شعار الموقع (Our Logo)

 

 

من بين الأسئلة التي تتبادر في ذهن المشاهد (والعربي في مقدمتهم) عند مشاهدته لفيلم يتناول حياة شخصيات يهودية: هل سيغالي الفيلم في محاباته لليهود ويرفعهم من سيرتهم الأولي أو الأخيرة ليقدمهم بالصورة النمطية للضحية، والتي ما فتئت الدوائر الإعلامية والفنية في الترويج لها؟ وهو ما شاهدناه في أفلام من قبيل فيلم البيانيست (بغض النظر عن صناعته السينمائية البارعة).

فالمسألة اليهودية بطبيعتها ذات أوجه متغيرة ومعقدة تستغل من أجل بلورتها جوانب فكرية واجتماعية وسياسية ودعائية بحيث يشق علي أي باحث أو فنان احتواؤها في قالب وحيد واضح المعالم. وبالمقابل نجد بأن مسائل تم تناولها سينمائيا (بأقل تقدير) كمسألة الهنود الحمر في القارتين الأمريكيتين والزنوج في أمريكا وحرب فيتنام والحرب علي العرب، نجد بأن هذه المسائل (رغم الافتراء بها) أكثر وضوحا وملامحها جلية ولا تحمل في تركيبتها ذلك التنافر كما هو الحال في المسألة اليهودية التي تملأ العالم بأنينها.. أو بتعبير آخر، الجلاد الذي ينتحل هشاشة الضحية، كما أراد لها آخر الأنظمة العنصرية.

في بداية فيلم الأب الذي قام بإخراجه وأداء دور الأب اليهودي ابراهام الممثل والمخرج الروسي فلاديمير ماشكوف ، نجد بأن المخرج يعدنا بمشاهدة حيوية تتناول صورة اليهودي حسبما تشكلت لدي العديد من ثقافات العالم: رجل طليق اللحية رثها، بعينين متقدتين ونهم لا حدود له للمال. تاجر منكب علي مراجعة حساباته وتدوين ما له وما عليه حتي شح منه البصر. وفي غمرة عمله، لا تفوته مراقبة ابنه الوحيد بينما يعزف ساعات طويلة علي آلة الكمان... يريد له أن يغدو عازفا مشهورا ولو تطلب منه أن يقسو عليه ويحرمه من حرية اللعب.

وماشكوف ممثل محترف يتقن جيدا التحول من وضع تشخيصي معين إلي آخر علي النقيض منه. ومن التوفيق بمكان أن تلك الحيوية في التمثيل انتقلت معه عند ممارسته الإخراج.. لا سيما وهو يتناول موضوعة مراوغة وبحاجة إلي تقنية تتحكم بمختلف تناقضاتها وبشتي أبعادها. شيء آخر يجب ذكره، وهو أن السينما الروسية ظلت محتفظة بقسط متزن من العقلانية والطرح التاريخي ولم تنضم إلي ركب هوليوود وحمي الإعلام والمال.

