الاعتراف بأن السينما العربية بعيدة عن الواقع العربي فضيلة، وبالتالي فان المهرجانات العربية ايضا بعيدة عن السينما العربية. وهذا تحصيل للحاصل. الواقع العربي وخلال النصف الثاني من القرن العشرين شهد العديد من الاحداث الكبيرة والصغيرة هذه الاحداث كانت كفيلة في بعض الاحيان ان يشيب لها الولدان، «لاحظ ان الولدان اصبح يغزوهم الشيب من دون حدوث شيء»، وان تدفع بالملايين لترك اوطانهم والتشرد في بقاع الارض، وكانت هذه الاحداث كفيلة ايضا باعادة تشكيل المنطقة العربية ككل. لتكن البداية مع ثورة يوليو ثم حرب 56 ثم هزيمة 67، ثم معاهدة كمب ديفيد ثم حرب الخليج الاولى بين العراق وايران ثم حرب الخليج الثانية التي قامت لتحرير الكويت ثم حرب الخليج الثالثة التي ما زالت تداعياتها رهن الزمن الحاضر. ناهيك عن اتفاقات اوسلوا واتفاقية الشرم الاولى والثانية واتفاقات واي ريفر ومعبر اريتز وظهور أليسا وروبي ونجلا.. هذا على المستوى العربى اما على المستوى العالمي فحدث ولا حرج بداية من ازمة الصواريخ الكوبية وحرب فيتنام وثورة الشباب الاميركية اوروبية وثورة المراء، وحرب فوكلاند، وسقوط الاتحاد السوفيتي، وانفتاح الصين، وقيام الاتحاد الاوروبي، وحتى احداث سبتمبر. خلال هذا النصف قرن المشؤوم تغيرت سياسات وتغيرت اقتصاديات بل تغيرت مجتمعات وتباعا تغيرت القواميس اللفظية وسقط في سلة القيم المجتمعية المزيد من البيض الفاسد والتفاح المضروب. ابطال الأمس اصبحوا هم اعداء اليوم واعداء الامس اصبحوا هم اصدقاء اليوم، وكما يبدو من القراءة الاولى للخريطة السياسية الجديدة للمنطقة العربية فاننا بصدد الدخول في حقبة الهيمنة الاميريكية ان لم نكن قد دخلناها بالفعل منذ عقود طويلة. ويرى البعض اننا نستحق كل ما يحدث لنا لأننا على مدى خمسين عاما أضعنا كعرب كل الفرص الممكنة التى وضعت امامنا للتحرير والتنمية وللدخول الى عصر المجتمعات المدنية. أضعنا كل الفرص الممكنة لأن نكون مثل البشر نستطيع ان نحاور انفسنا ونحاور الآخر، وبدلا من اعتماد لغة الحوار والسعي نحو ترسيخ الديموقراطية اعتمدنا لغة العنف والتكفير وأرضعنا الناس الأكاذيب والشعارات، ودفعنا بهم الى ساحات المعارك الوهمية حتى ينشغلوا عن مشروع البناء والتنمية، وفي النهاية أطعمنا الناس «قشا وتبنا». وخلال العقود الثلاثة الاخيرة كان الهروب هو السمة الواضحة في وجه هذه الامة التعيسة على مستوى الحكومات وحتى على مستوى الافراد وحتى على مستوى الانتاج السينمائي. على مستوى الحكومات وبدلا من حشد الطاقات لمواجهة الاعداء قمنا بخوض معارك هزلية مضحكة في الصحراء الغربية وفي تشاد وفي ستار اكاديمي وحتى دارفور. وبدلا من توجيه كل الدعم لقضية الامة التى يعرفها القريب والبعيد قمنا بالنضال في لوكيربي وفي الملاهي الليلية في برلين، وقمنا بدعم الألوية الحمراء والصفراء بعد ان اخترعنا الكتب الخضراء على امل ان نوحد البحور الحمراء مع البحور البيضاء! السينما العربية هي السينما الموجودة في بلاد العرب، وهي السينما التي تنتجها سبع دول عربية من اجمالي 22 دولة، وهذا الانتاج يتراوح ما بين 25 الى ثلاثين فيلما في العام. خلال 50 عاما كم عدد الافلام التي أُنتج عن ثورة يوليو وعن انجازاتها؟ وكم عدد الافلام التي أُنتجت عن حروب الخليج الثلاث؟ وكم عدد الافلام التي أنتجت عن الحرية والديمقراطية والشعر؟ السينما في بلاد العرب وخلال نصف قرن وعلى رغم جهود البعض عندما أرادت ان تستلهم الواقع العربي وعندما ارادت ان تسجل وتوثق كانت وما زالت بعيدة تماما عن الاحداث الجسام التي غيرت السياسة والاقتصاد وهزت القيم والعادات والتقاليد. ولم تتوان السينما وسط المعارك والتفجيرات والتكفيرات عن القيام بدورها التسلوي المناط بها على مر تاريخها على رغم كل دعوات الاصلاح. ناصر خمير ترك «الهائمون» وذهب الى اوروبا طمعا في التأهيل والتمويل. ونوري بوزيد بحث في التاريخ وأعاد صياغة الشخصية اليهودية لتخرج مرة اخرى الى العلن بريئة طاهرة لعلها تجلب الحظ وتحقق الانتشار والعالمية. وخالد الصديق ومنذ «شاهين» ما زال ينتظر الفرصة المناسبة والدعم المناسب لتقديم ما عنده. ومحمد ملص اكتفى بـ «الليل» و«أحلام المدينة» التي لم تتحقق. ومفيدة التلاتلي أعجبتها لعبة «صمت القصور». ويوسف شاهين بعد اجتياز خط العمر السبعيني كان من الطبيعي ان يقلب في دفاتره القديمة حتى لو كانت حركته تستدعي وجود 17 نوعا من الدواء. والامر لم يقتصر على المخرجين انما ساهم النجوم ايضا بنصيب كبير. ذهب احمد السقا الى جنوب افريقيا ليصور «افريكانو» وذهب محمد سعد الى تركيا ليصور «عوكل» ومحمد هنيدى ذهب الى امستردام ثم الى الصين ليصور افلامه ولم يفكر احد حتى هذه اللحظة في الذهاب الى بغداد او الى دارفور. طبعا جمهور السينما لا يهمه ماذا يفعل الجنجويد في السودان ولن يهمه ايضا كم عدد الجيوش والمنظمات والجماعات الموجودة الآن في العراق. لكن السينما التي هي مرآة بحجم هذا الكون، وهي ام الفنون التى تجمع تحت رعايتها كل الوان الطيف ألم يكن من الواجب ان تكون حاضرة احيانا في حوادث الامة وفي مصائب ابنائها؟ وبعد اكثر من مائة سنة لماذا تستمر السينما في بلاد العرب في لعب الدور الاكبر في التجهيل والتعتيم؟ ومع استغلال السينما حتى النخاع في نقل صورة الآخر مع تشويه صورتنا المتواصل لماذا فشلت السينما العربية خلال تاريخها «عدا بعض المحاولات القليلة» في ان تذهب إلى الآخر في عقر بيته لتقديم صورتنا الحقيقية ونحن اصحاب حضارات وتاريخ؟ هنا ليس حديثا بالمطلق عن واقع حال السينما في بلاد العرب ولكن مجرد خواطر وتساؤلات تطفو احيانا على سطح الذاكرة. تلك الذاكرة التي انهكتها الحروب التي مضت والحروب التي تحدث والحروب المقبلة. حتى لوكانت هذه الحروب من نوع حرب «أطاطا» التي أعلنتها جدة عوكل على القريب والبعيد وحتى صراع الجنجويد مع تمرد القبائل في اقليم دارفور! القبس الكويتية في 22 أغسطس 2004 |
برتولوتشي: لقاء |
سينمائيات
عماد النويري |
|