تشهد بيروت في الفترة المقبلة نشاطاً سينمائياً استثنائياً ومتنوعاً. واذا كانت المهرجانات السينمائية غدت من سمات نهاية العام في بيروت مع التحضير لانعقاد "ايام بيروت السينمائية" منتصف ايلول و"نما في بيروت" في اعقابه و"مهرجان الفيلم الوثائقي" في تشرين الثاني وسواها، فإن حركة تصوير الافلام السينمائية هو الذي يبدو استثناءً، محبباً بالطبع. ادار العجلة المخرج ميشال كمون الذي بدأ منذ اسبوعين تصوير فيلمه الروائي الاول في عنوان "فلافل"، يقوده فريق عمل شبابي لبناني. على ان الحركة ستكمل خلال الاشهر المقبلة حتى مطلع السنة الجديدة بثلاثة مشاريع سينمائية اخرى. الاول هو الفيلم الروائي الثاني للمخرجين خليل جريج وجوانا حاجي توما بعد "البيت الزهر"؛ الثاني هو الشريط الروائي الرابع لرندة الشهال صباغ بعد "شاشات الرمل" و"متحضرات" و"طيارة من ورق"؛ اما الثالث فهو التجربة الروائية الثالثة للمخرج غسان سلهب بعد "اشباح بيروت" و"أرض مجهولة". أضف الى ذلك، مشروع برهان علوية المنتظر عمليات المونتاج والميكساج الاخيرة منذ نحو ثلاث سنوات. ولعله في الكواليس، تحضيرات لمشاريع اخرى لم يُعلن عنها بعد. البداية مع ميشال كمون وفيلمه "فلافل" الذي امضى سنوات عدة في محاولة تمويله وإطلاقه. ها هو يطلقه بالفعل ولكن كيف وبأية شروط؟ هنا حوار مع المخرج دار بعيد بدء التصوير حول المشروع. *** منذ اسبوعين تدور كاميرا الفيلم الروائي الطويل "فلافل" مع فريق عمل لبناني صغير، يتلاءم مع موازنة المشروع وامكانياته المادية الضئيلة، شأنه في ذلك شأن الكثير من المشاريع السينمائية اللبنانية المنجزة في السنوات الاخيرة بتوقيع سينمائيين شباب. كان على ميشال كمون، صاحب المشروع كتابة واخراجاً، ان يعبر "طريق الآلام" عينه قبل ان يعلن ولادة الفيلم. وكما هي الحال دائماً، لم يرتبط الاعلان عن بدء التصوير باستكمال المراحل كافة التي يمر المشروع فيها، بقدر ما كان وليد احساس كمون بالالحاح والحاجة. بالنسبة الى المخرج الشاب الذي يخوض بـ"فلافل" تجربته الروائية الطويلة الاولى، لكل مشروع "آنيته المرتبطة بنضجه". لذلك لم ينتظر المخرج حتى يستكمل عملية التمويل الشاقة التي يخوضها منذ العام 1999، بداية تبلور المشروع. ولكأن القدر شاء ان يعاكسه اكثر، فلم يكن قد مضى على انطلاق التصوير اربعة ايام، حتى اضطر فريق العمل للتوقف بسبب مشكلة تقنية، اعادت العمل الى النقطة الصفر وزادت من عبء التكاليف. على ان روحاً شبابية مثابرة لا تنفك تسري بين اعضاء فريق الفيلم. لعله وضع قائم على مفارقة بينة، إذ انه سينمائي وغير سينمائي في آنٍ معاً. فذلك الاصرار على القفز الى المجهول لا يمكن ان يكون نابعاً الا من شغف عميق بالسينما ولكنه في الوقت عينه يطرح الاسئلة حول ثمن "التضحيات" التي يقدمها الجميع. فمن جهة، ربما يكون هذا المشروع الاول الذي يطلق فريق عمل سينمائي لبناني بامتياز من مساعدين ومديري انتاج واضاءة الى مصور ومهندس صوت (ربما كانت هناك تجارب سابقة ولكن ليس بوسيط سينمائي بل فيديو)، محققاً اخيراً المعادلة المرجوة. ومن جهة ثانية، فإنه يطرح تساؤلات جديدة. الى اي حد يمكن هذه المجموعة ان تتغذى على مشاريع سينمائية اخرى في ظل قلة الاخيرة وتقشفها في معظم الاحيان؟ هل يمكن العمل السينمائي ان ينافس الاعلاني والفيديو كليب؟ ربما لا يجدر به ان يفعل، ولكن التساؤل مشروع في ضوء انفتاح السينما على المواهب المحلية بعد ان كانت عصية عليهم لفترة طويلة وحكراً على عناصر اجنبية منتمية الى بلد الانتاج، لاسيما ان العمل السينمائي يحتاج الى المثابرة والمتابعة. فهل تتوفر فرص العمل السينمائي لاولئك من جديد؟ واذا توفرت فبأي ثمن وتضحيات؟ أحد السينمائيين اعتبر ان اي مشروع سينمائي في لبنان هو، وان أُنجز، بمثابة "دين" يرهق صاحبه لثلاث سنوات بعده على الاقل. ليس الامر سيان بالنسبة الى صاحب المشروع. فالمسألة ان لم تتخذ شكل الحاجة فذلك يعني انها خارج السينما. "العملية كانت شاقة ولا توصف" يقول كمون في لقائه "المستقبل" عن الطريق التي سار فيها بحثاً عن تمويل للفيلم. ولكن بالنسبة اليه، ليس ذلك ما يحدد ولادة المشروع "قررت ان انجزه لأنه يستحق ان ينوجد. اشتغلت على الارض وبدأت مرحلة التنفيذ." لا ينكر المخرج وجود وضع صعب بالنسبة الى الانتاج السينمائي في لبنان ولكنه في الوقت عينه يأبى خوض النقاش المستهلك حول وضع السينما ومشكلاتها معتبراً ان "كل فيلم حالة خاصة وكل صاحب مشروع مسؤول في النهاية عن ايجاد الحل. لا بد من العثور على طريقة لننجز افلامنا." على ان كلامه هذا لا يندرج في خانة الخطاب السينمائي الجديد الذي يعتبر مطالبة الدولة بإنشاء صندوق دعم للسينما انما هو قضاء على فضاء حريتها وتعدديتها وتمهيداً لقولبتها "أنا ضد هذا الكلام لأنه استسلامي. هل نرفض قيام نظام انتاج سينمائي خوفاً من العيوب التي قد تشوبه؟ لا. فلينوجد هذا النظام اولاً ولتبرز عيوبه وعندها نصلحها. لا شيء يتحقق من دون التجربة والخطأ." برغم ذلك، لم يلجأ المخرج الى الديجيتال على الرغم من انه كان مطروحاً في البداية. ولكن ما ان لاحت فرصة امكانية تصويره بكاميرا سوبر 16 من خلال ابرام اتفاقية انتاجية مع جهة ما، حتى تمسك كمون بذلك: "هذه مسائل تقنية تتبدل. ولكن المشروع مكتوب اساساً للسينما كما ان تصويره الليلي بمجمله يجعل الوسيط السينمائي اكثر ملاءمة بسبب حساسيته الاعلى للضوء من حساسية الفيديو. ولكن اكرر ان الوسيط لم يعد هو المهم كما انه ليس العنصر الذي يوقف مشروعاً او يطلقه." بدأ مشروع "فلافل" العام 1999 ولكنه لم يبدأ بفكرة او بصورة بل بشخصية: "انطلقت فكرة المشروع من شخصية توفيق المستوحاة من شخصية اخي المتوفى ومن العلاقة التي ربطتني به. أعتبر هذا الفيلم له لأنه بدأ به." خلال اربع سنوات، عمل كمون على كتابة السيناريو واعادة كتابته مراراً "النسخة الاولى ابصرت النور العام 2000 وهذه التي اصورها الآن هي النسخة الخامسة. بين النسخة الاولى والاخيرة، لم يتغير محتوى الفيلم بل التفاصيل." يعتبر المخرج ان هناك عوامل كثيرة دفعته الى انجاز الفيلم في هذه المرحلة، ليس الانتاج اهمها: "شعرت ان الموضوع