شعار الموقع (Our Logo)

 

 

يتساءل الكثيرون عن السبب الذي جعل السينما المصرية تتأخر في الاقتراب من عوالم نجيب محفوظ حتى عام 1960 موعد ظهور الفيلم الذي اقتبسه صلاح أبو سيف عن رواية <<بداية ونهاية>> (الفيلم بالاسم نفسه)، الحقيقة ان لهذا التأخر أسباباً عدة مرتبطة بالسياق العام لتطور تلك السينما التي عانت منذ بدايتها من غياب ثقافة الحداثة عن أجوائها العامة من جهة وسيطرة الخطاب السينمائي التقليدي عليها من جهة أخرى، مع استثناءات لم تتح لها الظروف الفرصة لتتبلور وتستمر، ومثّلها كمال سليم، كامل التلمساني، وأحمد كامل مرسي. كما ان الظروف العامة التي نشأت فيها تلك السينما في عقودها الأولى اتسمت بسيطرة الفكر الديني المحافظ بشدة على أربابها، وإن أخذ هذا الفكر أشكالا ليبرالية برانية أحيانا، كما اتسمت تلك الفترة بتشدد رقابي هائل استمر طوال الثلاثينيات والأربعينيات.

ولم تتح للسينما المصرية فرصة الخروج من تلك الأجواء إلا بدءا من منتصف الخمسينيات مع حراك وانفتاح اجتماعيين وفكريين تزامنا ويا للمفارقة مع الأحادية السياسية التي فرضتها ثورة يوليو (تموز).

ليس من الصدفة إذن ان يتبلور نشاط نجيب محفوظ السينمائي في هذه الفترة كسيناريست محترف، يكتب مباشرة للسينما سيناريوهات أصلية او يقتبس لها أعمالا أدبية أنجزها غيره من الكتاب (اقتبس خاصة أعمال إحسان عبد القدوس التي أخرجها صلاح أبو سيف في النصف الثاني من الخمسينيات).

وعلاقة أبو سيف بمحفوظ هي علاقة مخرج بأديب، مخرج كان الوحيد من جيل الأربعينيات الذي انفتح على ثقافة الحداثة بما فيها تيارات اليسار وحاول من خلال سينماه ان يقدم معادلا دراموبصريا لها مستغلا فترة الخمسينيات وتطوراتها ليكرس توجهه هذا (تبعه في ذلك يوسف شاهين الذي قدم منذ الخمسينيات خطابا سينمائيا أكثر نقاوة وتفردا من أبو سيف) وأديب قدم من خلال رواياته الأولى، بدءا من المرحلة الواقعية التسجيلية، إنجازا محوريا في صيرورة السرد العربي الحديث.

وقد توطدت هذه الزمالة الابداعية بين أبو سيف ومحفوظ وكان من نتيجتها ان الأول هو الذي بادر الى اقتباس أدب الثاني (كما ذكرنا سابقا)، ثم قدم فيلما ثانيا مقتبسا عن ذلك الأدب هو <<القاهرة 30>> (1966) عن رواية القاهرة الجديدة. واستمر محفوظ بالعمل مع أبو سيف كسيناريست في أفلام عدة.

منذ ذلك الحين كرت السبحة وقدمت مجموعة من المخرجين، من مختلف الأجيال والتيارات اقتباسات لأعمال محفوظ التي تنتمي الى مراحله المختلفة، ففي الستينيات قدم حسن الإمام رواية <<زقاق المدق>> في فيلم بالاسم نفسه (1963)، ثم تبعه بجزأين من الثلاثية في فيلميه <<بين القصرين>> (1964) و<<قصر الشوق>> (1967)، بينما قدم حسام الدين مصطفى <<الطريق>> (1964) و<<السمان والخريف>> (1968)، وكمال الشيخ <<اللص والكلاب>> (1964) و<<ميرامار>> (1968). وكان فيلم <<السراب>> (1970) لأنور الشناوي هو آخر فيلم ينتمي لمرحلة الستينيات تنجزه السينما المصرية عن أدب نجيب محفوظ.

اقتباسات

في السبعينيات ورغم كثرة الاقتباسات التي قدمتها السينما المصرية لروايات نجيب محفوظ فإن البارز منها نادر اقتصر على فيلمي حسين كمال <<ثرثرة فوق النيل>> (1971) و<<الحب تحت المطر>> (1975) بالإضافة الى فيلم علي بدر خان <<الكرنك>> (1975).
أما في الثمانينيات فقد كان فيلما علي بدر خان <<أهل القمة>> (1981) و<<الجوع>> (1986) عن ملحمة الحرافيش هما الأبرز والأكثر تميزا.

