ليس من قبيل المصادفة أن يتزامن ظهور ثلاثة أفلام سينمائية لمخرجات مصريات، بينهن واحدة لبنانية، كانت بداياتهن تشير من دون لبس أو مغالاة الي أنهن جميعاً سيحققن حضوراً متميزاً في السينما العربية، وهذه الأفلام هي أحلي الأوقات لهالة خليل، و دنيا لجوسلين صعب، و الباحثات عن الحرية لايناس الدغيدي. وقد اتخذت هذه الأفلام الثلاثة من المرأة محوراً أساسياً لها، ويمكن اضافة فيلم سهر الليالي للمخرج المصري هاني خليفة، و حب البنات للمخرج المصري أيضاً خالد الحجر، واللذين يركزان علي التعاطي مع مشاكل المرأة، وحدود الحرية المتاحة لها سواء داخل حدود العالم العربي أو في خارجه. فالثيمة الأساسية لفيلم حب البنات تتمحور حول ثلاث شقيقات ينحدرن من أب واحد، وثلاث أمهات مختلفات، وحينما يموت الأب مُخلفاً تركة كبيرة لا يمكن حسمها قانونياً ما لم يجتمعن في بيت واحد. وحينما يفعلن ذلك تبدأ أمراضهن النفسية بالظهور الي السطح، ثم يكتشفن في النهاية أن الحب هو دواء للأمراض النفسية كلها. أما فيلم دنيا للمخرجة اللبنانية جوسلين صعب والذي أثار ضجة كبيرة في مصر بسبب جرأته في تناول بعض القضايا الحساسة في الوطن العربي مثل ختان النساء، وحرية المرأة، والارهاب الذي يتعرض له بعض المثقفين والمفكرين بسبب مواقفهم الفكرية والسياسية، هذا ناهيك عن المحور الأساسي الذي تقوم عليه ثيمة الفيلم الذي تؤدي بطولته حنان ترك ، طالبة الدراسات العليا، بكلية الآداب، ذات الجذور الصعيدية التي تصبح راقصة بمساعدة أستاذها محمد منير رغم الظروف القاسية التي تواجهها في مجتمع مأزوم بعاداته وتقاليده الصارمة. أما المخرجة المصرية المعروفة ايناس الدغيدي التي غالباً ما يقترن اسمها بالأفلام الساخنة فقد أثار فيلمها الجديد الباحثات عن الحرية لغطاً غير مسبوق الي الحد الذي أربك فيه لجنة الرقابة علي المصنفات الفنية لأن الفيلم بحسب الرقابة يصوّر مشاهد فاضحة، خليعة، وقد سبق للرقابة المصرية أن نبهت علي ضرورة تصوير سبعة مشاهد من الفيلم بطريقة ايحائية غير مباشرة، لأن الدغيدي لا تتورع عن الاغراق في الجانب الاباحي، وتبالغ فيه الي درجة المغالاة بحجة التعبير عن رأيها ورؤيتها الفنية والجمالية. جدير ذكره أن قصة الفيلم كتبتها القاصة السورية هدي الزين، ثم حولها الي سيناريو د. رفيق الصبان، وهي تتحدث عن ثلاث نساء عربيات من جنسيات مختلفة، يقمن في باريس، ويمارسن حريتهن علي وفق المفاهيم والتصورات القائمة في أذهانهن. اذ تقوم الفنانة المصرية داليا البحيري بدور عايدة وهي فنانة تشكيلية، لديها ابن يعيش في القاهرة، بينما تنغمس هي في قصة حب عنيفة تفضي الي صراع نفسي مرير بين ابنها من جهة، وبين حبيبها من جهة أخري. أما الفنانة اللبنانية نيكول بروديل فتؤدي دور أمل وهي صحفية لبنانية تهرب من لبنان بسبب الحرب الأهلية التي أندلعت هناك لسنوات طوال، وقتلت أمها، واختطفت حبيبها. أما الشخصية الثالثة فهي الفنانة المغربية سناء موزيان التي تؤدي دور سعاد المطربة المغربية المغتربة في باريس، والتي غادرت بلادها بسبب نظرة الرجال لها، والذين يرون فيها