نجيب محفوظ اسم يتكرر علي الشاشة الكبيرة في ما يقارب 62 عملا سينمائيا ككاتب سيناريو وحوار وكمساهم بروايات عديدة ساعد اقتباسها في تركيز دعائم المدرسة الواقعية المصرية وتحريرها من الكلاسيكية الاستعراضية. كانت رواية بداية ونهاية أول عمل لنجيب محفوظ يحول إلي السينما علي يد المخرج صلاح أبو سيف وقد كتب السيناريو لهذا الفيلم صلاح عز الدين. فرغم كونه كاتبا سينمائيا محترفا من الطراز الأول لم يشارك نجيب محفوظ في كتابة السيناريو لأي عمل سينمائي مأخوذ عن رواية له. وسعت جائزة نوبل في الأدب رقعة قراء نجيب محفوظ. واكتشف جزء من العالم روائيا آخر ينطق عنه في محنته وهمومه. فلم يكن من الصدفة أن يدخل نجيب محفوظ الشاشة العالمية عبر السينما الثالثية المهتمة بالقضايا الإنسانية. وبالضبط علي يد المخرج المكسيكي القدير أرتورو ريبستين وبنفس الرواية بداية ونهاية التي حولها إلي السينما بنفس العنوان مترجما إلي الإسبانية (principio y fin) سنة 1993. أرتورو ريبستين من طلائع المخرجين العالميين الملتزمين؛ تميزت سينماتوغرافيته خصوصا بالاقتباس الأدبي. فهو أول من حول إلي الشاشة أعمال معاصريه مثل غارثيا ماركيز بارغاس يوسا خوان رولفو وغيرهم من رواد السردية الأمريكية اللاتينية. سنتان بعد ذلك يقدم رائد سينما النفس الشعبي المكسيكية خورخي فونس فيلمه الرائعة زقاق المعجزات مقتبسا عن رواية زقاق المدق . كتب السيناريو الروائي الكبير والكاتب السينمائي فيسينتي لينيرو عن النص الإسباني الذي ترجمته هيلينا فالينتي. جمع زقاق المدق بين عبقرية في الكتابة والإخراج لقيت صداها في 47 جائزة بين المحلي والدولي لينفرد وحده بهذا التقدير في تاريخ الفن السابع. زقاق المدق و هجرة النص نقترض من محمد بنيس مصطلح هجرة النص لأن زقاق المدق نص مهاجر لغويا بين الأدب والسينما؛ وفيزيائيا بين قاهرة الثلاثينات ومكسيكو العاصمة في الوقت الحاضر. مما يجعل مقاربته كاقتباس أدبي قراءة تتموج بين عدة مفارقات. أولها تضارب العرض الذهني لمضمون الرواية في ذهنية القارئ مع قراءة المخرج الشخصية أي المعروضة أمامنا في الشاشة؛ مع مراعاة اختلاف الهوية الثقافية لهذا الأخير. وثانيا تقيد القراءة السينمائية في المرحلة الاستكشافية دون تجاوزها إلي المرحلة التأويلية بحكم الخلط الضمني بين الدال أو صورة من الواقع والمدلول أي الواقع العيني والمرجعي للصورة من جهة والأرضية الهشة للثقافة السينمائية من جهة أخري. ثالثا سيادة اللفظ كمركز للثقافة خصوصا في مجتمع ثقافي تسود فيه الكلمة علي كل المظاهر الإبداعية الأخري. بينما يكون الاقتباس الأدبي مسألة لغوية تقارب من خلال وظيفتها الإبداعية خصوصا في المجتمعات التي ترسخت فيها ثقافة الصورة يظل في دوائرنا الثقافية وحتي الأكاديمية منها يخضع للمعيارية الأخلاقية كالإخلاص الخيانة والتشويه. جل المعالجات النقدية لا تبحث في المتن السينمائي إلا علي النسخة والمعادل السمعي ـ البصري لمضمون الرواية مهملة جوانب جمالية وتعبيرية سينمائية.
