جدل الرواية والفيلم: ربما من الصعب الجزم بأن الرواية قد استنفدت نفسها في السينما، أو حتى مجرد الادعاء بأن السينما، عبر تعاطيها المتواصل مع الرواية، قد استنفدت أنماط تأثير النصوص الروائية على المتلقي. كما إن ليس من مصلحة أحد اندثار جنس أدبي أو فني لصالح خلود نوع آخر. لكن من الوارد القول في الأدبيات السينمائية: إن جدلا فنيا وفكريا كبيرا ترك أثره العميق على مجمل العلاقة الجدلية بين الجنسين الفنيين ( الرواية والفيلم ) بشكل صاغ على نحو تاريخي/ فني أطر هذه العلاقة، التي يمكن تتبع أولى خيوطها مع بدايات السينما التي استفادت بقوة -كما هو معلوم - من الأدب عامة والنوع الروائي الكلاسيكي خاصة في مراحل نشأتها الأولى، لتظهر بعد انقضاء سنوات زاخرة بالمخاضات الفنية علامات مختلفة ذات دلالة عميقة، تشير إلى تأثر النوع الروائي الحديث بآلية العمل السينمائي وحداثته، خاصة مع رواج الموجات الطليعية وتيار الرواية الجديدة في فرنسا في المرحلة اللاحقة لتلك العلاقة. فيما كان الاتجاه الجديد الذي تبلور خلال هاتين المرحلتين، يمتص الخبرات ويستلهم خصائص الجنسين في نشاط فني يمزج تقنيات السينما بحداثة الرواية، وهو الاتجاه الأهم الذي تبناه جيل من الكتاب السينمائيين في أمريكا وأوربا، من الذين اخذوا يكتبون للسينما بتصميم مسبق، إلى جوار السينمائيين الذين حاولوا طرح أفكارهم عبر المدونة الروائية بوصفها شكلا تعبيريا أصيلا لرؤية العالم. في تلك المناخات لم يعد الجهد النقدي مقتصرا على قراءة الفن الأكثر انتشارا وتأثيرا، بل إن التباينات البنيوية لهذا الجنس أو ذاك والاستقلالية الجمالية لشكل الخطاب الفني في عمل ما، هي التي أصبحت ميدانا تأويليا مرجحا لعمل الناقد. لتلك الأسباب مجتمعة أصبحت صورة هذا الجدل العميق معبرة بشكل جلي عن الميل المبدئي إلى الإقرار بتقارب هذين الجنسين رغم استقلاليتهما النسبية، وهو ما يمكن فهمه ضمن مناخ حداثي عام، أشاع النقد ( ما بعد الحداثي ) فيه فكرة تداخل الأجناس الفنية والأدبية تحت مسميات إبداعية متقاربة ومبحث نظري بات معروفا بـ الايقونولوجيا. كتاب سينمائيون: بول اوستر إن مجموعة كبيرة من الكتاب السينمائيين الأمريكيين والأوربيين كانت جودة رواياتهم وقصصهم سببا في نجاح الأفلام السينمائية التي عالجت نصوصهم على الشاشة. كتّاب تتنوع مواهبهم بين كتابة الرواية والقصة والمسرحية والسيناريو السينمائي الذي يُعد بعضهم محترفا في كتابته بحكم تراكم الخبرات لديه خلال العمل مع مخرجين عالميين، من اؤلئك الكتاب: ( هارولد بنتر، بول اوستر، جون غريشام، كريستوفر هامبتون، جون آيرفنغ، ستيفن كنغ، مايكل كريتون، توم ستوبارد ). وبتنوع طبيعة نتاجات هؤلاء الكتاب الذين تتباين رؤيتهم للعالم والفن والانسان - ممن رفدوا السينما بدماء جديدة - تتنوع أيضا اتجاهات الكتابة السينمائية والأدبية بحيث يحمل كل عمل من أعمالهم بصمة خاصة وأسلوبا مميزا ينجذب إليه مخرج ما. لقد كان بعض النقاد يعد ( بول اوستر ) أحد ابرز الكتاب الأمريكيين الأحياء ولعا بالسينما. تصنف رواياته حينا مع تيار الواقعية القذرة في أمريكا، فيما يذهب البعض إلى اعتبار هذا التأثير السينمائي رافد مهم من الروافد التي شكلت عالم اوستر الإبداعي وأثرت فيه