لم يأتِ كريم طرايدية إلى عالم الإخراج السينمائي مباشرة, فقد سبق له أن قطع شوطاً طويلاً في دراسة التكنولوجيا والإلكترونيات في الجزائر قبل أن يشد الرحال إلى باريس, ويقضي فيها أربع سنوات وهو يعمل ليل نهار في مطعم من أجل تأمين هاجس العيش. وما لبث ان غادر باريس إلى هولندا حيث انهمك في العمل في أحد المصانع, ثم شرع بكتابة بعض النصوص المسرحية التي مهدت له الطريق إلى أكاديمية التلفزة والسينما في أمستردام. ثم بدأ رحلته الإخراجية المتأنية, إذ أخرج عدداً من الأفلام القصيرة من بينها فيلم "الفشل" الذي لفت من خلاله إهتمام النقاد والصحافيين. وفي عام 2000 حقق فيلم "الصحافيون" نجاحاً كبيراً, لا يختلف كثيراً عن النجاح المذهل الذي حققه فيلمه الروائي المعنون "العروسة البولندية", إذ إشترك في الكثير من المهرجانات العالمية من بينها مهرجانات كان وبرلين وروتردام, كما نال الكثير من الجوائز التي رفعته إلى مصاف المخرجين السينمائيين الهولندين من الدرجة الأولى. ومناسبة إشتراكه في الدورة الرابعة لمهرجان الفيلم العربي في روتردام بفيلم "الصحافيون" ضمن محور "أفلام ضد الإرهاب", إلتقيناه, ودار الحوار التالي. · أنت كتبتَ قصة فيلم "الصحافيون" هل تعتقد أن اهتمامك بكتابة القصة المحبوكة التي لها بداية ووسط ونهاية هي أفضل لمعالجة موضوع كبير من هذا النوع من سينما المواقف والحالات و"الموتيفات" الخاطفة؟ - عن كتابة السيناريو يقول المخرج العظيم غودار "كل قصة أو سيناريو لها بداية ووسط ونهاية" لكن بالنسبة الي, ليس المهم أن نبدأ من بداية القصة, من الممكن أن نبدأ من منتصف القصة أو من نهايتها. هذه القصة حقيقية, وقد كتبتها عن أحد الصحافيين الذين يجدون صعوبة في التفكير, لأنه عندما يخرج من منزله, لكي يذهب إلى دائرة عمله قد يتعرض إلى عملية إغتيال أو قتل متعمد. وكان عليه أن يغيّر طريق الذهاب والعودة إلى عمله كي ينجو بنفسه من الترصد والقتل الذي ينتظره في أي لحظة. في كل صباح كان عليه أن يبدل طريقة التنقل حتى في السيارة التي يستقلها, أحياناً كان الطريق يستغرق ساعة, لكنه لكي يتفادى القتل عليه أن يذهب مشياً على الأقدام لمدة ساعتين أو ثلاث ساعات. ولذلك فهو لا يعرف أحياناً إن كان ذاهباً لمنزله أو لمكان آخر. وكان أحياناً لا يتذكر إن كان أمس قد سلك هذا الطريق أم لم يسلكها. أفكار مختلطة, وهواجس ليس لها أول ولا آخر. هذا التشويش هو دلالة أو إشارة لإرتباك الشريحة المثقفة التي تجد نفسها هدفاً للمتطرفين من رجال الدين. · هل هذه الحكاية مُستمدة من حياتك الشخصية أم أنها قصة شخص آخر تعرفة أثرت فيك فحوّلتها إلى فيلم سينمائي؟ - نعم, فيها أشياء شخصية, ولكن القصة هـي لشخـص آخر. أنا أعرف هذا الصحافي الذي تعرض للإغتيال في الجزائر واسمه سعيد مقبل وهو كان يعمل في صحيفة "لوماتان" الفرنسية التي تصدر في الجـزائر, وهي جريدة حرة, مستقلة. وألتقيته مرات عدة, وقُتل مع الأسف بطريقة بشعة. تخيّل لقد أطلقوا عليه هذا الرصاص بينما كان منشغلاً بتناول وجبة طعام. · الفيلم فيه صدمة, وهذه الصدمة تشد المتلقي, ولهذا أسألك عن المونتير, وأقول لك: هل لعب دوراً مهماً في المحافظة على إيقاع الفيلم, أم هذا الإيقاع المستوي كان موجوداً في نص السيناريو نفسه؟ - كنت أعرف هذا المونتير منذ أيام الدراسة في كلية السينما في أمستردام. وكنا نفهم بعضنا بعضاً جيداً بسبب طبيعة العلاقة الروحية والثقافية التي تربط بيننا, هو يفهم أحاسيسي ومشاعري في شكل جيد. ويحس بي حتى عنـدما أبـكي بلا دموع. أنا أحكي له القصة مرة واحدة, وأترك أمر المَنتجة له. وهو يمتلك الشجاعة الكبيرة عندما يريد أن يحذف شيئاً من التصوير أو يقترح إضافة لقطات جديدة لأنه يعرف حتى أحاسيسي الداخلية, ولهذا فأنا حينما أعمل معه لا أخسر وقتاً. في كثير من الأحيان نحن لا نتكلم مع بعضنا بعضاً حينما نعمل, ولك أن تتخيل كيف نتفاهم. لقد سافر معي في كثير من المهرجانات والفاعليات الثقافية إلى المغرب ومصر وكنا منسجمين في كل شيء تقريباً. الجانب البصري · طالما أنت تُعنى بفيلم الفكرة, كم من الإهتمام تعير إلى الجانب البصري, أو إلى الصورة الفنية بغض النظر عن الثيمة أو الفكرة؟ - الصورة مهمة جداً في الفيلم إن لم تكن هي الأهم تماماً في السينما. هناك ثلاثة أبعاد مهمة في أي فيلم وهي "الرؤية, السمع, والحس" أنت تسمع قصة تُسرد عليك من خلال الأحداث والشخصيات, وترى هذه الأحداث أمامك, أنا أقول أن ترى وتسمع, هذان أمران سهلان جداً, ولكن الصعوبة تكمن في الإحساس. الإحساس الفني هو الإحساس بمعنى ما بالصورة الفنية التي تتولد نتيجة علاقة الضوء بالظل والتكوين والشيفرات والترميزات وغيرها. يجب أن ترى شيئاً جميلاً وتدخل في الجو السينمائي. بالنسبة إليّ الكلام ليس مهماً, وإنما الشيء القابع وراء الكلام. أنا أريد أن أجعل الناس يشعرون بما يشعر به الممثل من حب أو كراهية, توتر أو إسترخاء, خوف أو طمأنينة وهكذا. لا أريد أن أدع الممثل في واد, والجمهور في واد آخر, أريد أن يكون الإثنان معاً في واد واحد, وجو واحد لا ينفصل. عروس بولندية · ما سر الإهتمام بفيلمك الذائع الصيت "العروسة البولندية" ولماذا حصد عدداً كبيراً من الجوائز؟ - قصة هذا الفيلم كتبها سيناريست هولندي, وأنا عملت أيضاً في السيناريو, وأضفت إليه, وعدّلت فيه. لقد نجح هذا الفيلم نجاحاً كبيراً من وجهة نظري لأنه يمس الروح, ويداعب المشاعر الحقيقية للإنسان مُمثلة بالعروسة البولندية التي رفضت أن تعمل في منزل البغاء, ورفضت أن تبيع جسدها مهما كان الثمن على رغم صعوبة الظروف التي كانت تحيط بها. كما أن دور الشخص الذي أحبها كان إنسانياً إلى درجة كبيرة, وقد أديا دوريهما بطريقة متقنة جداً نالت إعجاب الكثيرين. لهذا رشح هذا الفيلم إلى الكثير من المهرجانات مثل كان وبرلين وروتردام, وذهب إلى أميركا, ونال الكثير من الجوائز منها جائزة الجمهور, ورشح إلى غولدنكلوب, والأوسكار, وهو بالمناسبة أول فيلم هولندي يمنح جائزة في مهرجان روتردام الدولي, كما اشترك كأفضل فيلم أوروبي في مهرجان برلين, وفاز بجائزة العجل الذهبي في مهرجان أوتريخت. فيلم "العروسة البولندية" هو فيلم بسيط في فكرته, لكنه عميق في طرحه, إذ يتكلم عن إمرأة بولندية مهاجرة ارادوها أن تعمل في مبغى فرفضت, وهربت, وانتهى بها الأمر إلى معمل, وتعرفت الى شخص هولندي, فحدثت علاقة حب بسيطة ثم كبرت هذه العلاقة شيئاً فشيئاً ودخلت في فضاءات إنسانية أخرى. في الفيلم ليس هناك كلام, كلاهما لا يعرف لغة الآخر. المتاجرون الهولنديون بالرقيق الأبيض أتوا بها, وقالوا لها أنك ستعملين في فندق, أي كذبوا عليها, ولكنها هربت لأنها لم ترد أن تكون مومساً. تقنيات الفيلم كانت على درجةٍ عالية من الإتقان, وهذا سبب في شد المشاهدين, ولفت إنتباههم. هذه هي أبرز الأسباب التي دفعت لترشيح هذا الفيلم لمهرجانات عدة نال من خلالها جوائز مهمة. الحياة اللبنانية في 13 أغسطس 2004 |
برتولوتشي: لقاء |
روتردام/ عدنان حسين أحمد |
|