يعتبر يوم الثامن والعشرين من شهر ديسمبر/كانون الأول لعام 1895 بداية ميلاد السينما في العالم، وهذا التاريخ لا يحدد بداية اختراع السينما، بل هو في الحقيقة تاريخ أول عرض سينمائي على الجمهور في العالم نظمه مخترعا السينما الأخوان لوميير في “جراند كافيه” (المقهى الكبير) في باريس. وقد تضمن العرض الأول مجموعة أفلام قصيرة وصامتة تتراوح أطوالها ما بين دقيقة ونصف ودقيقتين. وضمن هذا العرض كان ثمة فيلم بعنوان “وصول القطار إلى المحطة” وهو فيلم وثائقي يعرض لقطة واحدة هي صورة الجمهور الواقف على رصيف القطار في انتظار وصول القطار. وفي حين ظل الناس الذين تراقبهم الكاميرا ينتظرون وصول القطار بهدوء، فإن جمهور مشاهدي الفيلم قد أصابهم الهلع لحظة اقتراب القطار من مقدمة الشاشة، لاعتقادهم بأنه مندفع نحوهم. فقد كانت هذه هي المرة الأولى التي يشاهد فيها الناس الصورة المتحركة، أي صورة الواقع بحركته على الشاشة فاختلط عليهم الأمر. بعد ذلك بثمانية أعوام تقريباً حصل تطور إضافي في فن السينما. فإذا كان العرض الأول لأفلام الأخوة لوميير يتضمن، باستثناء فيلم واحد روائي، مجموعة أفلام وثائقية كلها، أي واقعية، فإن المرحلة الثانية عرفت بداية أفلام الخيال العلمي عن طريق المخرج ميليس، وهو سابقاً، كان يدير مسرحاً يعرض فيه الألعاب السحرية، واكتشف بعد أن صار هاوياً للسينما، أن في إمكانه أن يستغلها في عروضه السحرية. تم هذا الاكتشاف بطريق الصدفة، حيث كان أحد المصورين يصور في أحد الشوارع، وفي لحظة كان يمر فيها حصان أمام العدسة تعطلت الكاميرا، وبعد أن أصلحها تابع التصوير دون أن يغير من مكان الكاميرا، فكان أول ما صوره مرور شخص أمام العدسة، عندما شاهد الفيلم بعد ذلك بدا له كما لو أن الحصان تحول فجأة إلى إنسان (أو العكس، إن لم تخن الذاكرة) وهكذا بدأ ميليس في تطويع تقنية السينما لعروضه، وفي النتيجة أخرج مجموعة أفلام من أشهرها “رحلة إلى القمر”، أدهش فيها جمهور المشاهدين، ولكن من دون أن يصيبهم بالهلع، وذلك على الرغم من أن بعض أفلامه القصيرة كانت تبين رؤوساً تنفصل عن أجسادها. بعد ذلك بأعوام ظهر في أمريكا مخرج جديد هو دافيد يورك غريفت، وإليه يعود الفضل في اكتشاف وتطوير العديد من وسائل التعبير السينمائية، التي جعلت من السينما فناً. اكتشف غريفت المونتاج الموازي، أي إمكانية عرض حدثين أو أكثر في نفس الوقت، طور استخدام اللقطة الكبيرة إلى فن تعبيري، استخدم التصوير عكس الضوء، حوّل الأدب إلى سينما، وصنع أول الأفلام التاريخية الطويلة والتي تعتمد على الإنتاج الضخم، ومن أهم أفلامه “مولد أمه” و”التعصب” عام 1916. وتقدم تجربة غريفت في استخدام اللقطة القريبة بعض الأمثلة الطريفة من تاريخ السينما، ومن هذه الأمثلة حادثة مشاهدة بعض المتفرجين لأول مرة للقطة قريبة لوجه الممثل في أحد أفلام غريفت، حيث اعتادوا قبل ذلك على الأفلام التي تعرض الجسم كاملاً. وذكرت أن الجمهور هاج وماج، واعتبر الناس أن في الأمر عملية خداع وطالبوا صالة السينما بعدم التحايل عليهم وعرض الجسم كاملاً. وتتزامن هذه الحادثة مع حادثة مشابهة اعترض فيها منتج الفيلم على اللقطة الكبيرة وصرخ في وجه المخرج غريفت قائلا “إنني أدفع للممثل أجره كاملاً وأريده كاملاً على الشاشة”. تطورت المرحلة التالية من السينما على يد المخرجين السوفييت، ومنهم كوليشوف وأيزنشتاين، وفي هذه المرحلة تم تطوير فن المونتاج باعتباره أولاً وسيلة بصرية للسرد، وثانياً وسيلة بصرية لتوليد المفاهيم. وحتى الآن لا تزال تجربة كوليشوف تدرس في معاهد السينما، كما هو الحال مع أفلام وأفكار أيزنشتاين وأكثرها شهرة “المدرعة بوتيومكين” (عام 