بقوة. درس اوستر في أمريكا وعاش بعض حياته في أوربا قبل أن يقيم في نيويورك. اصدر أول رواياته عام 1982، ثم أنجز ثلاثية نيويورك ( مدينة الزجاج، الأشباح، الغرفة الموصدة ) خلال عامي 1985 – 1986، وقد حققت نجاحا مدويا بين أوساط القراء والنقاد، فأعيد طبعها عدة مرات وفي اكثر من بلد أجنبي، ثم تلاها برواية ( قصر القمر ) و ( بلاد الأشياء الأخيرة )، وكانت ( موسيقى الحظ ) روايته السابعة عام 1990، تمثل إحدى أهم أعماله واشدها ذكاءا وعمقا وبراعة. وبسبب إن طبيعة سردها الروائي يسمح بصياغة سينمائية لأحداثها، تحولت ( موسيقى الحظ ) أو موسيقى الصدفة إلى فيلم سينمائي رصين ومؤثر انتج عام 1993، عرض في برنامج نظرة خاصة في مهرجان كان ونال إعجاب وتعاطف الأوساط الفنية، لا سيما انه العمل الروائي الأول للمخرج ( فيليب هاس ) وأول فيلم يخرج عن رواية لـ ( بول اوستر ). عمل ( هاس ) في المسرح البريطاني واخرج تسعة من أفلام الفنون التشكيلية عن بعض الفنانين العالميين، وفي أوربا كان قد تعرف على الروائي ( اوستر ). لقد جاء فيلم ( موسيقى الحظ ) متأثرا بأسلوب السينما الأوربية واقرب إلى السينما المستقلة منه إلى سينما هوليود. صور الفيلم في أربعة أسابيع وكلف إنتاجه قرابة المليوني دولار. وقد اشترك اوستر مع هاس في كتابة السيناريو، إضافة إلى اشتراك ( بيلندا هاس ) زوجة المخرج في الكتابة إلى جانب قيامها بالمونتاج. موسيقى الحظ ومعنى العبث:
قصة الفيلم بنيت بشكل عام على حكاية طريفة تقترب من أدب العبث. ببساطة
شديدة يلتقي ناش ( الممثل ماندي باتينكين ) وهو يقود سيارته في طريقه إلى
نيويورك بشخص غريب يدعى جاك ( الممثل جيمس سادر ) فيقرر أن يحمله معه من
قارعة الطريق. ويدور بين الشخصين حديث عابر، نعلم من خلاله ؛ أن ( جاك ) هو
لاعب ورق محترف لم يحالفه الحظ غالبا، فيما يوحي الآخر بجملة متاعب شخصية
لا يصرح بها. بعد توالي مشاهد سريعة، يوجه ( ناش ) دعوة لصديقه في أن يقيم
معه في الفندق ويقترح عليه أن يقامر باللعب لحسابه، لأنه يمر بأزمة مالية
كبيرة بعد انفصاله عن زوجته ووفاة والداه. وإذ لا يوجد شئ يمكن لجاك أن
يخسره يوافق على هذا العرض، ويذهبان لمنزل فخم يقيم فيه أخوين ثريين سبق
لهما اللعب مع جاك. وبعد عدة جولات مؤثرة ذات إيقاع مشدود، يخسر ( ناش ) كل
ما لديه من أموال في بداية الأمر، ومن ثم يخسر سيارته التي رهنها أثناء
تصاعد وتيرة اللعبة، ليقترض بعدها عشرة آلاف دولار من الأخوين في محاولة
يائسة للمراهنة على فوز محتمل. لكن اللعبة تنتهي بخسارتهما النهائية
والأكيدة هذه المرة. وفي أجواء من المزاج الرائق والحكمة الغامضة، يقترح
الأخوان على خصميهما ( ناش وجاك ) أن يسددا المبلغ عبر بناء سور كبير من
عشرة آلاف حجرة في حديقة القصر الذي يسكنان فيه. وتأكيدا لعبث عصرنا وبشاعة
أناسه يتضح لنا فيما بعد إن هذه الأحجار تعود بالأساس إلى كنيسة قديمة ذات
معمار فني له طراز خاص، وقد جلبت من مكان بعيد، حينما اشتراها الأخوان
الثريان كنوع من إثبات قدرتهما على امتلاك أي شئ. يفرد المخرج ببراعة لقطات
الفيلم اللاحقة لتصوير المعاناة والصمت والآلام والإهانة التي يشعر بها (
جاك وناش ) صانعا بذلك مشاهد رائعة تحمل الكثير من أسباب التأمل والتفكير.
