منذ انبعاثها في نهاية السبعينات تبرهن السينما الاميركية عن تمتعها بصحة من حديد. وللاحاطة بالاسباب لا تملك النخب الثقافية الاوروبية ولا سيما الفرنسية الادوات المفهومية المناسبة. فالبعض يفترض ان النتاج الثقافي يستجيب حاجات ايديولوجية محايدة فيما ينظر البعض الآخر الى السينما على انها مرآة للمجتمع وينظر الى الافلام الاميركية على انها التعبير الحرفي لامبريالية واشنطن. اخيرا فإن تصنيف محبي السينما للافلام بين "الجيد" و"الرديء" يضع الجيد في خانة من يحتقر الثقافة الجماهيرية. وقد انتقلت عدوى هذه الثقافة من الدرجة الثانية تدريجا الى السينما الاميركية. فأفلام من نوع »المصارع« (٠٠٠٢) و»بيرل هاربور« (١٠٠٢) الموجهة الى الجمهور العريض تبقى بالنسبة الى الصغار محط تسلية وانبهار لكنها تبلور في موازاة ذلك استراتيجيات جمالية موجهة للكبار. وان هذا التلاقي في الاستهداف هو الذي صنع نجاحها. على مثال »تايتانيك«، يروي »بيرل هاربور« قصة حب على خلفية كارثة لا مفر منها ويقوم تأثير الحكاية على تهويمة تظهر اميركا في حالة عجز عن حماية مواطنيها من مدنيين وعسكريين من هجوم مباغت تشنه قوة اجنبية غير بيضاء فوق جزيرة تشكل جزءا لا يتجزأ من الاراضي الاميركية. وبعدما دفعوا غاليا ثمن لامبالاتهم بالاذلال والعذاب، يرفع الاميركيون رأسهم مجددا بفضل رئيس قوي ينقل الحرب الجوية الى عقر دار العدو. بالطبع، لم يستشرف "بيرل هاربور" لا الحادي عشر من ايلول/سبتمبر ولا عمليات القصف في افغانستان لكنه يصور في الواقع اميركا اليوم اكثر منها اميركا الحرب العالمية الثانية. فالهجوم الياباني يستخدم كمادة اولية لبلورة تهويم امبريالي معاصر بامتياز. لكن هذا النوع من التحليل لفيلم "بيرل هاربور" لا يأخذ في الاعتبار توليفته الجمالية واصطناعيته حيث لا شيء يبدو حقيقيا. واذا كان "بيرل هاربور" يستدعي الماضي فهو لا يلتفت الى الاحداث التاريخية بقدر ما يستعيد سينما الاربعينات والخمسينات التي يخصها بإطراء ناعم يتضاعف من خلال جمالية الفيلم الاعلانية. فممثلات الفيلم الاقرب الى التماثيل في تسريحة الشعر والماكياج يجسدن في الوقت نفسه شخصيات ونسخاً عن لورين باكال او فيرونيكا لايك. اما الممثلون المتمنطقون في بزاتهم او قمصانهم على موضة هاواي فيفخمون حواراتهم التي عفا عليها الزمن من دون ان يدعونا ننسى انهم يلعبون ادوار طيارين بطوليين من زمن سينما الاسود والابيض. وفي نمط ثان من انماط النظرة من بعد، يدعي "بيرل هاربور" الاعتقاد ان من الممكن اليوم سرد حكاية وفق اسلوب "الكوميك بوك" من الاربعينات. واذ يلعب على اوتار العاطفة والوطنية المبالغ فيهما لكن المجردتين من اي صدق، يغرق الفيلم في طفولية مفرطة، هنا ايضا، تفك الارتباط مع السذاجة التي يحاول استعادتها. اخيرا، وعلى غرار جميع الافلام الموجهة الى الجمهور العريض، يبدو "بيرل هاربور" مفتونا بتقنياته الخاصة وقدرته المالية. فالكاميرا لا تنفك تذكّر المشاهد بالمبالغ الضخمة التي وُظّفت في اعادة تكوين الديكورات وخصوصا من طريق الصور