وفي التسعينيات قلّت اقتباسات نجيب محفوظ بشكل ملحوظ، وكان الأبرز بينها فيلم عاطف الطيب <<قلب الليل>> (1990)، وسبب تلك الندرة عائد الى ميل مخرجي الموجة الجديدة المصرية التي تبلورت في الثمانينيات الى الابتعاد عن الاقتباس من الأعمال الأدبية، باستثناء أعمال مجايليهم من جيل الستينيات؛ جمال الغطياني، يحيى الطاهر عبد الله، ابراهيم أصلان، وغيرهم.

لقد كان ميل معظم النقاد الى تقدير <<القيمة الأدبية للعمل السينمائي لا قيمته السينمائية>>، على حد تعبير فرانسوا تروفو، سببا أساسيا في اعتبار اقتباسات أبو سيف لأعمال محفوظ الاقتباسات المثلى لأنها الأكثر إخلاصا لروح النص الأدبي وبنيته، والتعامل مع أعمال المخرجين الآخرين (خاصة حسن الإمام وحسام الدين مصطفى)، على انها أعمال تشوّه النص الأدبي، لأنها لم تنقل بأمانة عوالمه وبناه.

الطريف ان محفوظ نفسه، وهو السناريست المحترف، كان ينأى دوما بنفسه عن التدخل في اقتباسات أعماله، إدراكا منه من جهة لخصوصية العمل السينمائي، وميلا في آن لوظيفة السينما الترفيهية وطبيعتها التجارية التي تحتم، أحيانا، تقديم تبسيطات مرئية للنصوص الأدبية من جهة أخرى.

ولكن تلك التبسيطات، المنجزة في الستينيات خاصة، لم تكن دوما أعمالا منخفضة المستوى الفني، فبمقارنتها بأفلام أبو سيف (الجدية والمخلصة) تبدو أفلام حسن الإمام وحسام الدين مصطفى التي أنجزاها في الستينيات هي الأكثر حيوية، وذلك لاحتوائها على ميزات سينمائية، فهي مشغولة وفق أسلوبية خاصة بمخرجيها، ولا أتحدث هنا عن الحرفة العالية فحسب لأنها أمر بدهي، بل لأن هذه الأفلام لا تولد حالة تماهٍ براني مع النص الأدبي، وبالتالي لا تحاول ان تقدم شرحا مرئيا لهذا النص بقدر ما تستنبط مادتها المرئية الخاصة، التي هي في آن مادة المخرج التي يجيد الشغل عليها. من هنا يتحول التركيز في <<قصر الشوق>> للإمام على أجواء العوالم والرقص والموسيقى والحسيات المصرية الشديدة الخصوصية الى قدرة على توقيع مشاهد كلاسيكية في خصوصيتها السينمائية.

كذلك الأمر مع مصطفى الذي يصل الى ذراه في <<السمان والخريف>>، عندما يمزج ببراعة عالية بين هوسه بسينما التشويق الهوليودية والقدرة على النفاذ الى دواخل شخصيته الرئيسية عيسى الدباغ (يؤديها بامتياز محمود مرسي)، ويتكرر الأمر في <<الطريق>> مع شخصية صابر (من أفضل أدوار رشدي أباظة)، ان مصطفى في فيلميه هذين يستعير من سينما التشويق جوهرها الكامن في الاختزال والشغل على الايقاع المشدود الى درجة التوتر، لينفذ الى جوهر الشخصيات، متبعا أسلوبا كلاسيكيا في السرد قد يبعده عن محفوظ بقدر ما يجعله مخلصا في انتمائه للسينما كما يفهمها هو.

المخرج التقليدي الثالث الذي اشتغل عملا لمحفوظ هو كمال الشيخ، وهو أكثر المخرجين التقليديين موهبة وخصوصية (بالإضافة الى عز الدين ذو الفقار الذي لم يلتق مع أدب محفوظ البتة). في <<اللص والكلاب>> (1963) يستخدم الشيخ ببراعة قدراته العالية ليحول النص المحفوظي الى سياق سينمائي شديد الثراء والخصوصية، ويكتسب تأثره بالتشويق الهوليودي مغزى بصريا خالصا، بل أكاد أقول إن التشويق في فيلمه يغدو وسيلة شاعرية لسرد النص المحفوظي.

الغريب ان الشيخ قد وقع في <<ميرامار>> بمطب التضحية بخصوصياته الأسلوبية لصالح (الاخلاص) للنص الأصلي، مع بعض التعديلات الفجة التي أجراها كاتب السيناريو ممدوح الليثي ليعطي الفيلم طابعا ايديولوجيا معاديا للتجربة الناصرية من منطلق يميني محافظ.