مجرد جسد جميل، ولا يعيرون أي اهتمام لصوتها، وموهبتها الفنية الأمر الذي اضطرها للرحيل الي باريس. في فيلم سهر الليالي لمخرجه هاني خليفة الذي يعالج فيه طبيعة العلاقة الزوجية، وما يعتريها من فتور جنسي بعد الزواج الأمر الذي يدفع بالطرفين الي الخيانة الزوجية أو البحث عن بدائل لاشباع هذه الرغبات عن طريق اللصوصية العاطفية كما يحدث لرجل الأعمال الشاب فتحي عبد الوهاب الذي يرتبط بعلاقة عاطفية مع نساء أخريات، ولكن زوجته المحجبة تطلب منه الطلاق عندما تضبطه متلبساً بالجرم المشهود رغم تعلقها الشديد به. بينما لا تتورع جيهان فاضل، مديرة العلاقات العامة في أحد الفنادق من البوح بشكل علني بأن زوجها التقليدي المحافظ لا يشبع رغباتها الجنسية. أما الفيلم الخامس، موضوع بحثنا، فهو أحلي الأوقات للمخرجة المصرية هالة خليل وهو بالمناسبة لا يتصدي لفكرة التحرر الأخلاقي أو الاجتماعي، ولكنه محاولة لاستعادة الثقة بالنفس من خلال اعادة اكتشاف سلمي لنفسها من جديد، والانتصار علي الحياة القاسية، الموحشة التي يبدو في الطرفان الرجل والمرأة ضحايا هذا الواقع المضني الذي يمور بالتناقضات. الواقعية الشعرية تضافر طاقم أحلي الأوقات برمته، وهو في مجمله طاقم نسوي، فقدم فيلماً رصيناً ترك بصمة نسوية في المشهد السينمائي العربي. فالقصة لهالة خليل، وسيناريو وحوار وسام سليمان التي أشار أغلب النقاد والمتابعين بأنها كاتبة لمّاحة، واخراج هالة خليل، وتمثيل حنان ترك، هند صبري، منة شلبي، مها أبو عوف، فضلاً عن عمرو واكد، سامي العدل، خالد صالح، أمير كرارة، وحسن حسني. تصوير أحمد مرسي، ومونتاج منار حسين، وموسيقي خالد حمّاد. وهالة خليل هي مخرجة من جيل التسعينات من القرن الماضي، وهي حاصلة علي بكالوريوس قسم الاخراج من المعهد العالي للسينما في القاهرة، فضلاً عن كونها خريجة كلية الهندسة التي مثلت وأخرجت بعض الأعمال الفنية خلال سنوات دراستها في فرقة الكلية نفسها. ومنذ مشروع تخرجها عام ٢٩٩١ الذي قدّمت فيه ماريونيت أخرجت العديد من الأفلام التسجيلية والروائية القصيرة من بينها أصحابك عشرة ، جمال الثورة ، هيليوبليس و طيري يا طيارة الفيلم الروائي القصير الذي مثل مصر في بعض المهرجانات العربية والعالمية وحاز علي عدة جوائز. و أحلي الأوقات هو تجربتها الأولي في الفيلم الروائي الطويل والذي أثار ردود أفعال مختلفة، لكن أكثر هذه الردود كانت ايجابية ولمصلحة كادر الفيلم برمته. لابد من الاقرار أولاً بأن الأفلام النسوية التي تتخذ من موضوعة المرأة محوراً هي قليلة بمكان، بل ونادرة ان صح التعبير، ويمكن أن نتذكر هنا بعض الأفلام منها فيلم أسرار البنات وهو من تأليف عزة شلبي، واخراج مجدي أحمد علي، وقد أثار في حينها ضجة لم تهدأ الا بعد زمن ليس بالقصير بحجة أنه من نمط الأفلام الساخنة التي تثير حساسية المواطن العربي، وتستفز مشاعره علي الأصعدة الدينية والاجتماعية والأخلاقية. وفيلم يا دنيا يا غرامي لمجدي أحمد علي أيضاً والذي يتحدث عن موضوع الصداقة بين النساء. وكذلك فيلم الأبواب المغلقة لعاطف حتاتة الذي تناول قضايا