فتلك بمعنى كامل لحظات يومية مكرورة تشعرك بالخيبة واللاجدوى من المضي
الحياة. إذا اعتبرنا إن البناء الدائري للفيلم يمثل محورا مركزيا في صياغة الاتجاه السردي للفيلم، فثمة على مستوى الموضوع، تأويل ضمني لسيادة العبث على الحياة بشكل نهائي، بوصفه صورة منطقية لعد الحياة دائرة مغلقة، يبنى الوجود فيها على مصادفة كونية. وبقراءة أخرى مقاربة لمحتوى الفيلم الروائي، تكمن في الأخوين صورة السلطة وفروضها التعسفية على حياة الفرد والخانقة لحريته. تلك السلطة الاحتكارية التي بقرار مزاجي كانت قد حولت الجمال إلى رمز للعقاب الجسدي والقهر النفسي. إنها سلطة رأسمالية حديثة تعي إمكانياتها وقدراتها على احتواء الآخر وتدميره. وأمام قوة شمولية فاعلة من هذا النوع نرى كيف إن الفيلم اظهر المسافة الفاصلة بين الشخصيتين الخاضعتين للعقاب نفسه: ( ناش ) العقلاني الذي يحسب لكل شي حسابه، و ( جاك ) الحسي المندفع الذي يراهن بكل ما يملك لمجرد خوض مغامرة جديدة. كان ناش نموذجا تقليديا للشخص الهادئ الذي يتعقد بثقافته ويحترم مظاهر الحضارة التي يتنعم بها الناس من حوله، ويرى أن ثمة أمل دائما لتجاوز المحنة. أما ( جاك ) الذي يؤمن بالمصادفة وحدها، فهو من النوع المتيقن أن الحياة لا معنى لها ولا تساوى بنظره اكثر من لحظة عابرة يمكن أن تعاش بمتعة. ( موسيقى الحظ ) فيلم عن مفارقة الحياة والصداقة والحظ ومعنى الخسارة والربح. أما من زاوية نظرته الخاصة والمتفردة للموضوع وأسلوب معالجته، فيقترب هذا الفيلم كثيرا من أعمال السينما المستقلة ذات الإنتاج البسيط والأفكار الجادة. لقد اثبت ( فيليب هاس ) بفيلمه هذا، انه أحد اؤلئك المخرجين القلائل الذين بذكاء اختياراتهم وحدة تصوراتهم وجرأة تفكيرهم، يستطيعون إخراج السينما الأميركية من خيمة هوليود المتهرئة نحو فضاء فني رحب. موقع "إيلاف" في 30 سبتمبر 2004 |
برتولوتشي: لقاء |
حداثة الرواية السينمائية: موسيقى الحظ بين أوستر وهاس أحمد ثامر جهاد |