كان صلاح أبو سيف هو المخرج الوحيد المنتمي الى تيار الفيلم الفني، في جيله الأول، الذي اقتبس نصوصا لمحفوظ ولكن التزامه شبه الحرفي بالنص الأصلي، وإخلاصه الأدبي الطابع لبنية ذلك النص جعل فيلميه ينوءان بأسلوبية أكاديمية باردة بعيدة عن القدرة على تقديم تفسير سينمائي خاص بمخرج الفيلم، وإن تميز الفيلم الأول منهما <<بداية ونهاية>> بشغل حرفي عالي المستوى ومتانة بصرية مؤثرة.

الغريب ان رائدي التيار الفني في السينما المصرية، بالإضافة الى أبو سيف، وهما توفيق صالح ويوسف شاهين، ابتعدا عن أدب محفوظ، وإن استعانا به كسيناريست: صالح في فيلمه التحفة <<درب المهابيل>> (1956)، وشاهين في ثلاثة أفلام <<جميلة بوحيرد>> (1959) و<<الناصر صلاح الدين>> (1961) وأحد أهم أفلامه وأكثرها خصوصية <<الاختيار>> (1970) وإذا كان شاهين قد ابتعد عن أعمال محفوظ الأدبية لأسباب تتعلق بالخيارات البصرية والحساسيات الدرامية التي لا تتقاطع إلا لماماً مع عوالم محفوظ، فإن صالح كان في سينماه الأكثر قرباً من تلك العوالم، مع امتلاكه قدرة حقيقة على قراءتها سينمائياً بما يفككها ويحيلها الى سرد بصري خالص، من الغريب أيضاً ان صالح تجمعه بمحفوظ صداقة شخصية حميمة وهو أحد الأعضاء المزمنين لشلة الحرافيش المحفوظيين.

لم يقترب كذلك من أعمال محفوظ رواد التيار الفني في جيله الثاني وهم سيد عيسى، شادي عبد السلام، وحسين كمال في مرحلته الأولى.

في الستينيات أيضا قدم عاطف سالم اقتباسا متينا ل<<خان الخليلي>> (1966)، أما أنور الشناوي فقد اقتبس <<السراب>> (1970) وتجربة الشناوي مع رواية محفوظ التي شكلت إرهاصا لكتاباته الواقعية (الجوانية) او النفسية الآتية في الستينيات تجربة طريفة، ف<<السراب>> رواية تتمتع بمسها لقضايا عالية الاشكالية، تتعلق بالجنس والمحرم، ولم تكن السينما المصرية قادرة على الاقتراب منها طوال سنوات لكن الشناوي استغل وجود قطاع عام سينمائي واستفاد من التساهل الرقابي الذي تمتعت به السينا المصرية في النصف الثاني من الستينيات ليقدم فيلما على قدر عال من الجرأة على مستوى المقولة والطرح، لكن هذه الجرأة خانته للأسف على المستوى الفني، فوقع أيضا في فخ التوضيح المرئي للنص الأدبي الذي يؤدي في النتيجة الى تبسيط وإفقار العمل الأصلي والاقتباس السينمائي في آن معاً.

في السبعينيات والثمانينيات استمر الاقتباس لأدب محفوظ بكثافة ولكن في أفلام قليلة القيمة الفنية أخرجها حسن الإمام، حسام الدين مصطفى، نيازي مصطفى، أشرف فهمي، أحمد يحيى وغيرهم، واتكأت هذه الأفلام على الجانب الحكائي في النص الأدبي لتقدم أعمالاً سينمائية تقليدية متوسطة المستوى وبعضها رديء، وتزامن ذلك مع انهيار أسلوبي وحرفي للخطاب التقليدي في السينما المصرية.

أما حسين كمال، الذي كان قد تخلى عن طموحاته في تقديم سينما فنية، فقد قدم عدة أفلام في السبعينيات والثمانينيات مقتبسة من أدب محفوظ، ولكن هذه الأفلام رغم محافظتها على حد أدنى من الحرفية والذوق الأسلوبي كانت بعيدة تماما عن مواصفات مرحلة حسين كمال الأولى، التي استطاع خلالها ان يقتبس ببراعة وخصوصية سينمائية عالية أعمالاً ليحيى حقي <<البوسطجي>> (1967) وثروة أباظة <<شيء من الخوف>> (1969).

جريدة السفير في  6 فبراير 2004

كتبوا في السينما

 

مقالات مختارة

جوسلين صعب:السينما التسجيلية تمنح رؤية نافذة للاحداث

ناصر خمير: أفلامي حلم... وعندما تحلم تكون وحدك

بسام الذوادي ـ لقاء

      مهرجان البندقية.. يكرم عمر الشريف

      برتولوتشي: لقاء

رندة الشهال: أهل البندقية يحبونني

آسيا جبّار عبّرت عن الهواجس الدفينة للمرأة

تاركو فسكي: بريق خافت في قاع البئر

 

 

السينما المصرية وأدب نجيب محفوظ

فاضل الكواكبي

مقال ذات صلة

عالم نجيب محفوظ السينمائي

نجيب محفوظ في السينما المكسيكية