شعار الموقع (Our Logo)

 

 

وكانت ساعة صفرنا تبدأ «بالأستاذ فؤاد جوّه» هكذا يقول لي فراش مكتب شركة أفلام تلحمي عندما يراني داخلا من الباب.. والأستاذ فؤاد هو فؤاد نويرة شقيق عبدالحليم نويرة الموسيقار المعروف.. وقد كان من عادته أن يحضر قبلنا جميعا... ونحن عبدالعزيز سلام كاتب الأغاني والسيناريو أحيانا ونجيب محفوظ وأنا كمال عطية... وكنا نجتمع في قاعة استقبال الشركة لنمثل هيئة صغيرة من كتاب سيناريو فيلم «مغامرات عنتر وعبلة»، الذي ستنتجه الشركة التي كان يمثلها في هذا  الاجتماع عدد من الكراسي الخالية لأن مسئول الشركة وهو جبرائيل تلحمي يثق فينا ولا يحب أن يحضر إلا في  نهاية وصولنا إلي هيكل السيناريو  النهائي ليناقشه إنتاجيا معنا.. وكان كذلك كرسي المخرج خاليا من صلاح أبوسيف لثقته فينا وفي نفسه من أنه سيخرج فيلما محبوك السيناريو مضمون النجاح... وكان من عادة صلاح أن يحضر كلما وفرنا له عددا من المشاهد يمكن مناقشتها معه.. ويمكن أن يوافق عليها بسهولة... والسهولة هنا كانت متوفرة لأني كنت أنا مساعد المخرج الأول واقتناعي بما أنجز في السيناريو يسهل اقتناع المخرج حيث إني أمثله في هذه الهيئة... كان هذا عملي في السينما أما عمل عبدالعزيز سلام فقد كان أصلا كتابة الأغاني وفرعا  كتابة القصة السينمائية والمشاركة في كتابة السيناريو.. أما فؤاد نويرة فهو مؤلف قصة لافت للنظر بأعمال قليلة إلا أنها متميزة... أما نجيب محفوظ فهو الموظف بوزارة الأوقاف والكاتب القصصي الذي أخذت شهرته تتزايد بتزايد نجاح رواياته وإن كانت في بداية الشهرة.

وحسب ما تقوله النتيجة المعلقة علي حائط اختار موقعه خلفنا إن ذلك العام كان 1947 أما الشهور والأيام فقد كانت ضمن العام طبعا ولم تخرج عنه لتدخل فيما بعده لأن الذي فيما بعده سيكون في الاستوديو حيث يصنع ما قد رسم علي الورق ويتحقق في فيلم سينمائي معد للعرض... وللأسف فإن فؤاد نويرة قد رحل عنا قبل تصنيع الفيلم ولغير الأسف فإن نجيب محفوظ ازدادت قيمته الأدبية كثيرا بما قاله عنه عميد الأدب العظيم طه حسين.... وبين الأسف وغير الأسف بقي عبدالعزيز سلام كما كان قبل تصنيع الفيلم وبعده بلا زيادة ولا نقصان.

أما أنا فقد أنهيت اشتراكي في العمل مع صلاح أبوسيف بغير أسف علي استقلالي بالعمل منددا وبأسف علي ما أصابني هذا الاستقلال من عداء ونقد جائر في الصحف بعدما كان مدحا مستفيضا قبل أن أستقل وأصبح مخرجا... ولكني لم أكن أهتم بهؤلاء النقاد وأعتبرهم بعض الجثث الحية التي تضمها مقابر الصدقة المجانية في الصحف وإن كانت هي نفسها تتقاضي أجر دفنها من «بره بره ومن تحت لتحت».

وبما أن الضرب في الميت حرام خصوصا بعد أن رحل كل ذلك برحيلهم أشخاصا وأقلاما وضمائر وأصبح لا يجوز عليهم إلا الرحمة فإني أطلبها لهم وأرحم نفسي من ألم التذكر وأدعي فقدان الذاكرة.

وبفقدان الذاكرة في هذا الذي يؤلم تبعث الذاكرة فيما يسر.... وما يسر هنا هو الحكايات التي سأحكيها لحضراتكم  راجيا أن تسركم حقا فإن أعجبتكم فأنا أشكركم علي هذا الإعجاب وإذا لم تعجبكم فإني أشكركم أيضا.. وأعتبر هذا نقدا لأسلوبي في السرد لا للوقائع نفسها فهي حقيقية ولا حيلة لي في تغيير أسلوبي لأنه شخصيتي التي لا أستطيع تغييرها حتي لو حاولت.