المركبة. ففي لفته الانتباه الى قدرته المرئية، يقترب "بيرل هاربور" من اللوحة الواقعية المفرطة عندما يقدم مثلا في الوقت الحقيقي وفي منظور واحد مسار القنبلة من لحظة اطلاقها حتى اصطدامها بالهدف، فيغرق المشاهد في عالمه الخيالي وفي نظرة اعجاب تقيّم المشهد عن بعد. تشترك انماط الابتعاد الثلاثة هذه في بناء جمهور منفصم مدعو للارتباط العاطفي بالشخصيات مع شعوره بأن ما يراه موجه للاطفال. لا يمكن المشاهد الراشد ان ينسى نفسه في الفيلم كونه محشوراً بين رواية محكمة البناء ونزعة الحنين الى سينما الماضي والاستعراض التكنولوجي واللهجة الطفولية والمشاعر العنيفة. يدفع فيلم "المصارع" بهذه الآلية الى نهايتها المنطقية. فروما هي سور الحضارة الوحيد في وجه البربرية، وتستخدم تفوقها التكنولوجي الساحق للمحافظة على النظام الدولي وإن كان الثمن التضحية بأرواح جنودها. احد هؤلاء، الجنرال مكسيموس، يفقد حظوته بعد محاولة انقلاب. من جهته الامبراطور الجديد الماهر يستأنف بسرعة العاب السيرك تجاوبا مع رغبات الجموع. واذ يتحول مكسيموس مصارعاً فإنه يواجه ديماغوجيا الامبراطور ويتمكن من التغلب عليه في الحلبة، اي انه استخدم اللغة الوحيدة التي يفهمها شعب روما وهو مشهد العنف. هذا التهويم الذي يصوّر اميركا على انها شرطي كوني يمثل احادية القطب السائدة اليوم في الولايات المتحدة، يُستخدم كخلفية لخطاب اكثر دقة. فعلى المستوى الفني، يعتمد هذا الفيلم الموقف المعاكس لـ"بيرل هاربور" ويختار القطيعة مع التقليد الهوليوودي. وفي استيحاء من الرسم النيو كلاسيكي في القرن التاسع عشر فإن الصور والديكورات والملابس تتعارض بتصنع مع الانتاجات السينمائية الضخمة والبراقة من مرحلة التكنيكولور في الخمسينات والستينات . لكن هذه الرغبة في التمايز ليست سوى التعبير المرئي الباهر لتصوير العلاقة بين النخب الاميركية ومواطنيها. يقوم فيلم ريدلي سكوت على تعارض بين ارض المعركة حيث العنف العسكري اصلي وحضاري وبطولي، وبين حلبة المصارعة حيث يستلذ الشعب بالمشهد المزور والمجاني ويمارس البصبصة على العنف. وكما ادرك الامبراطور الجديد، فلقد نسي الرومان العنف الحقيقي الذي يرتكز عليه نفوذهم وباتوا يعيشون في عالم افتراضي من المشاهد الجماهيرية. ليس المطلوب ابدا من البطل ومن اعضاء النخبة المستنيرة اخراج الشعب من سباته بل على العكس فإن مكسيموس سيستخدم القوة الباهرة لفرض نظام جديد. ومن طريق التضحية بذاته ليقتل المغتصب في الحلبة، يقوم مكسيموس بانقلاب ينقذ الشعب من نفسه. وفي نهاية الفيلم، وحدهم المشاهد والنخبة يعرفون ان النظام الجديد اكثر عدالة من سابقه. فالشعب العادي شرع للتغيير الاداري من خلال التصفيق. وهكذا يضع مشهد الفيلم العنيف المشاهد في وضع المتفوق على الجمهور المسحور بما يتمتع به من عنف. واذ ينزعج ريدلي سكوت من غباوة الجمهور »وهو يحتاج اليه كمبرر لوجوده« فإنه يسعى الى إيصال فكرته المتعالية الى المشاهد. يمكن الاعتقاد ان هذه الظاهرة خاصة بالصناعة الهوليودية لكنها ليست استراتيجية تجارية