شعار الموقع (Our Logo)

 

 

·     الفيلم يحاول إقناع المتفرجين في كل أنحاء الدنيا ألا خيار أمام أمريكا سوي القوة الضاربة للقضاء علي «قوي الشر»!  

ما يعطي أفلام هوليوود قوتها وسيطرتها هو بالضبط قدرتها علي التنبؤ بمسيرة أذواق الجماهير في كل ركن من أركان العالم.. فهي بعد أن استغلت ظاهرة الوحوش الأسطورية والكائنات الخرافية ذات القوة الوحشية ومصاصي الدماء والرجال الذئاب.. والحشرات الطائرة، كل منها في فيلم أو أكثر.. شعرت أن مادتها قد استنفدت وأنها بحاجة إلي تركيبة جديدة تجمع فيها هذه الوحوش الهائلة التي وزعتها علي أفلام متفردة.. في فيلم واحد.. يثير الدهشة والتساؤل ويفتح للخيال أبوابه الواسعة.

وهكذا مثلا جربت أن تجمع بين شخصيات أدبية اشتهرت بوحشيتها ودمويتها وبهالة الغموض التي تحيط بها.. في فيلم اسمته جمعية الأبطال الاستثنائيين وعمدت ببطولته إلي النجم الذي اختص بقهر إمبراطوريات الشر مجتمعة «شين كونري» أو كما أصبحنا نعرفه باسم «جيمس بوند».

ولكن رغم فشل هذ التجربة الأولي نسبيا.. وعدم تحقيقها النجاح الذي كانت هوليوود تصبو إليه، أعادت الكرة.. جامعة أسلحتها كلها في فيلم يدعي «فان هلسينج» ضرب حتي الآن أرقاما قياسية بالإيرادات وجاء توقيت عرضه في مصر بشكل غير ملائم.. فلم يحقق الأرباح التي كان يتوقعها أصحابه.. ومع ذلك ترك تأثيرا واضحا في نفوس من شاهدوه.. لما يحمله من رموز وتأويلات.. ولما يمتاز به من تكنيك عال في التصوير والديكور والحيل السينمائية.. يجعل المشاهد في حالة انبهار مطلق منذ البداية وحتي النهاية.

أما الرمز الذي يختفي وراءه الفيلم ولا يخفي علي الصين الذكية.. فهي أن العالم قد امتلأ بالشرور التي استفحلت في الشرق والغرب معا.. ففي كل ركن من أركان العالم.. هناك وحش بشري أو أسطوري يتمتع بقوة خارقة ويحاول أن يبسط نفوذه وشره وهمجيته علي من يحيط به.. لذلك كان لابد من وجود قوة واحدة مسيطرة جامحة مدهشة تستطيع أن تقف بوجه هؤلاء الوحوش الأشرار وأن تغلبهم جميعا.. وأن تعيد التوازن إلي الأرض التي فقدت توازنها، هذه القوة.. هي «فان هلسينج» الذي يبدأ معاركه بأن يحارب مستر هايد الشرير الوجه الآخر للدكتور جيلل الذي احتمي بأعلي برج في كنيسة نوتردام بباريس مذكرا إيانا بوحش آخر أكثر إنسانية هو أحدب فيكتور هيجو الشهير ولكننا هنا في فيلم لا يريد أن يعطي أي وحش يهددنا أية صفة إنسانية كائنة ما كانت.

المعركة الأولي إذن ستدور في الكنيسة الفرنسية الشهيرة التي اشتهرت بهندستها القوطية المرموقة وبتماثيلها الشيطانية البشعة التي تثير الخوف والتقزر معا.

في هذه المعركة يضعنا المخرج فورا أمام الأسلوب السينمائي الذي سيسير عليه بعد ذلك في مراحل الفيلم كلها متبعا نظاما تصاعديا في الإبهار يصل بنا في المعركة الأخيرة إلي حد اللهاث وانقطاع النفس.

من خلال هذه المعركة الحادة الدموية.. التي تنتهي بإلقاء مستر هابد من أعلي أبراج الكنيسة إلي أسفلت الشارع أمام أنظار المارة المبهورين الذين لا يعرفون كيف يلتقطون أنفاسهم.. يبدو واضحا الاهتمام غير العادي بالديكورات القوطية.. وبالامتدادات ذات النهايات الغامضة.. وباللوحات الكبيرة الثقيلة وبالأعمدة الشامخة.. والتماثيل الحجرية التي تبدو كأعضاء جوقة يونانية تراجيدية تقف صامتة لتشهد كيف تبدأ المعركة وكيف تنتهي.

بعد هذه المعركة التي تحدد لنا قوة «فان هلسينج» وجبروته.. كان لابد للبطل الأسطوري الذي نحلم به ميعا أن يذهب ليحارب إمبراطورية الشر التي يمثلها في رومانيا الكونت دراكولا مصاصي الدماء وعسكره المكون من مجموعة من الفتيات الساحرات ذوات الأجنحة كالملائكة اللوائي ينقلبن في لحظة واحدة إلي نسور مفترسة لها أنياب ومخالب تغرز في الرقاب لتمتص الدماء. ولتجعل من الضحايا جنودا جددا لهذا الجيش المفترس الذي يهدد القري والمدن بل والمنطقة الآمنة كلها التي تعيش تحت وطأة رعب لا وصف له.. ولا نجاة منه.