بفضل تطور الدراسات السردية علي يد جيرارد جينيت وظهور مفاهيم مثل التداخل
النصي والحوارية بين النصوص بدأت معالجة الاقتباس تتحرر من السلفية النقدية
التي تبجل العمل الأدبي لكونه الأصل والسند؛ ومن المعيارية التي يسود فيها
الحس الأخلاقي. بمفهوم النصية الواسعة الذي يعني به جينيت علاقة الاشتقاق بين
النص اللاحق والنص السابق الفيلم والرواية في هذا السياق استرجع الاقتباس
معناه المستوحي من الأصل اللاتيني لكلمة أدتتاري أي التعديل والتكييف. حسب
باختين يجب استيعاب هذه الظاهرة الفنية كغيرها من الفنون داخل النسيج الثقافي
الذي يميز ثقافة العصر والذي هو التجاذب والحوارية. وهو ما يحطنا أمام مجال
غني من السيميائية المقارنة خصوصا بين مجال الأدب والسينما اللذين يختلفان
جوهريا في وسائط التعبير باعتماد الأول علي الكلمة والثاني علي خمسة عناصر هي
الصورة المتحركة النص المكتوب الكلام المؤثرات الصوتية والموسيقي. وهو ما
يجعل كل تحويل توليدا لأبعاد ثقافية جديدة. زقاق المدق: تبيئة النص بين التحويل والتأويل
يمكن مقاربة زقاق المدق كاقتباس مزدوج إذا أخذنا بعين الاعتبار أن النص
الأصلي للفيلم نص مترجم من العربية إلي الإسبانية. فالاقتباس كالترجمة إبداع
يتحدي عوامل متعددة كالمناخ العام الذي تعبر عنه اللغة الأصلية إذا سلمنا بأن
علاقة اللغة مع المجتمع علاقة داخلية جدلية. فكل نسق لغوي رواية محفوظ من جهة
وفيلم فونس من جهة ثانية يشتمل علي الشروط الاجتماعية لإنتاجه والشروط
الاجتماعية لتأويله. فإن كان حسن الإمام في تحويله للرواية اقتصر فقط علي
صياغتها سينمائيا فلأن فيلمه كخطاب سيخضع لنفس الشروط الاجتماعية التي خضعت
لها الرواية في إنتاجها وتأويلها. بالنسبة لفونس فإن التحدي يكمن بدأ في
تجاوز الفجوة السيميائية بين الرواية والتي تحول الدلالة اللفظية إلي إدراك
حسي وتحيك صورة للعالم الخارجي عبر نسيج نصي والسينما التي تأخذ الاتجاه
المعاكس في تحويل شريحة مقتطعة من العالم الخارجي ومدركة حسيا إلي حقل دلالي
إيحائي. ويكمن التحدي نهاية في تبيئة هذا النص، أي مراعاة الشروط الاجتماعية
الجديدة التي تتحكم في الصياغة والتأويل والتي تختلف مبدئيا عنها في النص
الأصلي. يدور الجزء الثالث حول سوسانا الطاعنة في السن ومالكة البيت حيث تقطن الشخصيات الرئيسية في الفيلم. تعيش سوسانا تحت هاجس الحب والزواج نقطة ضعف يستغلها المكترون لعدم دفع واجباتهم ويستغلها شافا بدفع شبابه ثمنا للحصول علي مبلغ سفره. تسقط سوسانا في الأخير فريسة لانتهازية ولصوصية غويتشو صبي الحانة الذي سيتزوجها بدافع الطمع طبعا. عنون المخرج الأجزاء الثلاثة الأولي بأسماء شخصياتها الرئيسية إلا الجزء الرابع المعنون بـ العودة . وفيه يعود شافا وهابيل من السفر وتنفك عقدة الأحداث بتصالح الابن مع والده ومقتل هابيل الاستشهادي علي يد خوسي لويس بعد أن انتقم لشرف ماضيه النبيل مع ألما قدم خورخي فونس صورا واقعية عن مجتمع يتخبط في الفقر وكل ما ينتج عنه من انحراف اجتماعي. هذا الطرح الواقعي يفرض شروطه الاستقرائية عبر تقديم واقع عيني يحمل في مشخصاته الأدوات الأولية لقراءة أسبابه ومسبباتها. انطلاقا من هذا يمكن وصف الزمكان كوحدة فيلمية