة السينما أنفسهم غارقين في زحمة الإنتاج السينمائي، وأصبح من الصعوبة متابعة كلّ شيء.

 

 

 
جيرار كوران
 

في مراتٍ كثيرة، ألتقي بهاوٍ شابّ، كانت تصيبني الدهشة عندما أكتشف بأنّ مُحاوري لا يعرف، أو يعرف قليلاً أعمال عظماء السينما الصامتة مثل: الأخوين لوميير، ميلييس، غريفيث، دراير، إيزنشتين، لهربييه، آبستاين، غانس، كيتون، دفجنكو، فيرتوف، أو مورناو،.. الذين كانوا، بالنسبة لأبناء جيلي، القواعد الأساسية للسينما (وهنا لن أتحدث عن سينمائيين أقلّ شهرةً مثل: أليس غي، ليونس بيريه، جان دوران، لوي فويياد، جيرمين دولاك،...والتي لا تعني أسماءهم شيئاً بالنسبة لهم).

بعد ذلك فهمت، بأنّ فئة هواة السينما التي أنتمي إليها كانت في طريقها إلى الاختفاء، فإذا كنا في التسعينيّات لا نعرف الكلاسيكيّات، كيف سوف يكون الحال إذاً في عام 2020، 2050، 2100؟ وأيّ علاجٍ يمكن تقديمه لإيقاف هذا النزيف.

وهكذا، فكرتُ بمفهوم يمنح الرغبة باكتشاف بعض تحف الماضي المجهولة اليوم، كانت الفكرة بسيطة للغاية، ضغط أفلاماً طويلة من ساعة، ونصف، أو ساعتين إلى 3 أو 4 دقائق، بحيث يمكن مشاهدة الفيلم كاملاً بطريقةٍ سريعة بدون أن يفقد لقطة واحدة من العمل الأصلي.

سوف يخطر في بالنا على الفور واحدٌ من أعلام الواقعية الجديدة، النحات "سيزار" الذي ضغط كل أنواع الأشياء في الستينيّات، لماذا لا نضغط الأفلام إذاً؟ كان هذا الفنان الموهوب يضغط أشياء من الاستخدامات اليومية، وخاصة السيارات، بينما فكرت بالهجوم على الأعمال الفنية، ولكن، كان الفرق ضئيلاً، لأنّ فعل التقليص هنا يحظى بالأهمية قبل كلّ شيء.

جاءت الفرصة في عام 1995 فترة الاحتفالات بمئوية السينما التي تقاطعت مع ذكرى ثلاثين سنة ـ عام 1965 ـ على اختراع شريط السوبر 8 عن طريق شركة كوداك، مهرجان "لقاءات من النوع الثامن" في مدينة "تور" الذي كان يُبرمج أفلاماً مُنجزة بهذه الشرائط (وقد استوحى عنوانه منها) طلب من بعض السينمائييّن المحترفين إخراج فيلم عن طريق هذا المقاس، وكنتُ الوحيد الذي استجاب للدعوة، وأنجزتُ وقتذاك تكريماً لعام 1965 بضغط فيلم شهير ظهر في ذلك العام، "Alphaville" لـ"جان لوك غودار".

 

 

 
ضغط فيلم ألفافيل لجان لوك غودار (نسخة سوبر 8 مللي 1995)
 

وبناءً على ردود الأفعال الإيجابية للجمهور، أكملتُ مشروعي بضغط أعمالاً عزيزة على نفسي لمخرجين مثل: بازوليني، جان لوك غودار، فرنر شروتر، فيليب غاريل، بارادجانوف، إيريك رومير، وحوالي 40 من أشرطة "الأخوين لوميير"، وعدداً كبيراً من الأفلام مع باستر كيتون، والممثلات ميرييل بالان، مارلين مونرو، جينا لولو بريجيدا، جين تيرني، بريجيت باردو، ...

الأفلام المضغوطة تنتمي بالآن ذاته إلى نظرية، وسياسة المؤلف، والممثل، وسينما غلب فيها تأثير النجوم على الإخراج إلى درجة أصبحوا في الواقع مشاركين في التأليف، هناك إذاً في سلسلة الأفلام المضغوطة تحف سينمائية، كلاسيكيات، أفلام متسلسلة، وحتى أفلاماً ضعيفة.