والآن حان الوقت الذي أقف فيه أمام منصة القضاء التي يحتلها القاضي الأوحد وهو الضمير لأنطق بالحق «والله العظيم أقول الحق ولا غير الحق... والحق ليس كساعة الصفر لأنه هو البداية وهو النهاية معا».

«فلاش باك»

وهذا الفلاش باك يعيدنا إلي مقاعدنا في شركة أفلام تلحمي وها أنا أدخل من باب المكتب ليقول لي الفراش: الأستاذ فؤاد جوّة.. وها أنا أحييه كما كنت دائما علي نشاطه واستمراره في الحضور قبل الموعد المحدد لجلسة مناقشة السيناريو وبينما كان يرد بكلمات رقيقة رأيت أمامه كتابا يبرز أو يكاد يصبح لافتا نظري إليه لأتعرف عليه كتابا في التاريخ عن وجود الرومان في المنطقة التي هي عربية باعتبار أن دول الشرق الأوسط جميعا دول عربية موحدة العروبة.. سألت فؤاد وهو أستاذ في علم التاريخ: هذا هو السلاح الجديد الذي ستحارب به فكرة إقحام الرومان في السيناريو كما يريد المخرج صلاح أبوسيف ويصر علي أنها ستعطي الفيلم ثوبا جديدا مزركشا يجذب العين وقيمة فنية جمالية تزيد من قيمته الفنية؟ فأجاب «إني أبحث عن مخرج مناسب من هذا المأزق أو المطب علي الأصح لكي لا أحرم صلاح من رغبته في التحديث ولكن ليس علي حساب خطأ تاريخي سينسب بالتأكيد إلي وإلي نجيب محفوظ بالذات باستثناء عبدالعزيز سلام الذي كان رأيه أن تحديد مناطق انتشار الرومان في هذه المنطقة يصعب التسليم به وهذا يعطينا الحق في أن نجعل احتمال زحفهم إلي أرض عنتر وقبيلته محتملا..... قلت لفؤاد بصدق أنا لست ضالعا في التاريخ ولكني أحبذ أن تأخذ رأي نجيب وعبدالعزيز عندما يحضران ويجلسان فتكتمل القعدة جغرافيا علي طريقة الواقع المكاني والزماني.. بعد ثوان اكتملت جغرافية الزمان بحضورهما كما اكتملت جغرافية المكان بجلوسهما في كرسييهما المعتادين وللكراسي بتمسكها بأماكنها وبالجالسين عليها فضل إعطاء الانطباع بأن اجتماعاتنا مستمرة دون أن ننفصل عن كراسينا بعد الجلسات للانصراف إلي بيوتنا أو أي أماكن أخري بها كراسي أخري ليست مخصصة للعمل... وكان من عادة نجيب أن لا يتكلم إلا بعد اتفاقنا بدونه علي رأي فيؤيده بحجة أنه يناقش صلب التركيب الروائي القصصي لا التركيب السينمائي الفيلمي.... وهذا ذكاءمنه طبعا وقد ظل يلازمه بعد ذلك حتي اليوم حيث يقول إن الرواية مسئولية مؤلفها أما السيناريو المبني عليها فهو مسئولية واضعه... بذلك قد تخلص نجيب من إبداء رأيه في إقحام الرومان في السيناريو وقد قال في ذلك «الرأي الأخير للإخراج ويمثله في هذه الجلسات  كمال عطية» خصوصا أن كمال خريج مدرسة طلبيانية ويعرف لغة الرومان جيدا ويمكنه أن يسألهم  إن كانوا توغلوا في الصحراء حتي بيت عنتر أم لا.. وضحك اثنان من اللجنة لخفة دم نجيب أما الثالث وهو أنا فقد ضحكت لأنه ضحك علي وألقي بالمسئولية علي عاتق الإخراج وبقي هو متفرجا علي «فلفصتي» الإخراجية وأنا أحاول إخراج نفسي من هذا البرواز الأنيق الذي وضعني فيه والذي يمكن أن يوضع علي ضلع منه شريط أسود يشير إلي وفاتي  إذا أخذ برأيي وكان خطأ مميتا «ألقي بالفيلم في مقبرة دار العرض».