تعكس شريحة من الواقع المكسيكي المعاصر بمظاهر الصراع داخله. وهنا يقدم خورخي فونس خطابا يندرج به داخل سياق ثقافي محلي يحظي فيه إشكال هوية المجتمع المكسيكي بأهمية كبيرة خصوصا في أعمال معاصريه مثل أكثافيو باث كارلوس فوينتيس والفيلسوف ليوبولدو ثيا . وليس غريبا أن يبدو زمكان زقاق المدق تجسيدا لما كتبه أوكتافيو باث منذ نصف قرن : عروض واقعية قد يختلف استيعاب مضمونها من مشاهد لآخر ولكن كلها تلتقي في تشكيلنا نحن المكسيكيين في الصورة الغامضة والمتناقضة التي تظهرنا غير واثقين بأنفسنا. (متاهة العزلة. ص 88 الترجمة من اجتهادنا الشخصي.) استعمل خورخي فونس الخطاب السينمائي في وظيفته البورنوغرافية كما نعته فريديريك جيميسون ليعري هذا الانغلاق والتناقض الذي تنطوي عليه الشخصية المكسيكية. ويشارك معاصريه نفس الرؤية حين يرجع أزمة هذه الهوية إلي تعسف التاريخ وقسوة الجغرافية في القرب من الولايات المتحدة الأمريكية. تاريخ المكسيك كما يقول باث هو تاريخ الظروف الاجتماعية المكسيكية وفي مرحلته الكولونيالية تشخصت ملامح الهوية المكسيكية بالشكل التي تبدو عليه اليوم (المرجع السابق ص 94). تبقي الخلفية التاريخية في الفيلم بنية مغيبة وحاضرة بشكل سكيزوفريني داخل الصراع؛ تتجلي بما يخفيها وتختفي بمشخصاتها. ليس في الفيلم أية إحالة مباشرة للتاريخ الكولونيالي فقط لأن الفيلم نفسه تسجيل لهذا التاريخ عبر عرض إفرازاته في تاريخانية الزمكان الفيلمي. من هذا المنطلق عالج فونس بعض الثيمات الكلاسيكية التي تعبر بقوة عن هذه الإفرازات نقتصر علي عينة منها وهي الرجولة المرضية أو ما هو معروف في الثقافة المحلية بـ الماتشيسمو . تناول المخرج هذه التيمة من خلال خاصية اللغة السينمائية بالاعتماد علي جدلية الصورة والصوت ليحيط هذا السلوك من خلال مختلف تجلياته. وجدت تيمة الماتشيسمو أرضيتها المناسبة في شخصية المعلم كرشة كرجل مستبد يتناسب وصفه مع شخصيات سي السيد الغنية بها روايات نجيب محفوظ. غير أن رجولة دون روتيليو تنضح بترسبات تاريخية غير التي شكلت الذكورية العربية. بغرض عكس هذه الترسبات حرف المخرج بعض المواد الروائية المحيطة بالمعلم كرشة لتتناسب مع الطرح الفيلمي للثيمة. وهي فضاء المقهي وشخصية الزوجة أم حسن . يصير فضاء المقهي في النص السابق حانة الملوك القدامي في النص اللاحق. من خلال البعد الدلالي الرمزي للتسمية تصير هذه الحانة فضاء رمزيا للمكسيك يلتقي فيه الماضي بملوكه القدامي أو الحضارات التي تعاقبت عليه من المرحلة القبل كولومبية والمرحلة الكولونيالية مع الحاضر الكولونيالي الجديد المتسم بالتبعية للجارة الشمالية. ارتباط دون روتيليو بالحانة هو ارتباط الفرد المكسيكي بهذا التاريخ وبالتالي كل حركية لهذه الشخصية تنطلق لاشعوريا من دوافع تاريخية المرجع. بتغيير شخصية أم حسن من ..