المرأة، فضلاً عن التناقضات الحادة بين الليبرالي والديني، فكلاهما لم يقدم حلاً للشباب الضائع ممثلاً بشخصية الابن الذي يضطر في نهاية المطاف لأن يقتل الأم وعشيقها المدرس لينتهي الفيلم نهاية درامية مؤسية. المفارقة وسوء الفهم في هيكيلة البناء الفني يتوافر فيلم أحلي الأوقات علي بنية زمكانية يمكن تتبع تأثيرها في سياق الفيلم علي الشخصيات الرئيسة فيه، اذ تنبش في أسه الطبقي، فالفتيات الثلاث سلمي حنان ترك و يسرية هند صبري ضحي منة شلبي تربطهن علاقة صداقة منذ أيام الدراسة المبكرة، ثم تفرقت بهن السبل لاحقاً، غير أن ظلال الصداقة المتلاشية بفعل الانغماس الحياتي سرعان ما تتكشف لتتحد من جديد. فعندما تموت والدة سلمي مها أبو عوف ميتة عبثية في حي المعادي الراقي عندما ترتقي سلّماً متكئاً علي الشجرة من أجل جلب الشال الذي طار منها فتقع من فوق السلم وتموت!. تكتشف سلمي حنان ترك وحدتها القاسية، بل أنها تشعر بالوحشة الحقيقية وهي تعيش الي جانب زوج أمها. هذا ناهيك عن أنها كائن انطوائي، تفضل العيش بمفردها، وتحاول قدر الامكان الابتعاد عن الآخرين، ولكنها في ظل هذه الظروف تصلها رسائل وصور وأشرطة كاسيت للمطرب محمد منيرمن أناس مجهولين تذكرها بشبرا، الحي الشعبي الذي عاشت فيه سنوات طوال، كما تعيدها الصور الي ذكريات الطفولة، وسنوات الدراسة، والأحلام الصغيرة التي كانت تكبر في مخيلتها، بحيث أصبحت هذه الذكريات هي أحلي أوقاتها فعلاً، لذلك فهي تفضل الانشداد الي هذا المكان الشعبي، والالتصاق به بحميمية عالية بدلاً من الهرب الي الخارج. لقد أفلحت المخرجة في اقتناص اللحظات الجميلة فعلاً من الأوقات الماضية مثل مشاركة الأطفال في لعب كرة القدم في أثناء عبور الطريق، أو الرقص علي أنغام أغنية لمحمد منير، أو لقاء الصديقات الثلاث غير مرة أو وهن يتناولن أكلة الكشري الشعبية. مهما تكن القصة محبوكة وجيدة الا أنها تظل بحاجة الي رؤية السينارسيت ولمساته، وفي هذا الفيلم أبدعت السينارسيت وسام سليمان اذ قدمت حواراً متقناً علي الصعيد الفني والدلالي الذي يتناسب مع كل شخصية من شخصيات الفيلم التي كانت تتحدث من دون ترهل أو زيادات فضفاضة بحيث بدا الانسجام واضحاً بين رؤية المخرجة وكاتبة السيناريو. أما دور المخرجة هالة خليل فقد أثبتت قدرتها في التعاطي مع فريق التمثيل وادارته بشكل جيد بحيث أنها استنطقت فعلاً الامكانات الفنية المخبأة للفنانة حنان ترك، كما أنها هيأت الفرص المناسبة التي أتاحت للمبدعة التونسية هند صبري التي تتحدث اللهجة المصرية باتقان ملفت للانتباه وكأنها بنت شبراوية أو سليلة حي المعادي أو أي حي مصري فقير أو مترف! كما أدت منة شلبي دورها ببراعة أسوة بأدوارها التي لفتت عناية النقاد وانتباه المشاهدين. كما تجدر الاشارة بموهبة خالد صالح وأمير كرارة. لو ركزنا النظر في بنية الحدث لرأينا أنها تعتمد علي منحي المفارقة الفنية، فالرسائل غير الموقعة كانت تصل من شخص مجهول، لكنه عليم بكل شيء، بدليل أنه يقدّم لسلمي صوراً وذكريات عزيزة علي قلبها، وذكريات تستنطق حياتها الأولي في حي شبرا، الأمر