أما الرأي الذي تم الأخذ به فهو الحل الوسط الذي قدمه فؤاد نويرة وهو أن الرومان يمكن أن يكونوا قد تسللوا إلي مكان قبيلة عنتر وهي بني عبس لفترة قصيرة ثم عادوا إلي أماكنهم ثانية... وهذه الفترة تكفي لحدوث ما نريده نحن أن يحدث في السيناريو.. وتوقفنا نحن في وسط هذا الحل  الوسط.... وفي الجلسة الأخيرة التي حضرها صلاح أبوسيف من أولها علي غير عادة كان أول من شكر فؤاد نويرة علي ترشيحه نجيب محفوظ له كما شكرته أنا علي  إعطائي فرصة تعرفي علي نجيب محفوظ  الذي كان يجاورني بكرسيه في جلسات السيناريو والتي تحولت إلي جلسات فنية متعددة في كازينو الأوبرا المشهور بكازينو بديعة مصابني والتي دامت طويلا كما أني أحب أن لا يفوتني الآن أن أشكر عبدالحميد السحار الذي أعطي الفرصة لاسم نجيب محفوظ أن يقرأ كثيرا علي أغلفة كتبه التي نشرها له.. والتي كانت بمثابة شحنة سفينة فضاء أدبية هبطت علي كوكب نوبل ورفعت اسمه كعلم لأول دولة شرقية عربية ممثلة في شخص نجيب محفوظ.

وجاء دور الحوار البدوي الذي لابد أن ينطق به السيناريو.... والذي لابد أن يضعه بيرم التونسي.. وجاء بيرم بعد أن قرأ السيناريو برأي أعادنا إلي المشكلة الأولي وهي الرومان فقد اعترض علي وجودهم علي أرض الواقع الجغرافي في أرض عنتر وقال  لصلاح علي سبيل النكتة «ممكن يكونوا في أرض عبلة إنما في أرض عنتر لأ» وضحك صلاح باعتبار أنها نكتة فقط وليست نقدا ساخرا... ثم حاول إقناع بيرم بوجهة نظره وهي أنه يريد أن يكسي الفيلم ثوبا جديدا يميزه عن الثوب التقليدي العنتري الذي ألبسه نيازي مصطفي لفيلمه «عنتر وعبلة الشهير».

ونفخ بيرم دخان سيجارته بهدوء وأعاد بيده خصلة شعره التي كانت دائما تتهدل كلما تحفز ليقول شيئا مهما ولماذا كانت تتهدل لست أعرف.... وقد فاتني أن أسأله عن السبب فقد كنت مشغولا بما يقوله بيرم.. قال لصلاح «يا أستاذ أنت بتقول إنك مخرج واقعي.. طب التزم بالواقع التاريخي والجغرافي اللي ما يمكنش يعتدي عليه أي مخرج خيالي أو حتي «فنطوظ» وسارعت أنا بسؤاله عن معني فنطوظ فقال لي «دي منبثقة من فنطاظية» وكلمة منبثقة كانت متداولة في ذلك الوقت وكانت مثار سخرية كبيرة لانبثاقها هي نفسها من خيال لفظي ليس محدد المعني أي أنها كقطعة أستك مستخلصة من كتلة من مطاط.

وأمام إصرار صلاح وافق بيرم بعد أن قال له «خلاص والمخرج عاوز كده.... ولا تعادي من إذا عاز فعل» وكلمة عاز  هنا هي البديل لكلمة قال... أي لا تعادي من إذا قال فعل... وقبل أن ينصرف قال: «يا أستاذ انت عايز تبعد عن نيازي مصطفي.. ابعد بس فكر تبعد إزاي؟

وأنا حاقولك أنا حابعد عن حضرتك إزاي؟

            أنا حاختصر الحوار الروماني  خالص وأسيب مساحة الصمت للسيناريو وللإخراج وللواقعية اللي عايز توقعني معاك فيها.

وبرغم كل هذا الحجم الكبير من الاعتراض فقد أصر صلاح علي أن يظل الرومان في السيناريو مهما يلغت المحاولات في إجلائهم عنه وتحريره منهم كمحتلين.. وإن كان احتلالهم في الواقع برغبة من المخرج نفسه والمخرج عايز كده.

وللحكاية بقية.

جريد القاهرة في 7 سبتمبر 2004

كتبوا في السينما

 

مقالات مختارة

حوار صريح مع المخرج السينمائي المصري محمد خان

عمر الشريف يفوز بـ"سيزار" أفضل ممثل

جوسلين صعب:السينما التسجيلية تمنح رؤية نافذة للاحداث

ناصر خمير: أفلامي حلم... وعندما تحلم تكون وحدك

      برتولوتشي: لقاء

رندة الشهال: أهل البندقية يحبونني

تاركو فسكي: بريق خافت في قاع البئر

 

 

المخرج كمال عطية يكتب: قصاقيص من الذاكرة

تزوير التاريخ علي طريقة صلاح أبوسيف

ساعة الصفر دائما هي البداية والبحث جار لها عن نهاية