امرأة قوية.. لا تنقصها أسباب الجراءة.. كما جاء في الرواية إلي امرأة ضعيفة ومستسلمة يتشكل المجال الذي يسقط فيه دون روتيليو رجولته المرضية المشحونة بالدلالة التاريخية. قدم فونس علي مستوي الصورة بعض أوجه التناقض التي ينطوي عليها سلوك الماتشو (من الماتشيسمو). فهناك مشاهد من العنف يعتدي فيها دون روتيليو علي زوجته بجانب مشاهد حميمية كلقطة انهياره باكيا علي حجرها إثر رحيل ابنه شافا. ويأخذ تناقض شخصية دون روتيليو صورته المكبرة في شذوذه الجنسي؛ وإن كان الشذوذ الجنسي في السياق الثقافي المكسيكي كما قال باث مسألة تقابل سلبيا فقط من زاوية المفعول فيه. شخصية معشوق دون روتيليو جيمي باسمه الإنغلوفوني مثل مشروب كوكاكولا الذي تناوله دون روتيليو بعد اعتدائه علي أوسيبيا عوض الكحول كما في التنميط السياقي يحيل إلي دور الكولونيالية الجديدة في تشكيل ملامح الماتشو الجديد كما شكلت الكولونيالية الإسبانية الماتشو القديم. علي مستوي الشريط الصوتي نعاين هذه الرجولة المرضية عبر الحوار. فقد استعمل فونس حوارات إيحائية قوية تنبه المتلقي ولا تقول له يُستعمل فيها الكلام كجسر نحو الخبايا التي تنطوي عليها الشخصيات. و يتجلي فيها الماتشيسمو في قاموسه اللغوي الشعبي عبر كلمات مثل تشينغادا . هذا النعت المظلة تدخل تحته معان عديدة تحيل إلي الاغتصاب الاستسلام للاعتداء الجنسي ممارسة الجنس مع العدو الخيانة.. بخلاصة إلي العلاقة التي ربطت بين الأم الأزتيكية لامالينتشي والأب الغازي الإسباني هرنان كورتيس حين كانت خليلته ومترجمته في آن واحد. كلمة تشينغادا من الألفاظ المكسيكية التي قال باث بصددها: كلمات بدون مضمون واضح يعبر غموضها بكل صدق عن مكنوناتنا النفسية والعاطفية. كل حرف وكل صوت ينبض بحياة مزدوجة ويعري علي الشخصية ويسترها في آن واحد ( المرجع السابق ص97 ). أطر الشريط الصوتي العنف داخل السياق التاريخي عبر حوار تتردد فيه كلمة تشينغادا مستعملة في جل الصيغ التي تأتي فيها في الإسبانية المكسيكية. خصوصا في مشاهد العنف بين الزوجين لتؤسس له أرضية لاشعورية في هذا الاغتصاب عن طواعية الذي تعرضت له الأم الأزتيكية مع الأب الإسباني. يتصاعد الصراع في اتجاه دائري داخل بنية مغلقة. يجد شافا نفسه يكرر دور الأب دون روتيليو ويركز استمراريته في مولوده روتيليو الصغير. تواجد الثلاثة في الحانة في نفس الوقت تعبير آخر عن تزامن البني التاريخية وعن الماضي الذي يكرر نفسه في الحاضر والمستقبل. مع شخصية ألما تتزامن هذه البني بشكل أكثر غموضا حين تتقمص دور الأنثي المكسيكية التاريخي بتقديم نفسها لمغتصبها وخيانة هابيل. وفي ممارسة الجنس دبرا مع خوسي لويس إحالة سينمائية قوية لهذا الاغتصاب. هي الأخري مثل لامالينتشي استسلمت لإغراء الغازي الغريب عن الزقاق. وهو الآخر مثل كورتيس غير اسمها من ألما إلي كرينا مثلما تغير اسم لامالينتشي إلي دونيا مارينا . كل صراع يبدو جدليا في الشكل وعقيما في جوهره لأنه لا يولد سوي البني القديمة في أشكال جديدة. هجرة البنية السردية: من النص الروائي إلي الخطاب الفيلمي
في الزمكان الفيلمي ينصهر المضمون في الشكل بطريقة يصعب فيها استئصال الأول
من الثاني. مضمون الفيلم هو نفسه شكل الفيلم. في زقاق المدق يشكل فضاء الحانة