الذي ينبهها الي خواء حياتها في حي المعادي الذي لا تشعر فيه بنبض الحياة، كما تكتشف أنها لا تعرف زوج أمها علي الرغم من أنها عاشت معه قرابة خمس عشرة سنة في منزل واحد. كانت الرسائل تذكرها بصديقتها ضحي منة شلبي كيف كانت، وكيف أصبحت بعد أن ارتبطت بجارها، ويسرية الزوجة والأم التي فقدت أنوثتها تنوء بحَملها الجديد. ثم نكتشف، وهنا عنصر المفارقة الفنية، أن صاحب الرسائل كان زوج أمها، وليس انساناً آخر لأنه يعتبرها ابنته التي قد تعوضه عن ابنه الحقيقي الذي مات. بعض النقاد يرون أن شخصية يسرية كانت مرسومة بطريقة واقعية معقولة، بينما يرون في شخصية زوج الأم سامي العدل لا قيمة لها سوي أنها محركة للحدث الدرامي بشكل آلي عابر لا يترك أثراً درامياً واضحاً في سياق الفيلم. البعض من النقاد تحامل علي شخصية سلمي أيضاً بالرغم من تألقها، اذ رأوا فيها شخصية ضبابية أحياناً علي اعتبار أن الرسائل أو المصادفات الغريبة لا تصنع فيلماً منطقياً ناجحاً. أنا شخصياً أضع جزءاً من اللوم علي المونتيرة منار حسني اذ كان بامكانها بعد اقناع المخرجة طبعاً، أن تنقذ الفيلم من الملل الذي اكتنف الدقائق الخمس عشرة الأولي للتخلص من هذا البطئ القاتل الذي لا يصعّده حدث معين. كما كان بالامكان تجاوز بعض المشاهد الفائضة عن الحاجة مثل الحوار بين سلمي وزوج أمها في المقبرة والذي كان يدور عن ابنه الذي وافاه الأجل، وعن الرسائل التي كان يبعثها لها. بقي أو نشير الي نقطة شديدة الأهمية مرتبطة ببنية القصة نفسها، وهي أن الفيلم مبني علي سوء الفهم، فأغلب الشخصيات تفهم بعضها البعض خطأً، فسلمي بطلة الفيلم تفهم زوج الأم خطأً. والمدرس يعتقد أنه أي سلمي قد تركت حي المعادي وجاءت اليه من أجل أن تستعيده فيعتذر لها بطريقة غريبة توحي وكأنها عادت لهذه الأسباب التي يطرحها، كما تعتقد سلمي أن هناك علاقة عاطفية ما بين الجار الشاب وبين أمها التي وافاتها المنية عندما يخبرها بأن الباروكة والزوج يعودان لأمها. هذه البناء الهندسي القائم علي المفارقة وسوء الفهم أثري الفيلم، وعمّق من رصده لمخيلة الشخصيات وطريقة تفكيرها، لكن الفيلم برمته لم ينجُ من بعض الهنّات والعثرات البسيطة مثل الاستعادة الذهنية ولقاء البطلة سلمي بالأب وهو لقاء لا حاجة فنية له فضلاً عن لقائها بزوج أمها الذي اشرنا اليه قبل قليل. كذلك العلاقة العاطفية بين زوج الأم سامي العدل وضحي منة شلبي التي ظل يلفها الغموض بالرغم من العناق الحار، والقبلة التي أوشكت أن تنحو منحيً أكثر شهوانية لولا سقوط القلادة علي الأرض المرمرية والتي أحدثت صوتاً انتشلهما من الذهول قسراً. بالرغم من كل الملاحظات التي أشرنا اليها سابقاً الا أن هالة خليل استطاعت أن تقدم بحق فيلماً مختلفاً عن النمط السائد، كما أنها قدمت لنا كاتبة سيناريو تعد بالكثير، هذا فضلاً عن تفجيرها لامكانيات الممثلين الذين يشقون طريق حياتهم الفنية بثقة كبيرة. * كاتب وناقد من العراق يقيم في هولندا الأيام البحرينية في 3 أغسطس 2004 |
برتولوتشي: لقاء |
هالة خليل.. جوسلين صعب وايناس الدغيدي..
عدنان حسين أحمد * |
|