شعار الموقع (Our Logo)

 

 

بعد مرور أكثر من 25 عاما على حدوثها، يعاين من جديد، المخرج الايطالي ماركو بيلوتشيو في فيلمه  "Buongiorno Notte"  (ترجمة تقريبية نهار سعيد أيها الليل) واقعة أختطاف ومقتل رئيس الوزراء الايطالي آلدو مورو على أيدي أفراد من جماعة الألوية الحمراء المتطرفة. الحدث هز ايطاليا، وأثار ردود فعل حادة ضد سلوك الخاطفين وجريمتهم، وطرح أسئلة أخرى حول شكل وأسلوب التعاطي الرسمي معه، مثل: لماذا رفضت الحكومة التفاوض مع المجموعة الخاطفة، ولماذا ألتزمت الصمت أزاء طلب مورو الشخصي منها بالتدخل، ما أسباب ضعف تحرك الحزب المسيحي الديمقراطي لأطلاق سراح رئيسه المخطوف، وأين توارى الحزب الشيوعي الحليف وسط الأزمة. وأخرى ذات طابع تشكيكي: كيف تتمكن مجموعة مسلحة صغيرة من خطف رئيس وزراء دولة، وسط عاصمته، دون وجود دعم مباشر لها، أين كانت الشرطة ساعة الهجوم، وهل حقا كانت أيادي المخابرات المركزية الأمريكية بعيدة عنه؟ كل هذة الاسئلة وغيرها ركنها بيلوتشيو جانبا، لم يخض فيها. ركز بحثه على الجوانب الأنسانية داخل العلاقة الملتبسه، بين الخاطف والمخطوف. وأيضا عاين مفاهيم العنف والتطرف والأرهاب بمنظور مختلف.

اعادة بناء الواقع

قام بيلوتشيو بعملية بناء للحدث الواقعي. ربط بين المادة الوثائقية، وأغلبها تسجيلات قديمة لنشرات أخبارية بثتها القنوات التلفزيونية الايطالية خريف عام 1978، وبين شغله السينمائي  الجديد. فكانت محصلتها: حدث يجري، وأخر تنقله شاشة التلفاز في زمن واحد. هذا الشكل الدرامي أعطى للفيلم ديناميكية داخلية كسرت البطيء الذي فرضته القصة الحقيقية، والتي دارت أكثر أحداثها في شقة سكنية أحتجز الخاطفون فيها رئيس الورزراء الايطالي آلدرو مورو.

يبدأ الفيلم بمشهد داخل شقة فارهة يشرح فيها أحد وكلاء شركات تأجير البيوت مواصفاتها للزوجين، الشابين، كيارا وأرنستو. الكتمان الذي يحيط بعملية الإنتقال الى الشقة وحرص مستأجريها على تجنب ملاقاة الجيران يشي إن أمرا مريبا يدور فيها. وهو ما يحدث بالفعل!

فالنزيلان الشابان، هما أعضاء في منظمة الألوية الحمراء السرية. أدعوا الزوجية لأبعاد أية شكوك يحتمل أثارتها عند الجيران، إذا ما أنتبهوا الى غرابة علاقتهم وكثرة زوارهم.

الخاطف والمخطوف

بحركات يشوبها الخوف والتوتر يجري أعضاء المنظمة عملية تركيب جديد لمكتبة البيت يخفون فيها مدخل غرفة أحتجاز الرهينة القادمة. بعد أيام يدخلون ومعهم شخص معصوب العينين، ينقل بسرعة الى "سجنه الجديد". خبر سريع تسمعه الشابة كيارا (مايا سانسا) في نشرة أخبار تلفزيونية يطيرها فرحا، لن تصدق أنها تجلس اللحظة على أريكة لاتبعد سوى أمتار قليلة عن عدوها الطبقي الأول، رئيس وزراء ايطاليا.

اختياره للشقة كمركز مكاني للفيلم لم يكن أعتباطا، فبيلوتشيو كان مخططا لعملية كشف ونقل التحولات النفسية والفكرية للاشخاص المجتمعين فيها قرابة شهرين، هي فترة أحتجاز مورو قبل أصدار "المحكمة الثورية" قراراها بأعدامه.