المركز الذي ينطلق منه الحدث وكذلك نقطة الصفر النصية في سرد هذا الحدث. لم ينحصر البعد الرمزي للزمكان علي مستوي الإشارات داخل الصورة بل علي مستوي سرد هذه الصورة في بنية تواصلية تقلب المعادلة بين أقطابها ـ المؤلف والراوي من جهة والمروي له والمتلقي المثالي من جهة أخري ـ بشكل مخالف عما جاءت به في الرواية. نجد المؤلف في الرواية يحقق كبنية دون خلط مع العناصر السردية الأخري. ينحصر دوره في وظيفة خارج حكائية تتوازي مع وظيفة الراوي العارف الذي يغير من بؤرة نظره من شخصية لأخري ويقدم للمروي له معلومات عن الشخصيات تتجاوز قيمتها الاجتماعي إلي النفسي كما وكيفا. علي عكس ذلك نجد المؤلف في الفيلم يتدخل مباشرة في النص الفيلمي عبر ترتيبه لأجزاء الحكاية الأربعة عنونتها وتوزيع الوظيفة السردية علي رواته. فعوض السارد المهيمن في الرواية يقدم المؤلف الفيلمي ثلاثة أنواع من الرواة في الجزء الأول والثاني والثالث يقدمون معلوماتهم السردية من زاوية نظر الشخصيات التي يتتبعونها روتيليو ألما وسوسانا. تتقاطع الخطوط السردية فيما بينها ليقدم لنا سارد كل جزء مشاهد من الجزء الذي يليه أو يسبقه. يشكل كل سارد من رواة الأجزاء الثلاثة ساردا مستقلا وأقل معرفة. تحدد بؤرته السردية كمية معلوماته. تغيب عنه أحداث في مقطعه السردي نتتبعها مع السارد الآخر الذي يليه أو يسبقه. فقط المشاهد مثل المؤلف يتمكن من تدوير الحدث من مختلف وجهات النظر. هذه المعادلة التواصلية ترتقي بالمشاهد من مستوي المروي له إلي مستوي المتلقي المثالي؛ أي من مستوي المشاهدة إلي مستوي قراءة الخطاب. ونظرا لخصوصية التبئير السينمائي الذي يتنوع من تبئير بصري إلي تبئير صوتي تختلف زاوية النظر علي مستوي الصورة والصوت مما يؤثر بدوره علي طريقة توزيع المعلومات بين الراوي والمروي له. فعلي المستوي البصري مثلا يتبني سارد جزء روتيليو زاوية نظر يتتبع فيها شخصية شافا وهابيل وهما تحت النافذة حيث تجلس ألما تجفف شعرها. لا يذهب السارد هنا أبعد من مجال رؤيته المحدود في ألما بإطار النافذة. في الجزء الثالث سوسانا يمكننا السارد عبر زاوية نظره من اقتحام ما بعد النافذة إلي غرفة ألما وبهو البيت حيث تجلس أمها وسوسانا. تكون في حوزة المتلقي معلومات مغيبة علي كل سارد دون غيره لأن حدود مجال رؤيته هو ألما بالنافذة ولكن من زوايا مختلفة. فقط المشاهد مثل المؤلف يعرف في هذه الحالة محتوي الحدث من الزاويتين المتقابلتين. علي المستوي الصوتي أبدع المخرج في تحقيق هذا التوزيع السردي بتغيير البؤرة السمعية من شخصية لأخري حسب موقع السارد. وهو ما يتجلي في لقطة افتتاح الجزء الثاني في الفيلم. يفتتح هذا الجزء علي صوت عال مصدره آلة تسجيل داخل غرفة ألما؛ و يمكن اعتبار هذه الإشارة مشخصة صوتية الغرض منها لفت انتباه المشاهد سمعيا لتغيير وضعه من مشاهد يسمع إلي مستمع يشاهد. نشاهد نفس اللقطة المكبرة ل ألما وهي في إطار النافذة كما شاهدناها في الجزء الأول مع فارق واحد هو صوت الموسيقي الداخل حكائية ( عكس الموسيقي المصاحبة الخارج حكائية) وبعض الأصوات المنبعثة من داخل البيت. يتجلي إذا عنصر الصوت من خلال تشابه اللقطتين ليسطر المخرج هنا علي تبئير سمعي بالدرجة الأولي. هذا التبئير السمعي للسارد ينحصر مجاله في مسمع ألما. وبالتالي يخلو الشريط الصوتي من الحوار الدائر بين شافا وهابيل، ويكتفي الشريط البصري بعرض حركة شفتيهما بحوار محتواه مجهول لألما ومعلوم للمتلقي لأن هذا الأخير من موقعه كمشاهد سمع هذا الحوار في الجزء