وهنا تنقلب سينما الرعب إلي سينما من الخيال الجامح المجنون الذي تتداخل جمالياته الآسرة مع وجوه الرعب المختلفة التي تغلف هذا الجمال وكأننا أمام لوحة لجويا أو قصيدة لميلتوني في رومانيا. وفي قصر دراكولا الذي تفنن فنان الديكور في صنعه.. وخلط فيه بشكل آسر بين أجواء قوطية دينية.. وبين حس غرائزي وحشي.. يجد «فان هلسينج» نفسه محاطا بمصاصات الدماء المجتمعات رائعات الجمال اللواتي يفردن أجنحتهن البيضاء طويلة ممتدة.. قبل أن يهاجمن ضحاياهن بمشاهد تشبه رقصات الباليه رغم وحشيتها وعنفها ودمويتها.

مشاهد سينمائية آسرة.. تذكرنا بكيف يمكن للسينما أن تجعل من الرعب قصيدة ومن الخوف المباغت أغنية وحشية.. «فان هلسينج» عليه أن ينقذ توأما مكونا من أخ وأخته.. هما الوحيدان اللذان بقيا من سلالة ملكية هزمها دراكولا.. وعليه أن يضع حدا نهائيا لها.. بموت هذين التوأمين.

في هذه المعركة الجديدة.. التي أراد الفيلم أن يعود بنا من خلالها إلي الأساطير الجرمانية القديمة التي طالما وقفا عندها الموسيقار الكبير فاجنر تتداخل عناصر أخري من الأساطير.. تزيد من رهبة المعركة وقوتها وتأثيرها هناك فرانكشين الوحش الذي خلق الإنسان.. وأصبح حائرا.. في هويته الحقيقية.. والرجال الذئاب الذين يتحولون إلي كائنات جائعة شرهة للموت والقتل.. عندما ينتصف القمر.

الكل جنود في معركة واحدة. دموية عنيفة لا تعرف الشفقة ولا التوقف.

وتدور المعركة الجديدة.. ويذهب ضحيتها الأخ التوأم الشاب.. الذي تعضه مصاصات الدماء في عنقه فينقلب إلي واحد منهن.. وعلي أخته أن تدافع حتي الرمق الأخير بمساعدة هلسينج علي البقاء حية.

كل ذلك يدور في جو يجمع بين الأساطير القديمة وبين شخصيات الوحوش التي طالما رأيناها.. وطالما عرفنا مسار مغامراتنا في أفلام أخري.. ولكنها هنا.. تأخذ منحني جديدا عندما تتواجد وتتصادم.. ويحاول كل منها أن يفوز علي غريمه بنصيب الأسد.

الديكورات المذهلة.. التصوير المدهش وحركة الكاميرا التي لا تنقطع.. والإيحاءات الشعرية التي تختفي وراء نافورات الدم.. ومن خلال الحوريات ذوات الأجنحة البيضاء اللاتي يطرن جماعات جماعات.. في سماء احتشدت بالمئات منهن، قبل أن يهاجمن البشر ويتحولن إلي وحوش بشرية مغتصبة.

نهاية ميلودرامية

وبالطبع كان لابد للفيلم أن ينتهي بالنهاية التي ينتصر فيها البطل الوحيد علي أعدائه، ولكن من خلال نهاية ميلودرامية.. تتلاءم والجو الأسطوري الذي حاول الفيلم أن يخلقه رغم المعارك الطاحنة بين الوحوش والبشر.

حتي فرانكشين.. يجد لأزمته حلا.. بينما يقف الرجال الذئاب حائرين في معركة لا يعرفون فيها إلي أي جانب عليهم أن ينضموا، وهل يسيرون في ركاب مستقبل مضيء قد يطحن قوتهم.. أم يقفون ويعاضدون شرا مستطيرا قد يأكلهم بعد حين.

«فان هلسينج».. نوع جديد من المغامرات الخيالية الأسطورية تقدمها هوليوود مستغلة إمكاناتها الفنية الكبري بالإدهاش والإمتاع.. دون أن تبعدنا عن الرموز الكثيرة التي تحاول أن تفرضها علينا وأن تجعلنا ندرك ضرورتها وعدم إمكانية الاستغناء عنها، وأكثر هذه الرموز وضوحا وأكثرها تأثيرا هو إقناع المتفرج في كل ركن من أركان الدنيا.. وأن القوة الوحيدة الضاربة.. هي الخيار الوحيد المتاح له.. كي يتخلص من الوحوش التي تحيط به.. وأن هذه القوة إذا لم تأت لإنقاذه فإن الخراب والهدم والسقوط تحت نفوذ الوحش.. هو القدر المسيطر عليه.

رسالة واضحة.. ومفهومة تقدمها هوليوود في طبق من ذهب ولؤلؤ.. فهل وصلت؟

جريدة القاهرة في 17 أغسطس 2004

كتبوا في السينما

 

مقالات مختارة

حوار صريح مع المخرج السينمائي المصري محمد خان

عمر الشريف يفوز بـ"سيزار" أفضل ممثل

جوسلين صعب:السينما التسجيلية تمنح رؤية نافذة للاحداث

ناصر خمير: أفلامي حلم... وعندما تحلم تكون وحدك

      برتولوتشي: لقاء

رندة الشهال: أهل البندقية يحبونني

تاركو فسكي: بريق خافت في قاع البئر

 

 

د. رفيق الصبان يكتب عن «فان هلسينج»:

رسالة هوليوود «الدموية» الجديدة إلي العالم