نضج وان وقته حان فإذا لم انجزه الآن سيتوقف عن ان يكون snapshot من الحياة. لكل سيناريو وقته المناسب قبل ان يفقد طزاجته ولحظته التي تجعله حقيقياً. ثم ان رغبتي بعمل الفيلم هي في الذروة الآن واحساسي بالفيلم حقيقي." الواقع والنظرة الشخصية يروي "فلافل" ليلة واحدة في حيوات مجموعة شخصيات، في مقدمها "توفيق"، تتقاطع في علاقاتها انما كل منها ينتمي الى جيل والى عالمه الخاص. لجيل الشباب الذي ولد لو كبر خلال الحرب الحصة الكبرى في الاحداث المرتكزة على سلوكهم واسلوب عيشهم وعلاقاتهم بعضهم ببعض وبالمجتمع. يقول كمون عن شخصيات فيلمه: "في الفيلم نحو 35 او 40 شخصية، حاولت ان اكتبها بطريقة حقيقية وان ارسم لها عوالمها الخاصة التي تمكنها من العيش من خلال هاجس او فلسفة خاصة. شخصيات فلافل نراها كل يوم. " تنتمي شخصيات الفيلم الى بيروت اليوم، بحسب المخرج "ويعكس عالم الفيلم حقيقة صادقة بالنسبة الى نظرتي ورؤيتي لهذا المجتمع." اما الجانب الشخصي فيعتقد كمون انه حاضر في "الرؤية والمخيلة لصاحب العمل". في ظل التسميات التي تسود الافلام اللبنانية منذ بداية عقد التسعينات من القرن الماضي والمرتبطة شكلاً ومضموناً بالحرب من نوع فيلم "في الحرب" او "عن الحرب" او "ما بعد الحرب"، يكتفي كمون بالقول ان فيلمه "يدور في بيروت هلّق ويعكس المجتمع كما اراه. انها بيروت بعيوني وجيل الشباب من خلال نظرتي. اما صفة بيروت بعد الحرب فهي حتماً جزء من بيروت اليوم." المخرج نفسه أنجز العام 1995 فيلماً عن الحرب انما في بداية مرحلة ما بعد الحرب في عنوان "ظلال" وأهداه الى السينمائي الراحل مارون بغدادي. كأنه يعلن من خلال جمع التناقضين، الحرب وما بعد الحرب، موقفاً من نهايتها وموقفاً ضد نسيانها من خلال ثنائية الانسان وشبحه في مطاردة بين ركام وسط بيروت. يقول كمون انه لم يعش بيروت قبل الحرب "كان عمري خمس سنوات عندما اندلعت الحرب وعشتها كلها في بيروت قبل ان اسافر الى باريس سنة 1990." لذلك ربما تنتمي شخصيات الفيلم الاساسية الى جيل الشباب الذي كبر خلال الحرب، من دون ان تغيب اجيال اخرى من خلال الاهل الذين عرفوا بيروت قبل الحرب وخلالها وبعدها والأطفال الذين وُلدوا بعدها. لعله اسلوب كمون بجمعه هذه الاجيال في قول كلمته عن وبث نظرته تجاه الحرب من خلال تأثيرها في السلوك اليومي لاولئك وفي شخصياتهم. بين بائع السلاح الذي تحول سكيراً ومخلوقاً ليلياً منطوياً على ذاته وبين شاب مازال يحصل على ما يريده بواسطة القوة وآخر يجد فلسفته الخاصة في اقراص "الفلافل"، من الصعب الا نلمس ملامح سلوك مطبوع بتجربة انسانية قاسية بالنسبة الى بعضهم ومدمرة بالنسبة الى البعض الآخر. في افلامه الثلاثة القصيرة السابقة، "كاتوديك" (1993) و"ظلال" (1995) و"حمام" (1999)، مال كمون الى لغة سينمائية تجريبية ومكثفة، تنطلق من اعماق التجربة والرؤية الذاتيتين لتقول كلمتها عن العالم والعلاقات الانسانية والى نبرة تنجذب الى عبثية الحياة والشخصيات: شاب يسقط من ناطحة سحاب في سبيل الاعلان عن نظارات تقاوم الكسر في الاول؛ رجل يطارد شبحه وذاكرة شهيد معلقة صورة على حائط في الثاني؛ وشاب يموت غرقاً خلال استحمامه بأتفه صورة لتلاقي الموت والحياة. لعله من المبكر الآن الحكم على مقاربة كمون السينمائية لفيلمه الطويل ولكن الميل الى اسلوب سردي واقعي يميز هذه التجربة: "لا أعتبر ان افلامي القصيرة تعكس تماماً من انا. ولا أحبذ الانغلاق داخل اسلوب واحد. احب التجريب في الكتابة وفي المعالجة ولكنني احب ايضاً اختبار اتجاهات مختلفة في السينما. ولا ضير من القول انني اريد لفيلمي اللبناني الطويل الاول ان يكون قريباً من الناس، ان يعكس واقعاً يعرفونه." الهوية لعل ذلك يقود الى اشكالية تواجهها معظم الافلام اللبنانية التي ابصرت النور منذ منتصف التسعينات المنصرمة الا وهي اشكالية "الهوية". الكل يتحدث عن بيروت واهلها وآخرون يسألون "هل هذه بيروت؟ هل هؤلاء نحن؟" لعل هذه الاسئلة رافقت الافلام اللبنانية منذ انتاجاتها الاولى وأسهم تاريخ هذه السينما المتقطع والمتبدل في تعزيز الاسئلة حول هوية الفيلم اللبناني وانتمائه الى إطار واضح من الافكار والقيم. من جهته يعتبر كمون انه بعيد من هذا الادعاء: "لا املك الادعاء لقول انني انجز فيلماً عن الانتماء او الهوية. ولكن باعتقادي ان اي فيلم يعكس حقيقة معينة من وجهة نظر خاصة هو حتماً يحتوي على كل تلك الهواجس. "فلافل" يعكس نظرتي ومراقبتي وحتماً اسئلتي التي يمكن العثور على اجابات لها من خلال الشخصيات. ولكنني ابداً لا احمل الاخيرة ما لا ينسجم معها. بل انني اترك للشخصية ان تحملني الى ما تريد قوله من وحي تركيبتها وعالمها. الفكرة وحي وخيال وليست حسابات. أفضل دائماً ترك هامش واسع للفطرة والآنية وباعتقادي ان هذا ما يمنح العمل طابعه الخاص. فإذا استطاع بخصوصيته هذه ان يطرح كل تلك الاسئلة وان يعبر عن تساؤلات الآخر فذلك ما يهمني." اللافت في تجربة كمون الاولى كما ذكرت ارتكازها على كادر تقني شبابي خالص (ادارة تصوير: مورييل ابوالروس؛ تصوير: سرمد لويس؛ مساعد مخرج: وائل الديب؛ هندسة صوت: شادي روكز؛ ادارة انتاج: بيار صراف وماريان كترا؛ ادارة فنية: باميلا غنيمة...). يُستكمل هذا الفريق التقني بفريق ممثلين شباب ايضاً من المحترفين وغير المحترفين في الادوار الرئيسية في مقدمهم ايلي متري وميشال حوراني وزينة صعب ديميليريو وأيمن بيطار وزياد صعيبي وآخرين. وفي المقابل، يشارك ممثلون مخضرمون في الادوار الاخرى من امثال رفيق علي احمد وروجيه عساف وحسن فرحات وهيام ابو شديد وبطرس فرح الى الشباب عادل كرم وعمار شلق وعصام بو خالد وريمون حصني وسواهم. يستمر تصوير الفيلم الذي تدور احداثه ليلاً خلال ليلة واحدة حتى اوائل ايلول/سبتمبر المقبل بين بيروت والاشرفية وبرج حمود وجونيه. اما المرحلة الثانية ما بعد الانتاجية، فتنتظر رحلة اخرى من البحث عن مصادر تمويلية جديدة. المستقبل اللبنانية في 13 أغسطس 2004 |
برتولوتشي: لقاء |
ميشال كمّون يدير عجلة التصوير السينمائي بتجربته الروائية الطويلة الأولى "فلافل" فيلم عن بيروت اليوم من وجهة نظر شخصية ريما المسمار |
|