1924) والذي لا يزال حتى الآن يعتبر واحداً من أفضل عشرة أفلام في تاريخ السينما. ولا تخلو تجربة كوليشوف من طرافة، فهي تتضمن تصويراً للقطة قريبة لوجه أحد الممثلين الخالي من أي تعبير، تم تقطيعها إلى ثلاثة أجزاء وتم لصق أحد الأجزاء بعد لقطة لصحن طعام وجزء آخر بعد لقطة لجثمان وثالث بعد لقطة لطفل جميل، وقد أثبتت التجربة أن هذا الوجه الجامد الخالي من التعبير يكتسب تعبيراً خاصاً في علاقته مع كل لقطة جاء بعدها، فمرة يعبر عن الجوع، ومرة عن الحزن، وثالثة عن الفرح، بحيث أن المشاهدين أعجبوا كثيراً ببراعة هذا الممثل الذي يستطيع أن يؤدي انفعالات متباينة في الوقت نفسه. كانت السينما حتى نهاية العشرينات صامتة. ونظراً لغياب الحوار المسموع فقد طور السينمائيون وسائل مذهلة للتعبير بواسطة الحركة وبواسطة الوسائل المونتاجية البصرية. وفي ما بعد صارت السينما الصامتة تسمى “الصامت العظيم” مقارنة لها مع السينما الناطقة. ومن الطرائف المرتبطة بظهور السينما الناطقة أنها تسببت في فضح الكثير من نجوم السينما الصامتة الذين كانوا يظهرون في أدوار البطولة، لأن أصواتهم كانت إما ضعيفة أنثوية أو منفرة، مما جعلهم يختفون عن الأنظار. في سنواتها الأولى، أي في الثلاثينات، أدت السينما الناطقة إلى تراجع فن السينما، حيث بدأ المخرجون يعتمدون كلياً على الحوار (كما في المسلسلات التلفزيونية الحالية بحيث تجاهلوا الحلول البصرية التي كان يلجأ إليها مخرجو السينما الصامتة) وصار النقاد يعتبرون أن السينما صارت تثرثر. كما أن العديد من كبار المخرجين وفناني السينما الصامتة رفضوا الدخول في السينما الناطقة واستنكروها، ومنهم السينمائي العظيم شارلي شابلين، الذي انتظر أكثر من عقد من الزمن قبل أن يصنع فيلمه الناطق الأول، وهو عندما استخدم الكلمات المنطوقة لأول مرة استخدمها ضمن أغنية هزلية جمع فيها كلمات من خليط من اللغات لا تشكل جملاً مفهومة. كانت المرحلة اللاحقة في تطور السينما مرحلة دخول اللون، بعد أن كانت الأفلام تصنع بالأبيض والأسود، وفي هذه الفترة، وتحديداً في نهاية الثلاثينات، أخرج مخرج شاب هو أورسن ويلز فيلمه العظيم “المواطن كين” والذي اعتبر ثورة في مجال السينما وكان الاكتشاف الأكبر في هذا الفيلم، ومن ضمن اكتشافات كثيرة على صعيد الصوت والصورة وطريقة السرد، اكتشاف ما يسمى بعمق المجال، هذا الاكتشاف، الذي أدى من ضمن ما أدى إليه، إلى زيادة واقعية الصورة. ولكن، على الرغم من الثورة التي أحدثها فيلم “المواطن كين” في مجال فن السينما، فإن معظم التعليقات التي كانت تدور حول الفيلم ترتبط بجملة “برعم الوردة” التي قالها بطل الفيلم وظل معناها غامضا حتى توضح في المشهد الأخير من الفيلم. بفضل تطور تقنيات السينما المذهل والمتسارع، فإن المزيد من الاختراعات التقنية، كان يؤدي إلى المزيد من الاكتشافات في مجال التعبير، مما يؤكد اعتماد فن السينما على التقنيات، غير أن الفرق بين استخدام التقنيات في النصف الأول من القرن وبين استخدامها في النصف الثاني، يكمن في غلبة الإبداع على التقنية في النصف الأول، في حين أن التقنية بدأت تهيمن على الإبداع في النصف الثاني وبخاصة في السنوات الأخيرة. وهذه الطرائف التي رافقت تطور فن وتقنيات ووسائل التعبير السينمائية تشير إلى صعوبة تقبل الجديد والإبداع في البداية. وتدل على أن تطورات وسائل التعبير السينمائية لم تمر من دون عوائق. مع ذلك، إن كل الاكتشافات الحديثة في مجال السينما تسهم بدورها في إضفاء مزيد من الواقعية على الصورة السينمائية. الخليج الإماراتية في 2 أغسطس 2004 |
برتولوتشي: لقاء |
ضوء ... محطات ومفارقات في تاريخ السينما عدنان مدانات |
|