شعار الموقع (Our Logo)

 

 

انتهى المخرج السينمائي سمير ذكرى من تصوير فيلمه الجديد <<علاقات عامة>> الذي تنتجه المؤسسة العامة للسينما، وهو الفيلم الرابع الذي يقدّمه المخرج في إطار المؤسسة، بعدما شارف على النجاة بأعوامه الستين، بعد <<حادثة النصف متر>> و<<وقائع العام المقبل>> و<<تراب الغرباء>>.

يقدم الفيلم تيمة مثلث الحب المعادة مراراً وتكراراً في عالم الفن، ولكن هذه المرة في مناخ فاسد، ملوّث بالسلطة، لتعكس شخصياته الثلاث زيف العلاقات الاجتماعية وكذبها، وليعاين عبرها <<كل خصوصيات مجتمعنا العربي وتناقضاته، فتتداخل العواطف والمصالح الخاصة والقوى الاجتماعية لتلعب دورها في تشكيل الفضاء الذي تتحرّك عبره الشخصيات>>.

يحكي الفيلم قصة فتاة تعمل دليلاً سياحياً (سلافة معمار)، أحبت رجل أعمال متنفذاً، ثم لا تلبث أن تكتشف أنه يتعامل معها كعشيقة بالمعنى المبتذل. فتتركه لتدخل في حالة البحث عن الذات (ولا يبتعد ذلك عن كونها دليلاً سياحياً وظيفته البحث في ماضي الأشياء). تتعرّف الفتاة أثناء عملها على شاب مسيحي (فارس الحلو)، سرعان ما يدخلان في الحب، لكنهما يقعان في محظور الدين الذي لا يسمح بزواج مسيحي من مسلمة. يتزوّجان، ثم يدخل العشيق السابق ورجل الأعمال (سلوم حداد) على الخط ويحاول ابتزاز الطرفين بحجة أنه صديق العائلة. يدخل إلى حياتهما، يحاول تقديم إغراءات للزوج المهندس عبر تأمين فرصة عمل له، كما يحاول فك العلاقة بينهما عبر محاولة استعادة المرأة كعشيقة، وعبر تشكيكها بمعنى الأشياء ولا جدواها.

أول ما يتّضح من الحكاية صعوبة مرورها في عمل تلفزيوني لا تقدر عليه رقابة مؤسسةٍ كالتلفزيون السوري، بسبب محظورات واضحة، وربما تقدر عليه مؤسسة السينما لترفع عبره، ولو لمرة، راية الانفتاح واتساع الهوامش. فالعمل بدأ فعلاً كنص تلفزيوني كتب منه أربع حلقات، يقول عنها المخرج: <<استمتعت بها بسبب الحوار التفصيلي، فإذا كانت السينما نوعاً من التلميح، فإن الشكل التلفزيوني يمنحني متعة إدارة الحوار والمماحكة، أي ذلك الشيء الذي نحبّ. الشكل التلفزيوني يعطي فرصة لتطوير تفاصيل يصعب تطويرها سينمائياً، وإذا قدّر لي أن أعيد التجربة تلفزيونياً فلن أتردد>>. وحول ما إذا كان المخرج يرى أي فرق في طواعية هذه المادة أو تلك لعمل تلفزيوني أو سينمائي يقول: <<الفرق ليس في قابلية المادة نفسها بل في أسلوب المعالجة>>.

لكن العمل لم ينجُ من رقابة أشد في المؤسسة العامة للسينما، التي أرسلت السيناريو بدورها، وفي خطوة غير مسبوقة في تاريخ السينما السورية، إلى بطريركية الروم الكاثوليك. وكذلك إلى وزارة الأوقاف. والسبب هو بطل الفيلم ذو الشخصية المسيحية الذي يتزوج من امرأة مسلمة. الجهة الأولى، لحسن الحظ، لم تعترض ولم يكن لديها أي ملاحظة، بل وجّهت شكراً لمؤسسة السينما على تقديمها الأفلام الجادة. أما وزارة الأوقاف (حسب المخرج) فقد أشارت بأنه لا يمكن للشخصية المسيحية أن يتزوّج من مسلمة إلا بإشهار إسلامه. المخرج الذي أذعن لرأي الأوقاف وأجرى التعديلات اللازمة (لم يصرح بطبيعة التعديل وقال: سترون كيف عالجنا الأمر حين يظهر الفيلم). يقول: <<إن لبعض المشايخ رأياً آخر يعتبر أن الأمر جائزاً إذا تعهّد الزوج المسيحي باحترام دينها وطقوس عبادتها>>. ويضيف مستغرباً: <<من وجهة نظري، نحن أخذنا شخصيات تتجاوز كل القوانين فهل يصعب عليها تجاوز قوانين الدين؟ أرى أيضاً قصور رجال الدين عن إيجاد فتاوى تتجاوب مع العصر. إنها مشكلة، بيروقراطي مدني يحيلك إلى بيروقراطي ديني. وما تطرّقي في فيلمي السابق إلى شخصية عبد الرحمن الكواكبي إلا لأنه ساهم بحل مشكلات أعمق>>.