بقدر ما هي طابع ثقافي مميز يمتد افقيا الى السينما الاميركية ككل ويمكن العثور عليه لدى المؤلفين المعروفين في التسعينات: ديفيد لينش المتخصص في التقليد الساخر لافلام المراهقين من الخمسينات في "بلو فلفت" والمسلسل التلفزيوني"توين بيكس" او افلام مارغريت دوراس وألان روب ـ غرييه في "لوست هايواي"، تيم بورتن الذي يفرح بعمليات الابادة في اميركا الخلفية في "هجوم المريخ"، الاخوة كوين او كوينتن تارانتينو الذين يبنون افلامهم على التلاعب الماهر بأنماط السينما الاميركية، مضافاً اليه موقف متعال معلن تجاه مواطنيهم . بعد الحادي عشر من سبتمبر نلاحظ عودة الى الاسلوب الهوليوودي المسطح مع افلام مثل "عملية اسبادون"، "كنا جميعا جنوداً" او "اضرار جانبية" التي تبرهن بأن قسما كبيرا من الصناعة السينمائية لا يتردد في تبني اكثر الجوانب محافظة في السياسة الخارجية التي تنتهجها ادارة بوش" بيرل هاربور" و"المصارع" يعتمدان هما ايضا الايديولوجيا العسكرية الاحادية الجانب والعنصرية والذكورية الرائجة في وسائل الاعلام الاميركية وتقوم اعادة تأكيد السيطرة الدولية الاميركية في صلب هذين الفيلمين لكن وفق النمط الطفولي والمرائي الذي يميزهما. بعد حرب فيتنام والفردية الرجعية في سنوات ريغن وبعد حرب الخليج، لا تراهن هذه الافلام الا جزئيا على الاسطورة الامريكية المدعمة بالمصالح المشتركة لمواطنيها والقائمة على نظام القيم. وفي هذا المعنى فإن البراءة المفتعلة لافلام مثل "بيرل هاربور" و"حرب النجوم" او "سبايدر مان" تفضح الموقف المتشكك بقدر ما تبرهن عن انتهازية تجارية. لكن الشك لا يولد سوى صلافة "المصارع" الذي يضحي بنفسه من اجل أمة من الاغبياء. تعتبر هذه الافلام على المستوى الشكلي أنها تلوث السينما الاميركية بسمات ما بعد الحداثة »المسافة، الواقعية المبالغة، الانبهار/النفور، الاشارة الى الذات، التصوير الداخلي الخ« وتنتج رؤيتها للعالم عن هكذا مسافة لبلادة معقدة تضاعف من مداخيل صناعة الاعلام وتخدر العقل بالمديح. في كلام آخر، ان الوقوف على مسافة من الموضوع يعارض نهج برتولد بريشت الذي كان يطرد المشاهد خارج الحكاية كي يسمح له باكتشاف الحقائق الاجتماعية التي تقوم عليها هذه الحكاية. على العكس فإن هذا النوع من السينما يبني عالما خانعا. فمن خلال وضعها المشاهد في حالة فوقية ينظر ولا ينخدع، تؤكد هذه السينما ان التماهي مع اي شيء، فيلما كان ام مثالا اعلى، هو دليل براءة مربكة. وما يحدث في السينما ليس سوى نسخة فاخرة عما يحدث في التلفزيون سواء عبر الاقتلاع من الواقع من خلال نشرات الاخبار اليومية او بالحلقة الفصامية الخاصة بتلفزيون ـ الحقيقة. في انظمة التصوير الجديدة هذه، حل التقهقر والشعور بالتفوق محل الوقائع الانسانية والخرافات. ويؤدي هذا التقهقر والتفوق الى بناء المشاهد المثالي المهووس برغبة الخروج من صفوف القطيع والمدرك لموقفه التقهقري الخاص وهو من الصلافة بحيث يتقبل هذا الموقف. الأيام البحرينية في 14 سبتمبر 2004 |
برتولوتشي: لقاء |
سيلفستر ميننجه |
|