الأول. في الجزء الرابع المعنون بـ العودة يتسلم المؤلف المهمة السردية ليقدم لنا الأحداث النهائية للفيلم عبر سارد تتنوع بؤرته من شخصية لأخري حسب دورها في التصاعد الدرامي لينغلق الحيز السردي في مشهد موت هابيل في حضن ألما كنهاية للقصة وتوقيع سينمائي صرف. استطاع المخرج من خلال نوعية التبئير في الفيلم أن يقدم لقطات موحدة المحتوي ومتنوعة في الحجم والزاوية وفي الحركية والثبوت. ونكتفي هنا بلقطة ألما في النافذة لنضيء ذلك. في الجزء الأول تبدو ألما في النافذة في لقطة كاملة وثابتة عبر غطس مضاد (من أسفل إلي أعلي) ومن الأمام حيث نشاهد وجه الشخصية. في الجزء الثاني تتغير الزاوية لتنتج نفس اللقطة من خلف في وضع أفقي مع الاحتفاظ بثبوتها في الإطار؛ وتحول الزاوية عبر الغطس مصدر الرؤية في اللقطة الأولي إلي موضوع الرؤية في اللقطة الثانية والعكس صحيح. في الجزء الثالث تنتج نفس اللقطة من نفس الزاوية وبنفس الحجم ولكن هذه المرة مع ألما وهي تهم بالجلوس علي إطار النافذة. وهكذا تتغير الزاوية والحجم وتضاف الحركة لنفس اللقطة دون تغيير في المحتوي. كما أثر التناوب السردي علي البنية الزمنية في الفيلم ليؤثر كنتيجة علي بنية الفضاء الفيلمي في كل وحدة زمكانية. تتزامن الأجزاء الثلاثة الأولي فيما بينها عبر وحدات فردية متكررة تنطلق من نقطة الصفر المتشكلة في لعبة الدومنو داخل الحانة. عبر التنويع الأفقي والعمودي في الزوايا تلغي حدود الإطار بين المشاهد الداخلية والخارجية ليتجلي الفضاء الفيلمي كواقع محتمل ومسجل في صيرورة غير ثابتة. ما هو خارج فضاء الإطار من حدوده الأربعة ومجاله البعيد علي حقل العدسة يتوحد مع داخل الإطار في ذهنية المتلقي. أثناء مشاهدة لقطة دونيا كاتا وهي تقرأ الحظ لـ سوسانا نتتبع ذهنيا مشاهد ألما في النافذة وهابيل وشافا أمام البيت. ويبقي جانب الفضاء الإنتاجي أي خلف الكاميرا مرموزا إليه بالفوتوغرامات الثابتة ( صور فوتوغرافية من لقطات سينمائية) علي الحائط والإشارات الحوارية المتعددة لكلمة سينما . بتواجد العناصر الستة للفضاء السينمائي يقدم المخرج زمكانا تكمن مرجعيته في سينمائيته. تتحول اللقطة من عملية تواصل مرجعية كرؤية للعالم الخارجي في وضعية معينة إلي عملية تواصل لغوية يصبح المهم من خلالها هو رؤية الرؤية نفسها. كنتيجة يتحول خطاب الواقع إلي مجرد واقع خطاب. إنه واقع الشخصيات المركب بالأشياء ونقيضها والذي قدمه المخرج في نشق شكلي يمكن اعتباره الأداة الأولية في استقراء مضامين صراعاته المتكررة في دائرة مغلقة يتداخل فيها الماضي بالحاضر. يصير فيلم خورخي فونس قراءة نقدية لرواية نجيب محفوظ تسلط بدورها الضوء علي واقعين ينفصلان جغرافيا ويرتبطان في حضارة الأهرامات وحاضر الشعوب المقهورة. يصير زقاق المدق واقعا رمزيا ينعكس فيه الأنا في الآخر بعيدا عن منطق المصالح والتنميط. وبالتالي يبقي هذا الإنتاج السينمائي مشروع مثالي لشراكة ثقافية ضد الاستشراق الهوليودي الجديد الذي يتعامل مع فضاء الحضارات كديكور. القدس العربي في 1 مارس 2004 |
برتولوتشي: لقاء |
نجيب محفوظ في السينما المكسيكية: عن هجرة نص "بداية ونهاية" من القاهرة إلى مكسيكو سيتي عبد اللطيف عدنان |