****

فيما يتعلق بالتقنية، والأسرار الصغيرةٌ في صنعها، كانت الأفلام المضغوطة الأولى طريقاً مليئاً بالعذابات التقنية، لأنني صورتُ كل فيلم صورةً، صورة من شاشة تلفزيون بعد تسجليه على شريط فيديو، وبعد سنوات، أضفتُ تحسيناتٍ، بإدخال الفيلم المُراد ضغطه في الكمبيوتر، واستقطاع صورة واحدة من كلّ لقطة، ولصقها متتابعةً الواحدة بعد الأخرى، وعلى الرغم من السرعة التي حصلتُ عليها، كانت العملية تجريبية، ومُملّة.

الحسبة سريعة: من أجل الحصول على فيلم مضغوط مدته من 3 إلى 4 دقائق، يجب أن أضع بشكلٍ مُتعاقب من البداية إلى النهاية ما بين 4300 صورة (لفيلم مدته ساعة، ونصف)، و5500 صورة (لفيلم مدته ساعتين).

مع هذا الإيقاع يلزمني أكثر من حياةٍ لضغط التحف الأساسية في تاريخ السينما، أخيراً، وبفضل نظام تقنيّ للمونتاج يضغط الأفلام أوتوماتيكياً، بتقصير الأفلام 25 مرة عن مدتها الأصلية، تمكنتُ من ضغط حوالي 350 فيلماً.

تُثير الفكرة عدداً من التساؤلات:

ـ هل يمنح الفيلم المضغوط أهميةً للفيلم الأصلي، ويثير الرغبة بمُشاهدته؟

ـ هل يحقّ لنا الاقتراب من أعمالٍ سينمائية سابقة، وأكثر من ذلك عندما يتعلق الأمر بتحف سينمائية؟

ـ هل بالإمكان إزالة الضغط، وإعادة الفيلم إلى شكله الأصلي؟

أدعُ المتفرج يجيب على السؤال الأول، لأنه يتوّجه إليه مباشرةً، وهو الوحيد الذي يستطيع الإجابة عنه.

وبالنسبة للسؤال المُتعلق بحرمة العمل الفنيّ، هل يحقُ لنا إضافة نظرة نقدية بتعديل عمل، وتحويله؟

بإمكاني القول، أنّ هذا الأمر قد تحقق سابقاً منذ أن أصبح الفنّ مُعاصراً، دعونا نتذكر الشاربيّن اللذين وضعهما "مارسيل دوشا" على لوحة "الجوكندا"، لم يكن أبداً هدف مُكتشف "الأعمال الجاهزة الصنع" الاستحواذ على لوحة "ليوناردو دافنشي"، ولكن، بدءاً من عملٍ سابق، أراد إنجاز إبداعاً آخر يختلف عن الأصل.

 

 

 
جوكاندا مارسيل دوشا
 

فيما يخصّ السؤال الثالث، نعم، من المُمكن إزالة الضغط عن فيلم مضغوط، وإعادته إلى حالته الأولية، في لحظة عملية الضغط، يفقدُ الفيلم 96 بالمئة من صوره، وأصواته، ومع الـ 4 بالمئة الباقية، يستطيع الكمبيوتر إعادة تشكيل الفيلم بكامله، حيث تتضاعف كلّ صورة 25 مرة، وكلّ واحدة تذوب بالآن ذاته في الصورة السابقة، واللاحقة، بحيث يتمّ إعادة بناء الفيلم المفكك عن طريق سلسلةٍ من التلاشي، والظهور المتواصليّن، لقد أقدمتُ على هذه التجربة مع فيلمين " À bout de souffle "، و"2 ou 3 choses que je sais d’elle " لـ"جان لوك غودار"، وكانت النتيجة مُذهلة.

وإذا تحدثتُ عن " À bout de souffle " كمثال ـ الذي أصبح (À bloc) ـ ندرك بأنّ الفيلم عانى من صدمةٍ إيقاعية: فقد أعيد تصميم حركة الفيلم تماماً، وتشكيلها، وصياغتها، وامتلك معنى جديداً، وتراجعت الحبكة البوليسية إلى المستوى الثاني، وهكذا طبعت العملية الجراحية التي أُجريت على فيلم "غودار" إيقاعاً موسيقياً، ومنحت الثنائيّ "بولموندو/ سيبيرغ" أسلوباً أكثر خفةً، وتحليقاً.

 

 

 

  À BLOC (رحلة في داخل فيلم على آخر نفس)

 

في نهاية المطاف، نهتمّ أكثر بحركات شخصياتٍ في المكان، وقصة حبّ "ميشيل بواكار" مع "باتريسيا"، أكثر من قصةٍ بوليسية مألوفة تماماً.  

سينماتك في ـ  18 يونيو 2019

* نشر في جريدة الدستور العراقية، العدد 4325، 07 فبراير 2019

 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004