وإذا كان الجنس جزءاً من موضوع الفيلم كما توحي العلاقات الفاسدة التي ينوي العمل فضحها، أو حتى ما تتطلّبه علاقة الحب التي يقوم عليها الفيلم، فكان لا بدّ من السؤال عن دور الرقابة في تحديد الجرعات المسموح بها. يجيب المخرج: <<لم نستطع أن نظهر الجنس في الفيلم لسبب ليس رقابياً: لا أستطيع إجبار ممثل على ذلك طالما أنه يرى نفسه مكبّلاً بقيود اجتماعية تمنعه. وكان عليّ أن أستفيد من ذلك وأقدّمه في إطار حيائنا الشرقي>>.

من الواضح أن مهنة السينما في بلدنا محفوفة بالمتاعب، حيث الرقابة وضعف الإنتاج والبيروقراطية وسوء التقنيات وضعف كوادر التقنيين. ولكن هل الفيلم سوى مجموع تلك الجهود؟ ألا تكفي كل تلك المشكلات لتدمّر فيلماً، حتى تُتبَع بمشكلات تخص طاقم العمل نفسه؟! ما نستغربه تعاقب ثلاثة ممثلين نجوم على أداء شخصية واحدة ثم الاعتذار لأسباب مجهولة، هم جمال سليمان، بسام كوسا، غسان مسعود، قبل أن يرسو الأمر على الفنان سلوم حداد. والأكثر غرابة، أن المخرج لا يريد أن يعترف أن خللاً ما يكتنف الأمر، ربما حفاظاً على سمعة الفيلم، فيجد فتوى للأمر: <<كنت أريد من الأول الوسامة الطاووسية، والتي تملك في الوقت نفسه القدرة على تخريب العالم. ومن الثاني قوة النحيل الشاحب، الناعم والدقيق، أما سلوم ففيه النموذج الأوضح للواقع؛ الجهامة والنفوذ الذي يمكن رؤيته بالعين المجردة>>. إننا نملك القدرة مجدداً على شرعنة الاستثناء، بل وتدعيمه بمفاهيم علمية. أن ينصحك الآخرون للجوء إلى أحد الفنانين المتنفذين كي يساعد في تمرير فيلمك هو أمر مفهوم، ولكن هل تسمّيه مستشاراً درامياً؟! وهل هذه هي الضريبة؟ أقول له إن مصطلح الاستشارة الدرامية يقابله في اللغات الأجنبية مصطلح الدراماتورج، ما يعني وظيفة مختلفة تماماً، ويصرّ هو على كلمة (استشارة) لأنها تترك الباب واسعاً لوظيفة جديدة، هي من يمرّ بالفيلم عبر الدهاليز الرسمية، ناصحاً المخرج بالتخلص من هذه الفكرة المجنونة أو تلك. ثم ألا نستطيع أن نعتبر ذلك نوعاً من <<علاقات عامة>> يدينها الفيلم؟!

تتعدّد مشكلات السينما في سوريا وتتفاقم، ويبقى عنوانها مشكلة واحدة هي الرقابة، التي استطاعت عبر عقود أن تفرّخ رقابات؛ سياسية ودينية واجتماعية وسواها. ولكن أخطرها على الإطلاق رقابة المبدع على نفسه، كتلك التي أشار إليها المخرج حين تحدث عن خوف الممثل من الجنس على الشاشة متذرّعاً بنظرة المجتمع الزاجرة. كيف يمكن إذاً لممثل مكبّل ومقيد أن يكون حراً على الشاشة؟ ألا يقودنا ذلك إلى القول: إن مجتمعاً مقيداً لا يمكن له أن ينتج سينما حرة؟

السفير اللبنانية في 23 سبتمبر 2004

كتبوا في السينما

 

مقالات مختارة

حوار صريح مع المخرج السينمائي المصري محمد خان

عمر الشريف يفوز بـ"سيزار" أفضل ممثل

جوسلين صعب:السينما التسجيلية تمنح رؤية نافذة للاحداث

ناصر خمير: أفلامي حلم... وعندما تحلم تكون وحدك

      برتولوتشي: لقاء

رندة الشهال: أهل البندقية يحبونني

تاركو فسكي: بريق خافت في قاع البئر

 

 

سمير ذكرى يُنهي تصوير فيلمه "علاقات عامة"

بيروقراطي مدني يحيلك على بيروقراطي ديني

راشد عيسى