سفر دائم

تدور معظم أحداث الفيلم في مدينة أوكرانية فقيرة تدعي تولتشين وذلك في العهد السوفييتي، وتحديدا قبيل الحرب العالمية الثانية. وفي جزء من المدينة، يقبع الحي اليهودي حيث يعيش أهله كغيرهم من سكان المدينة.. مع فارق أنهم مأخوذون بالسفر وحالمون بنمط آخر للحياة. ابراهام ، وبجانب مراقبته لابنه ديفيد ووقوفه علي تجارته المستورة عن أعين النظام، يهوي جمع البطاقات المصورة وعلي استعداد بأن ينظر إلي الواحدة منها ساعات طوال دون أن يصيبه الملل. وفي غمرة تلك الحياة السئمة وأحلام السفر، يظهر فجأة صديقه القديم ماير فولف القادم من فلسطين. لا يصدق ابراهام عينيه. لا يصدق بأن ماير فولف يضحي بجوار حائط المبكي ويعود إلي المدينة الهامشية البائسة. غير أن ماير فولف العائد وهو ممتلئ بتجربة حية وليس مجرد أحلام تسرقه من واقع يرفضه، يحاول إقناع صديقه بأن الأرض الموعودة ليست سوي قصة صنعها خيال جامح، وبأنه لم يجد في فلسطين سوي أناس يبكون وآخرين يقتتلون: أورشليم يا صديقي، وكل الأرض الموعودة، هي بجوار من يحبونك، هنا في تولتشين أو في أي مكان آخر . ولكن ابراهام لا يصدق. يري جيرانه وهم يحزمون أمتعتهم ويرحلون. في كل يوم، منذ مطلع الصباح وحتي المساء، يطرق سمعه قضبان سكة الحديد، وفي كل ساعة يستيقظ فيه الحنين للسفر. وإذا كان الحال في فلسطين مثلما ذكر صديقه، فإن أي مكان يصلح ليكون البديل. إلي موسكو أو كييف، ولكن لا شيء يغني عن السفر (ألم تطير فكرة الأرض الموعودة من مكان إلي آخر قبل أن تحط في فلسطين؟!).

يكبر ديفيد ويسافر إلي موسكو فيلمع نجمه كموهبة موسيقية واعدة. يحتضنه الحزب ويعده بالكثير، وعندما يأتي ابراهام لرؤية الموهبة التي رعاها، ينكره الابن ويخجل منه أمام زملائه، فيعود ابراهام إلي تولتشين قبل أن يسعد بالتجوال في الساحة الحمراء. يعود ليموت ببنادق الغزاة الألمان، ولكنه ليس نادما علي شيء، بل فخور بولده الذي سيحمل اسمه.

رؤية أقرب للإنسان

علي الرغم من بعض الإحالات التاريخية لإبراز صورة اليهودي وأسلوب حياته وتفكيره، إلا أن ماشكوف سرعان ما يميط اللثام عن حس إنساني صميم لا يراهن إلا علي لحظة الإنسان في معاناته الأرضية الآنية، ليتضح بعدها أن استعاراته التاريخية جاءت لاعتبارات فنية لا أكثر. الإنسان وحيدا وقد أضناه الواقع والحلم معا: واقع الحياة في المدينة الصغيرة وحلم أرض الميعاد الذي انكشف عن سراب لا عن وطن. المدينة الأخري، موسكو. الحلم الجميل. سرقت ابنه وطردته منذ أول يوم لوصوله... فهل سيصدق ابراهام ما رواه صديقه المجرب ماير فولف بأن وطنه الحقيقي بجوار أولئك الذين يودون قربه؟ سيصدق ذلك، ولكن بعد أن يعرف ويجرب بنفسه طعم المهانة في الأرض الغريبة.

وهل لنا (بعد ذلك) القول بأن فيلم الأب محاولة لتسليط الضوء علي بعض تداعيات المشروع الصهيوني التهجيري وآثاره المدمرة علي اليهود والعرب وعلي كل من ينتزع من أرضه، سواء بقوة السلاح أو الخطاب؟!


* كاتب من عمان يقيم في موسكو

القدس العربي في 9 أكتوبر 2004

كتبوا في السينما

 

مقالات مختارة

حوار صريح مع المخرج السينمائي المصري محمد خان

عمر الشريف يفوز بـ"سيزار" أفضل ممثل

جوسلين صعب:السينما التسجيلية تمنح رؤية نافذة للاحداث

ناصر خمير: أفلامي حلم... وعندما تحلم تكون وحدك

      برتولوتشي: لقاء

رندة الشهال: أهل البندقية يحبونني

تاركو فسكي: بريق خافت في قاع البئر

 

 

صورة اليهودي في فيلم المخرج الروسي ماشكوف:

أورشليم ليست هناك بل في جوار من يحبونك!

أحمد محمد الرحبي *