سيعيش الجميع خلالها، الخاطفون والمخطوف حالة من الخوف والترقب، عدا كيارا فهي تترك الشقة كل يوم ذاهبة الى عملها في المكتبة. أنها صلة الخاطفين بالعالم الخارجي والتلفزيون هو صلة العالم الخارجي بهم وبالمخطوف. وبسبب من حريتها النسبية واحتكاكها بالناس والعاملين معها يبدأ أول ملمح للتغير الذهني عندها، رغم كل المقاومة الخارجية التي كانت تبديها. أحاديث زميلها وأعجابه بها سيؤثر الى حد ما في سلوكها، سيلين صرامته. لكن التغير الحقيقي سيبدأ في أعماقها حين ستتعرف، بصفتها "سجانه ثورية" على أفكار وسلوك سجينها الذي حكمت عليه بالموت مسبقا وأعتبرته المسؤل الأول عن كل التراجع الأقتصادي وأنسحار دور الحركة العمالية في ايطاليا. في رسائله، التي قرأتها، ستكتشف أنسانا أخر، رجل يحب زوجنه وأطفاله ويخاف الموت، يدافع عن قيمه بقناعة دون تطير ولا مبالغة. أنه كائن من لحم ودم، وقتله غير مبرر. هذة الفكرة ستبدل أحلامها الثورية. كانت قبل أختطافه تحلم الليالي بلينين وثورة أكتوبر، أما الأن فتحلم بإنعتاق مورو (روبرتو هيليزكا) من سجنه والعودة الى عائلته.

 سقوط الايديولوجيات

ستصيب هذة الأحلام كيارا بحالة من القلق والترقب تدفعها كل لحظة للقيام والنظر من خلال فتحة الباب الى الكائن الذي يجلس القرفصاء خلفها. ستسري، بالتدريج رغبة تحرير الأسير، الى بقية أفراد المجموعة وستدفعهم لمناقشة فكرة أطلاق سراحه. ومثل كل تنظيم سري ومتطرف يقرر مسؤله تنفيذ حكم الأعدام بمورو مبررا قرارة بالقول: لو تركناه طليقا فسنبدو أمام أعدائننا الطبقيين ضعفاء! بالمقبل ظلت الحكومة ورفاق  مورو في حزبه رافضين لكل صيغة حوار مع الخاطفين، لدرجة تجاهلوا فيها رسائل الاسترحام التي كتبها مورو للبابا ولهم. كان هناك شبه إجماع بين الأطراف المتصارعة على قرار موته. قرار موت غير معلن، أرادت الحكومة والشرطة الايطالية به حرق سمعة منظمة الألوية الحمراء وأيديولوجيتها. وأراد هؤلاء تعزيز قوتهم وصحة أفكارهم الثورية بتصفية خائن للطبقة العاملة وحزبها الماركسي اللينيني "الحقيقي" وليس الحزب الشيوعي الايطالي البرجوازي المتحالف مع اليمين. لقد أرادوا كل هؤلاء قتل الرجل الذي سعى الى أحداث تغيير في تاريخ ايطاليا الحديث، يجتمع فيه لأول مرة اليمين واليسار!. لا يخفي بيلوتشيو رغبته في إعادة قراءة تاريخ ايطاليا المعاصر، عبر فيلمه "نهار سعيد أيها الليل". ومن هنا فلا غرابة ان نرى الفيلم قد جاء كوثيقة أنسانية خالية من الإنحيازات الفكرية والايديولوجية، جاءت أكثر تعاطفا مع الأنسان وأنحيازا اليه. وأيضا لا تخلو من شجاعة لملامستها موضوع الأرهاب الحساس. لقد قرب بيلوتشيو عبر تجربة الألوية الحمراء مفهوم الأرهاب السياسي الغربي بلغة سينمائية عالية المستوى. ان الموضوعية التي تحلى بها السيناريو وقوة تأثير الوثيقة وكفاءة الممثلين العالية كلها أجتمعت للأنجاز مادة سينمائية مثيرة أشتركت الموسيقى التصويرية  المأخوذة من  بعض أعمال فرقة بينك فلويد في تحقيق نجاح كبير لفيلم مهم.  

سم الفيلم: "Buongiorno Notte"

أخراج: ماركو بيلوتشيو

تمثيل: مايا سانسا، لويجي لو كاسيو، روبرتو هيليزكا، وأخرين.

أنتاج: أيطالي

موقع "إيلاف" في 31 أغسطس 2004

كتبوا في السينما

 

مقالات مختارة

حوار صريح مع المخرج السينمائي المصري محمد خان

عمر الشريف يفوز بـ"سيزار" أفضل ممثل

جوسلين صعب:السينما التسجيلية تمنح رؤية نافذة للاحداث

ناصر خمير: أفلامي حلم... وعندما تحلم تكون وحدك

      برتولوتشي: لقاء

رندة الشهال: أهل البندقية يحبونني

تاركو فسكي: بريق خافت في قاع البئر

 

 

مقتل آلدو مورو وفجاجة الايديولوجيات

"Buongiorno Notte" لماركو بيلوتشيو

ستوكهولم/ قيس قاسم